وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله؛ فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب.
أما اليوم فالارتجال نادر بل إذا حققت لم تجد لحقيقته أثرا ؛ لأن الخطيب العصري لا يستطيع التكلم بما لا يعرف، فإذا كان عارفا موضوعه فالتهيئة حاصلة فعلا بما وعاه ذهنه بالدرس والمطالعة والاختبار.
قد يراد بالارتجال تركيب الألفاظ وتنسيق الجمل وإفراغ المعاني في قالب من التعبير يوافق مقتضى الحال، وهذا أيضا صعب على خطيب اليوم؛ لأننا نتكلم عادة غير اللغة الفصحى التي نكتبها فنضطر بحكم الأمر إلى إعمال الفكرة عند الخطابة وإجهاد الذاكرة ولو قليلا، وتوزيع قوة العقل بين النظر في الموضوع والعناية بالألفاظ في وقت واحد، وهذا كاف لإضاعة رونق الخطاب والتقصير في إجادة الإلقاء؛ قال الدكتور تولوز وهو من علماء النفس والأخلاق: إن الارتجال آفة الخطابة؛ لأنه يلقي المعنى على عواهنه دون أن ينضج بالتفكير، فكيف إذا أضفت إلى ذلك الركاكة التي مني بها أكثر الناطقين بالضاد للسبب الذي ذكرناه.
ومن قرأ مشاهير الخطب التي قيلت ارتجالا وحفظت بالاختزال، دهش لما فيها من الضعف والتناقض، ولم تخف عليه عيوب الإنشاء عند قراءتها على الرغم من وميض البلاغة الظاهر من خلال السطور.
أما إذا كان المقصود بالارتجال جملة قوية تأتي عرضا في الخطاب ردا على اعتراض، أو إسهابا في البيان أو شرحا لسؤال ففي وسع كل خطيب، ولكن أن تقال خطبة كاملة من غير استعداد فلا يقصر الخطيب في مادته أو بيانه فهذا ما لا أظنه يتاح لكثيرين.
انظر إلى خطباء الأقدمين فإنهم كانوا يهيئون خطبهم قبل إلقائها، وهذا ما حفظها لنا؛ لأن الاختزال لم يكن معروفا لذلك العهد، وقد كان شيشرون يهذب خطبه ويتمرن عليها قبل أن يلقيها، وكان كانتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن يكون قد ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة، وهذا بوسويه كان يكتب خطبه ومسوداتها لا تزال محفوظة، ولما ظهرت الثورة الفرنسية اضطر القوم إلى الارتجال في كل ناد وموقف، ولكن ذلك لم يمنع ميرابو أن يكتب أكثر خطبه قبل إلقائها وكذلك روبسبير.
وانظر إلى خطباء اليوم فلا تجد فيهم من لا يعترف بالاستعداد قبل التكلم كالمحامي لابوري وهنري روبير وفيفياني وجورس وغيرهم، ومما قاله هنري روبير: «أنا لا أعمل والقلم في يدي، ولكني لا أنقطع عن التفكير أينما وجدت، ولا يزال دماغي في عمل مستديم، فتتوارد الجمل على خاطري وأرددها في باطني.» ولله در ابن المعتز حيث قال:
والفكر قبل القول يؤمن زيغه
شتان بين روية وبديه
وإذا اضطر أحد هؤلاء إلى الكلام عن غير استعداد كما كان يحدث في ندوة القضاء أو النيابة فللاعتراض أو دفع حجة أو إقامة برهان أو شرح حادث، وهذا سهل لأنه لا يخرج عن موضوع ألفه ودرسه وعالجه غير مرة بالقلم واللسان.
Unknown page