Khitab Wa Taghayyur Ijtimaci
الخطاب والتغير الاجتماعي
Genres
وأما التفسير الثاني، أي من خلال الصراع على الهيمنة، فيوحي ضمنا بوجود نموذج للممارسة الخطابية يقوم على الهيمنة، أي وجود نظرة للممارسة الخطابية باعتبارها قوة رابطة؛ إذ نشهد تمزيق التشكيلات القائمة لأنماط الخطاب وعناصرها، وإعادة الترابط الذي يكون تشكيلات جديدة تبرز التداخل الخطابي والتناص.
وأما التفسير الثالث، من حيث التفتيت، فيتفق مع ما يمكن أن يطلق عليه اسم «الفسيفساء» أو ربما أطلقنا عليه اسم النموذج «التفاوضي». وكل من هاتين الصورتين (المجازيتين) تحملان معنى مضمرا وهو تفتيت الأعراف، ولكن صورة «الفسيفساء» تؤكد وجود مساحة ناجمة تسمح بالنشاط الخلاق، وبالجمع بين عناصر الخطاب بطرائق تتجدد باستمرار لتحقيق نتائج مؤقتة، وكذلك بالمحاكاة، في حين أن صورة «النموذج التفاوضي» تؤكد أنه حيثما يصبح من المحال قبول الأعراف على النحو الذي تقدم به، تنشأ الحاجة إلى تفاوض المشاركين في التفاعل (بصورة مضمرة في جميع الأحوال تقريبا) حول عناصر الخطاب التي ينبغي الانتفاع بها. وصورة التفاوض المذكورة هي القابلة للتطبيق على نطاق واسع، إذ إن الممارسات الخطابية التي تقبل التفاوض بهذا المعنى، لا تتمتع جميعها بالخصائص التي توحي بها صورة «الفسيفساء»، ولكن الممارسة الخطابية التي تتمتع بهذه الخصائص (ومن المحتمل أن أوضح أن الأمثلة توجد في الإعلان) لا بد أن تقبل التفاوض، إذ لا بد من تحقيق اتفاق مضمر حول عناصر الخطاب القابلة للترابط بين منتجي النصوص ومفسريها حتى ينجح تأثير الفسيفساء.
كان ولا يزال وضع نموذج ممارسة خطابية يقوم على الهيمنة، خصوصا في مقابل النموذج الشفري السائد، من أهداف هذا الكتاب الرئيسية، إذ يبدو أن نموذج الهيمنة أقرب النماذج منطقيا إلى نظام الخطاب المجتمعي المعاصر بصورة شاملة، ولكنه ليس مجرد بديل مفضل على النموذجين الآخرين. فالواقع أن كل نموذج يبين جانبا مهما من جوانب نظام الخطاب المعاصر، وكل نموذج قادر، فيما يبدو، على النجاح النسبي في بعض مجالات الممارسة الخطابية، وأقل قدرة على النجاح في غيرها. ومن ثم ينبغي للبحوث في المستقبل ألا تختار نموذجا وترفض غيره، بل أن تركز جهودها على هذه المسألة المفيدة وهي تحديد النماذج القادرة على إيضاح بعض المجالات وتحديد المجالات المعنية، إلى جانب التركيز على ضروب التوتر بين النماذج، من دون استبعاد أي من اتجاهات التفسير الثلاثة المذكورة للتغير الخطابي الراهن.
الفصل الثامن
تحليل الخطاب عمليا
سوف يناقش هذا الفصل الجوانب العملية لتحليل الخطاب، وينبغي ألا ينظر إلى ما أقوله هنا باعتباره برنامجا جاهزا للتطبيق؛ إذ لا توجد إجراءات ثابتة للقيام بتحليل الخطاب، فمداخل الناس إليه تختلف باختلاف الطبيعة الخاصة لكل مشروع، وكذلك طبقا لنظرتهم الخاصة إلى الخطاب . ومن ثم فينبغي اعتبار الملاحظات التالية خطوطا توجيهية عامة، تحدد العناصر والاعتبارات الرئيسية التي تنطبق على تحليلات الخطاب استنادا إلى الموقف النظري الذي عرضته عاليه. وكنت أحيانا ما أكتب مفترضا أن القارئ يوشك أن ينهض بمشروع بحثي كبير للتحقق من ظواهر التغير الاجتماعي والخطابي، ولكنه ما دام من المحتمل أن يستخدم عدد كبير من القراء تحليل الخطاب في أغراض أكثر تواضعا، فأرجو ألا تثبط همتهم هذه الافتراضات «الهائلة»! وقد وضعت لنفسي ثلاثة عناوين رئيسية: البيانات، والتحليل، والنتائج. وتركيز هذا الكتاب بطبيعة الحال ينصب على التحليل، ولكن هذا الفصل سوف يتيح الفرصة للنظر في جوانب مهمة أخرى من تحليل الخطاب عمليا، وقد يود القراء أن يقارنوا هذه الخطوط التوجيهية بمثيلاتها في كتاب بوتر ووذريل (1987م) أو (فيما يتعلق بالتحليل فقط) في كتاب فاولر وآخرين (1979م). (1) البيانات: تحديد المشروع
ينبغي أن يكون تحليل الخطاب بصورته المثالية عملا بينيا، أي مشتركا بين عدة تخصصات علمية، بناء على مفهوم الخطاب الذي أدعو إليه، وهو الذي يبدي اهتماما بخصائص النصوص، وإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها، وبالعمليات الاجتماعية المعرفية لإنتاج النصوص وتفسيرها، والممارسة الاجتماعية في مختلف المؤسسات، والعلاقة بين الممارسة الاجتماعية وعلاقات السلطة، ومشروعات الهيمنة على المستوى المجتمعي. وتتداخل جوانب الخطاب المذكورة مع مشاغل علوم اجتماعية وإنسانية متنوعة، من بينها علم اللغة، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، والتاريخ والعلوم السياسية.
وما تختص به ممارسة خطابية معينة يعتمد على الممارسة الاجتماعية التي تمثل الممارسة الخطابية وجها من وجوهها، ومن ثم فإذا أردنا وضع تعريف للمشروعات البحثية يمثل أقرب ما يقضي به المنطق قلنا إنه يتعلق أولا بالأسئلة الخاصة بأشكال معينة للممارسة الاجتماعية، وعلاقاتها بالبناء الاجتماعي، نظرا لما أبديته من تركيز على جوانب محددة من التغير الاجتماعي أو الثقافي. ويعني هذا أن التخصصات التي تعالج هذه المسائل - علم الاجتماع والعلوم السياسية والتاريخ - هي التي ينبغي أن نقصدها في المقام الأول عند تعريف المشروعات البحثية. وأفضل نظرة إلى تحليل الخطاب ينبغي أن تقوم على اعتباره منهجا لإجراء البحوث في مسائل وضع تعريفها خارجه، وسوف أضرب مثالا على ذلك بعد برهة، ولكن هذه طريقة تعتمد اعتمادا بالغا على النظر من «القمة إلى القاعدة» إليه، ففي حالات كثيرة قد تستطيع فرق من الباحثين في تخصصات مشتركة أن تعمل مثلا مع العاملين في مجال التعليم أو الصحة، في البحوث في القضايا والمشكلات التي يواجهونها أثناء التغيير. والحق أنه من الممكن الاشتغال بإجراء «بحوث مشتركة»، بحيث يشترك الأفراد أو الجماعات الخاضعة للبحث في تصميم خطط البحث وتنفيذها وكتابة نتائجها واستعمالها (انظر إيفانيتش وسيمسون، تحت الطبع). (2) «الكوربوس» (مجموعة النصوص)
ويعتبر منظور المباحث المتخصصة، ومنظور من تجري عليهم للبحوث، منظورا مهما أيضا في اختيار البيانات، وبناء «كوربوس» من عينات الخطاب، وفي تحديد أي بيانات تكميلية ينبغي جمعها واستعمالها. وتتفاوت طبيعة البيانات المطلوبة وفقا لأسئلة المشروع وأسئلة البحث، ولكن علينا أن نضع نصب أعيننا بعض المبادئ العامة. للمرء أن يصدر قرارا معقولا بشأن مضمون الكوربوس وبنائه على ضوء المعلومات الكافية عن «الأرشيف» (ويستخدم هذا المصطلح بطريقة توسع من معناه بحيث يتجاوز الدلالة التاريخية، أي بحيث يشير إلى مجموع الممارسة الخطابية، سواء ما سبق تسجيله في الماضي أو ما هو جار في الوقت الراهن، ما دام يدخل في إطار المشروع البحثي). وهذه مسألة عملية إلى حد ما، إذ تختص بمعرفة ما هو متاح، وطريق الوصول إليه، ولكنه يعتبر من زاوية أخرى مسألة تكوين صورة ذهنية لنظام الخطاب في المؤسسة أو المجال الذي يبحثه المرء، وكذلك عمليات التغيير التي يمر بها، باعتبار ذلك تمهيدا لاتخاذ قرار بشأن المكان الذي ينبغي أن تجمع فيه العينات التي تشكل الكوربوس. وقد يؤدي العمل في تشكيل الكوربوس، بطبيعة الحال، إلى تعديل الخريطة الذهنية المبدئية. وينبغي لمحلل الخطاب أن يعتمد على العاملين في التخصصات المرتبطة بعمله، والعاملين داخل موقع البحوث، لمساعدته في اتخاذ القرارات بشأن العينات التي تمثل ممارسة معينة خير تمثيل، والبت فيما إذا كان الكوربوس يتجلى فيه بالدرجة الكافية تنوع الممارسات والتغير فيها في الحالات المختلفة، وكذلك الممارسة المعيارية والتجديدية؛ وإذا ما كان الكوربوس يتضمن حالات محورية ولحظات أزمة (وهاتان الفكرتان مشروحتان أدناه). وتنشأ مشكلات خاصة في إعداد الكوربوس من مادة تبين عمليات التغيير، لأن المرء يحتاج في هذه الحالة - بوضوح - إلى إدراج مساحات زمنية معقولة في البيانات. (3) استكمال الكوربوس
توجد طرائق مختلفة لاستكمال الكوربوس ببيانات إضافية، إذ يمكن للمرء على سبيل المثال أن يحصل على أحكام بشأن بعض جوانب العينات في الكوربوس من «لجان» تتكون من أشخاص يرتبطون بروابط مهمة من نوع ما بالممارسة الاجتماعية قيد الفحص، فإذا كانت الدراسة تتعلق بممارسات قاعة الدرس وخطاب قاعة الدرس، فيمكن أن تتكون اللجان من معلمين وتلاميذ وآباء وأفراد جماعات الأكثرية والأقليات المختلفة، ورجال الإدارة التعليمية (ولمعرفة المزيد عن هذه اللجان انظر جومبيرز، 1982م). ومن الطرائق المستعملة على نطاق واسع لاستكمال الكوربوس اللجوء إلى المقابلات الشخصية، إذ يمكن للمرء أن يجري مقابلات مع المشاركين في عينات الكوربوس، لا من أجل الحصول على تفسيراتهم لهذه العينات، بل أيضا باعتبار ذلك فرصة تتاح للباحث حتى ينظر في بعض القضايا التي تتجاوز حدود العينات ذاتها، كأن يحاول مثلا أن يكتشف إن كان وعي أحد الأشخاص بالصبغة الأيديولوجية لأحد الأعراف الخطابية يزيد في بعض المواقف عن مستواه في مواقف أخرى. أو يمكن للمرء في البحوث المشتركة أن يطلع اطلاعا أوثق، وأكثر تحررا من الطابع الرسمي، على منظور الخاضعين للبحث. والذي علينا أن نؤكده أن المقابلات الشخصية واللجان وما إليها بسبيل تمثل عينات أخرى من الخطاب، وأنها تستكمل الكوربوس - من زاوية معينة - بأن تضاف إليه وحسب. وينبغي ألا ننظر إلى الكوربوس باعتباره قد اتخذ شكله المستقر والنهائي قبل بداية التحليل، بل يجب أن نعتبر أنه يقبل الزيادة والاستكمال المستمر استجابة للأسئلة التي تنشأ أثناء التحليل.
Unknown page