ونظرت إلى الساعة، كانت الحادية عشرة تماما، سبع دقائق مضت منذ سمعت ذلك الصوت الغريب، لكنها بدت لي كسبع ساعات أو أيام أو سنين، وتلفت حولي في دهشة، كان الصوت قد ضاع من أذني وضاعت معه الذبذبة المستمرة على طبلة الأذن، وكأنما كانت فوق أذني طبقة سميكة كالسدادة سقطت فجأة، فأصبحت أسمع الأصوات لأول مرة في حياتي، واستطعت أن أسمع صوت العصفور الأخضر وهو يغرد، كنت أراه كل يوم بين فروع الشجرة المجاورة لنافذتي، وكنت أعجب كيف يقف على الفرع كل هذه الساعات دون أن يغرد أو أن يكون له صوت العصافير، لم أكن سمعت من قبل صوت العصافير لكني كنت أعرف أن لها صوتا، وأنها تغرد فوق الشجر.
كنت أظنه عصفورا أخرس، ولم أكن أعلم أنني لا أسمع.
وانطلقت أجري في الشارع كطفلة صغيرة، اكتشفت لأول مرة أن لها أذنا تسمع، ولها عين ترى، ولها ساقاها يحملان جسدها، ويستطيعان أن يجريا بها إلى أي مكان.
ولم أكن أعرف أي مكان إلا عيادتك، كنت قد جئت إليك من قبل مرة، هل تذكرين؟ ذلك اليوم الذي أخذتك معي لتفحصي أبي، كنت أرى وجهك من الجانب وأنت تضعين السماعة على صدره وظهره، ولمحت العرق الطويل الذي نفر في عنقك، وحينما نظرت في عينيك بعد الفحص لم تكن بي حاجة إلى نغبشتك الكثيرة فوق الروشتة، كنت قد علمت أنه سيذوب شيئا فشيئا في الألم الطويل، وأنه سيسلم جسده جزءا جزءا للموت البطيء، سنة أو سنتان أو ثلاث قبل أن ينسحق جسده الكبير تماما وتنطحن عظامه العريضة المتينة.
كنت أعلم كل شيء، فقد رسمت عيناك أمامي شكل حياتي، ورسم إصبعك فوق إصبعي طريق نجاتي، ربما تنكرين كالآخرين لكني كنت أشجع منك، فهو كان أبي أنا، وليس أباك أنت، وكنت أنا قطعة منه، قطعة من جسده تذوب معه في الألم شيئا فشيئا، وتسلم معه للموت جسدها جزءا جزءا، وحينما كنت أضغط بإصبعي على العرق كنت قد عرفت أنني أنقذ نفسي، وأنني أشق لجسدي طريق حياته، ولم أكن وحدي ... كنت أعلم أنك معي وكنت أرى إصبعك فوق إصبعي يضغط على قناة مولدي ويضغط، ويشد منها جسدي عضوا عضوا.
ورأيت عيادتك مغلقة ومظلمة فأخذت أجري في الشوارع كأنما بغير هدف، لكني كنت أبحث عن بيتك، كنت أبحث عنك لأقول لك: إنني أديت المهمة، إنني كنت أداتك الدقيقة، لم أكن إلا أداة دقيقة لكني نجحت، كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكني لم أعرف الطريق إلى بيتك، ووجدتني أجري إلى بيتي، وأندفع إلى حجرة أبي، كنت أظن أنه سيمسك شهادة مولدي بأصابعه الكبيرة الطويلة، وأنه سينظر في عيني بذلك النور الأزرق - المترقرق تعلوه القطرة الشفافة ومن فوقها اللمعة، لكن حجرته كانت خالية وسريره كان خاليا، وعلى الشماعة الصغيرة خلف الباب رأيت معطفه، كان معطفه خاليا، فدسست نفسي داخله، وملأت أنفي رائحة أبي فدفنت رأسي في صدره، وأمسكت ذراعيه ورفعتهما ليطوقاني، لكن ذراعيه سقطتا إلى جاوري مرتخيتين فضفاضتين كذراعي المعطف الخاوي. •••
لم أكن أعرف أن الناس تولد في الألم، كنت أظن أن الناس تولد دون أن تشعر بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الذي يولد بغير ألم لا يولد، وأنه يظل كتلة لحم تنبض، كجنين في بطن أمه، يتحرك بإرادة أخرى غير إرادته، كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهوام، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الألم.
ولأول مرة أتحرك فوق إرادتي، كانت إرادة وليدة ضعيفة كطفل، لكنها كانت تحرك جسدي الطويل الفارغ، وحينما وصلت إلى الجريدة في ذلك اليوم لم أبتسم لأحد، كانت الابتسامة القديمة لا إرادية، تجعل شفتي تنفرجان كلما قابلت أي إنسان أو أي أحد، ربما لا يكون إلا قطة تموء، أو كلبا يقضم عظمة، فأرا صغيرا، أو سحلية تجري، لكني كنت أبتسم، لم يكن للابتسامة معنى معين، لكنها كانت دائما هناك على وجهي كجزء من ملامحي، كأنفي أو فمي.
وجلست إلى مكتبي لأكتب، لكني لم أكتب شيئا، كنت أكتب كل يوم عمودا، أضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة وراء الجملة، والسطر تحت السطر، فإذا بالمساحة البيضاء تصبح عمودا طويلا، لم أكن أعرف تماما ماذا أريد أن أقول للناس، فلم يكن عندي شيء أريد أن أقوله، وكان الناس يقرءون العمود كل يوم أو لا يقرءونه، لم أكن أعرف، فأنا لم أكن أكتب ليقرأ الناس، لم يكن هذا هو شرط العمل، كان الشرط الوحيد أن أملأ المساحة المحددة لي بالكلمات المطبوعة.
ولم أستطع أن أكتب، كان رأسي ساخنا، وظل الورق أمامي أبيض، والقلم في يدي لا يتحرك، ورفعت رأسي من فوق الورق، كنت أجلس إلى أحد المكاتب في صالة كبيرة، أرضها بلاط على شكل مربعات، لأول مرة أرى هذه المربعات البيضاء الكبيرة، كانت محددة بشكل واضح كأنها بارزة فوق سطح الأرض، ورأيت فوق مربع منها في الركن المقابل لي حذاء رجل، كان الحذاء صغيرا مخططا بخطوط سوداء وبيضاء، تصورت لأول وهلة أن أحدا خلع حذاءه ونسيه تحت مكتبه، لكني رأيت بعد لحظة أن الحذاء يهتز، ومن فوقه بنطلون له ساقان منفصلتان، تهتز ساق منهما وهي معلقة في الهواء فوق الساق الأخرى.
Unknown page