Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genres
فسلام أيتها الزهرة وبركات تترى عليك لتحميك مدى الأزمان من قسوة الإنسان. (4) حضري ريفي
قاسيت من سكنى المدينة آلاما ثقالا، وأعواما طوالا، قضيتها بين ضيق صدر وقلق، ووطأة حر وأرق، لا يتسرب النوم إلى أجفاني وقت الهجير من أناشيد باعة حب العزيز ودفوفهم، وأغاني بائعي الحلوى المثلجة وأبواقهم، وصخب الصبيان ولغطهم، فكنت أهرع في الآصال إلى الخلوات أو ضفاف النيل لأستطيع أن أحضر مسألة أو أحرر كلمة.
أردت أن أيمم الخلوات وأتخير منها مقاما طيبا ساكنا هنيئا بين الحقول النضرة والمياه الجارية والظلال الوارفة والهواء الطلق، في بقعة لا أحتاج فيها إلى سفر يلجئني إلى ركوب قطار أو انتظاره، فعثرت بعد البحث والتنقيب على موطن مبارك بشبرا في أطراف حديقة «شيكولاني»، وجدت فيه دارا فيحاء، يزينها حديقة صغيرة غناء، تعانقها الحقول من جوانبها الأربع، وقد خيم عليها السكون، واكتنفتها الدعة، ورفرف فوقها نسيم الصبا، وصفرت حولها الرياح من زعزع ورخاء، وشمأل ونكباء.
كنت ذات يوم جالسا في طنفي الشمالي أروح نفسي بنفحات النسيم العليل، مسرحا ناظري في مزارع البرسيم الواسعة المزرية ببسط الإستبرق الأخضر، وقد انتثرت فيه الأنعام السائمة من ضأن ومعز وبقر وإبل تجلببت بمختلف الثياب، وبجانب البرسيم حقل زرع برا أوشك أن يدرك وقد افترشته شمس الأصيل فزادت لونه العسجدي توهجا، وطفق النسيم يداعب سنابله حتى أمسى كأنه خضم زاخر مالت عليه الشمس وقت غروبها فجعلته كذوب النضار.
تتهافت السيدات وأبناؤهن - وغالبهم من الإفرنج - على هذه الحقول الفتانة والخلوات الجذابة؛ ليمرحوا ويلعبوا ويغنوا متهللين بذاك النعيم العظيم.
قامت على كثب من هذه الحقول المباركة البقية الباقية من حديقة «شيكولاني»، وقد ضرب حولها سور من حديد، وارتفع وسطها كهف بني بذوق سليم، وعلاه كوخ صنع من سوق النخيل بشكل رشيق يأخذ بمجامع القلوب، تزينه شجرة من «البوجنفيليا» الحمراء، وقد احتضنت أعواد الكوخ وكست جوانب الكهف بغدائرها المسترسلة، وارتفعت وراء هذا الغار أشجار عظيمة من «الفيكوس» كانت له بمثابة ستار أخضر يحجب ما خلفه ويزيده رونقا وبهاء، وقامت على يمينه نخل باسقات مالت عراجينها ببسرها الأحمر والأصفر كأنها غادات رشيقات مسبلات شعورهن وبآذانهن أقراط من نضار وياقوت.
ما أجمل الليل في تلك المواطن وما أحيلى بدره! إذ يتجلى في تلك الفجاج المترامية بسناه الناصع، ولألائه اللامع، بشكل يذهب بالأشجان يثير الشعر في القرائح الخامدة، ويؤجج العواطف في القلوب الجامدة.
أجلس في المساء في طنفي لأروح النفس بنسيم عليل يحمل إلي عرف أزهار حديقتي، فينعشني بأريجه العبق، وتشجيني موسيقى الطبيعة، إذ يبدأ الكروان بغنائه الشجي بعد الغروب، ثم يليه عند إقبال الظلام جوق الجندب بصفيره الرنان، وعلى كثب من ذرانا ساقيتان إحداهما خلفنا والأخرى أمامنا تدوران الهزيع الأول من الليل، وقد تباين صوتاهما فكانت إحداهما تحكي أنين «ألفريد دوموسيه» وقد هجرته خليلته، والأخرى تمثل شكوى «ألفريد دوفيني» وقد خانته حليلته.
وعلى رمية سهم من الجهة الغربية تجري الترعة البولاقية وقد نصبت عليها الشواديف، وحينما يأتي دور المناوبة ويغمرها الماء يهرع إليها الضفدع ويغني بصوته الغليظ كما يجأر في الأذكار سوقتنا بحلوقهم بشكل ينفر منه الدين قبل النفوس.
كثيرا ما أسمع في سكون الليل ألحانا تنبعث حولنا ترددها كواعب غربيات بنغمات توقظ ما سكن من أليم الذكرى، وتثير ما كمن من تباريح الهموم؛ فيتبدل سروري نكدا، ويغرورق طرفي بعبرات تحجب ما يراه من محاسن الطبيعة التي كشفها البدر، فأهرول إلى أعماق الحجر هربا من ذاك الصوت الرخيم، وأستغيث بكتاب قيم ينسيني متاعبي وآلامي، ويخمد في صدري ما هاج من عنيف العواطف وتأجج من مضض الذكرى.
Unknown page