Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genres
يعتمد «داروين» في الجواب على هذه الأسئلة على القضايا الثلاثة الآتية: (1)
للموسيقى قوة في التعبير (وهذه الكلمة مستعملة في هذا الموضوع بمعناها العامي المتداول) محدودة؛ إذ لا تستطيع أن تعبر عن الخوف والبغض والذعر والغضب الحاد، ولكنها بالعكس تجيد في التعبير عن الحب وفرح الانتصار والظفر. (2)
يشاهد في فصل الإنتاج أن الحيوانات يسمع لها أصوات وغناء. (3)
يوجد بين الحيوان والإنسان انتقال وراثي.
هذه القضايا الثلاثة من طبيعتها أن تنير علم الجمال، فلو سلمنا أن الحيوانات في زمن النزوان تكون منقادة بعامل الحب والغيرة والتنافس والنصر، وأن السلف الغابر قبل تمدينه استعمل الأصوات والأوزان الموسيقية، وأن خاصية التأثير في الموسيقى الذي ينفذ إلى أعماق القلوب يكون مفهوما عند حد معلوم، فتكون الموسيقى بناء على مبدأ الارتباط الوراثي تجدد عندنا بطريقة مبهمة غير واضحة الانفعالات الشديدة التي كانت في العصور الخالية.
إذن كل ذلك يقرب من الحقيقة الغرض القائل بأن مظاهر أصوات الحيوانات التي سبقتنا لم تكن لغطا يبح الصوت، بل كانت نوعا من التخاطب مرتبطة بعواطف حب الغير وطريقة فتانة خلابة للشعور، إننا لا ننكر أن استعمال هذه الطريقة كان ولم يزل نتيجة مقبولة، ولكن في الحقيقة أننا إذا لم نسلم بأن الإناث لا تحفل بهذه الوسيلة ولا تنقاد للافتتان بالذكور لوجب علينا أن نعترف بأن الأعضاء المتعددة التي يحرزها الذكر غالبا ليصغى إليه لا فائدة فيها مطلقا، وهذا شيء مستحيل.
إن «داروين» يعترف بأن الذكور لا تترك وسيلة لمظاهر الزينة إلا استباحتها، فلا تقتصر على نشر ريشها المفوف المزدان بأبهى النقوش مثل الطير المسمى «باراديزييه» المعروف بطير الجنة والطاووس وغيره، بل يمنحها إلهام التناسل فنا فتغني.
يغرد العندليب بنغمات ملؤها الفن ليظفر بأليفته، ويعمد الطير المسمى «تيترا» - وهو نوع من الديوك البرية ضخم جدا يسكن غابات أوروبا - إلى إشارات أشبه «بالبانطوميم» مختلطة بغناء، إذ يقف على غصن واطئ، وينشر ريش عنقه الطويل، ويخفض جناحيه، وينكت الغصن برجليه، ويردد عينيه بشكل مضحك، ثم يصيح صياحا حادا أصم الصوت متقطعا بطيئا، فيزيد شيئا فشيئا في القوة والتنويع والسرعة حتى تصبح أصواتا تنبو عنها الأسماع وموسيقية في الوقت نفسه، ثم ينتهي بإقفال عينيه كثمل من الملذات.
فالحيوان الذي يظفر بأقرانه المنافسين يصبح مؤسسا لخلف أرقى وأعظم؛ لأنه بانتصاره قد أعدم من الوجود أفرادا دونه في المزايا والصفات، وحيث إن هذا الخلف خاضع لنفس هذا القتال والانتقاء، ثم يتحول بدوره شيئا فشيئا، وبمرور الزمن تنتج أنواع جديدة بهذه الوسيلة.
كم من معان متضمنة في غناء الطير! إذ جميع أمانيه ومستقبله طي أغانيه وصوته، فإن حرم من ورود حياض الهناءة والتمتع بأليفة يسكن إليها فذلك راجع إلى حرمانه من موهبة حسن الصوت وإتقان الغناء! فالإنسان أتى متمما لأعمال الحيوان الموسيقية وغيرها.
Unknown page