إذا أشرق الشعاع وضحكت الكلمات
قطعة الأرض هذه ...
بورك هذا المعول
سقوط الفعل الماضي
شوقي في ذكراه
من أمريكا تحيا مصر
ماذا عن ... المنابر؟ وماذا عن ... الأحزاب؟
لا حياة لأدب بغير تراث
الحصان الذي نفق
لا مسئولية بغير مساءلة
الديمقراطية هي الممارسة
أخبار ... وتعليق
سقط الصنم ... ولم تسقط القاعدة ... وفي أي شيء صدق؟!
مصر هذه ... هي التي ستبقى
أنا أكتب
لا حقد اليوم
إن الكرام بحفظ العهد تمتحن
نحن أقوى من الحياة
العدالة والقانون ... وحرية الكاتب
كن مصريا واعتنق ما شئت
الليل ومحطة القذافي
التعليم مسئولية الدولة والثقافة مسئولية الفرد
الصوت المرتفع والتليفون والفن
لم يتسع الوقت
حديث إلى مولانا الإمام الأكبر
القصة واللغة
حيرة مع مليم ناقص
مصطفى محمود (بين الدين والعلم)
القرية بين الحضارة والأصالة
في آفاق الأدب الإنساني
اثنين فلاج ... وهات مليم
حواديت وملحوظة
الأدب في عصر العلوم
كتاب ... يكرهون الحب
القانون هو الحياة والحرية
مقهى في عرض البحر الأبيض المتوسط
ويل للتاريخ من هؤلاء المؤرخين
عندما يلوي الناقد لسانه
عاشق الليل (الأدب الحديث والتراث)
لبنان ... دولة تنتحر!
الأدب والسياسة
فرصة كافية للقدر
ضمير القلم
إنها باقية مع الخلود
شعر المناسبات
اشتراكية التمليك لا التجريد
اللغة والثقافة
شيئا لله يا رئيسة الديوان!
خطاب إلى وزير التعليم
شريعة الحضارة هي شريعة الغاب
إذا أشرق الشعاع وضحكت الكلمات
قطعة الأرض هذه ...
بورك هذا المعول
سقوط الفعل الماضي
شوقي في ذكراه
من أمريكا تحيا مصر
ماذا عن ... المنابر؟ وماذا عن ... الأحزاب؟
لا حياة لأدب بغير تراث
الحصان الذي نفق
لا مسئولية بغير مساءلة
الديمقراطية هي الممارسة
أخبار ... وتعليق
سقط الصنم ... ولم تسقط القاعدة ... وفي أي شيء صدق؟!
مصر هذه ... هي التي ستبقى
أنا أكتب
لا حقد اليوم
إن الكرام بحفظ العهد تمتحن
نحن أقوى من الحياة
العدالة والقانون ... وحرية الكاتب
كن مصريا واعتنق ما شئت
الليل ومحطة القذافي
التعليم مسئولية الدولة والثقافة مسئولية الفرد
الصوت المرتفع والتليفون والفن
لم يتسع الوقت
حديث إلى مولانا الإمام الأكبر
القصة واللغة
حيرة مع مليم ناقص
مصطفى محمود (بين الدين والعلم)
القرية بين الحضارة والأصالة
في آفاق الأدب الإنساني
اثنين فلاج ... وهات مليم
حواديت وملحوظة
الأدب في عصر العلوم
كتاب ... يكرهون الحب
القانون هو الحياة والحرية
مقهى في عرض البحر الأبيض المتوسط
ويل للتاريخ من هؤلاء المؤرخين
عندما يلوي الناقد لسانه
عاشق الليل (الأدب الحديث والتراث)
لبنان ... دولة تنتحر!
الأدب والسياسة
فرصة كافية للقدر
ضمير القلم
إنها باقية مع الخلود
شعر المناسبات
اشتراكية التمليك لا التجريد
اللغة والثقافة
شيئا لله يا رئيسة الديوان!
خطاب إلى وزير التعليم
شريعة الحضارة هي شريعة الغاب
خواطر ثروت أباظة
خواطر ثروت أباظة
تأليف
ثروت أباظة
إذا أشرق الشعاع وضحكت الكلمات
مجلة الإذاعة والتليفزيون
عدد: 2114
سبتمبر: 1975
حين يأتي على الناس زمان يصبح الحديث فيه صراحة أو همسا، ينزوي الإنسان في داخل الإنسان، وتسقط القيم وتنهدم الكرامة وتصبح الحياة صورة ممسوخة مشوهة، غير خليقة بأن تعاش ولا خليقة بأن تدوم.
ذلك أن الصراخ لغة الحناجر، والحناجر لا عمل لها، والهمس لغة الخوف، والخوف لا ضمير له، وإذا انعدم العقل وامحى الضمير سقطت الحياة.
وقد عشنا هذه الفترة، وأبينا فيها أن نصرخ؛ لأن الصارخين آنذاك كانوا أدوات لتكبير الأصوات، وكانت الأصوات جميعها تنبعث عن مصدر واحد.
وعشنا هذه الفترة، وأبينا أن نهمس؛ لأن ضمائرنا أبت علينا أن تكون همسا ولنا أقلام، وإذا كرم الله القلم فأقسم به، فعار على الإنسان أن يمتهن هذا القلم الذي وهبه الله له، فبالكلمة عاشت الأديان جميعا!
اختارها الله لتكون معجزة معجزاته على الأرض ... فحين اختفت شمس موسى وعصاه، وحين ماتت طيور عيسى ومرضاه، وبقيت كلمة الله خالدة على وجه الزمان تثبت دعائم الأديان جميعا، فتشرق شمس موسى وتسعى عصاه، وتعيش طيور عيسى ويحيا مرضاه، فحامل الكلمة هو شرف الحياة وهو وجودها، وهو قيمتها، شاهد عصره، ونبض قومه، وآهة المظلوم فيهم المهان، وعضة الجوع عند فقيرهم والمعدم، وموقظ الضمير عند غنيهم ذي الكظة القاسي، وصاحب الكلمة هو وحده من يستطيع أن يقول للطاغوت جاوزت المدى والحدود ، فمهلا أو تحيط بك عدالة السماء ينزلها عليك أبناء الأرض.
وقلنا، وكانت كلماتنا تتخفى في السرد الروائي والقصص، وكان الشعب العربي ينفذ إلى ما وراء الخفاء فيقتنص المحجب من وراء ستار ويذيعه، ويسمع الحاكم الطاغوت ويقف حائرا بين أن ينزل عقابه وهو سفاح، وأن يكتم غيظه فلا يذيع ما استتر، ولا يشتهر ما استسر، ولا تصبح الكلمة التي يحررها الناس واضحة شهيرة.
وتمر بنا الأيام كالحة السواد، لا هي تقتل فتريح، ولا هي تشرق فنعيش، ولكن الحيرة لم تطل بالطاغوت، فإن كان من حسن الرأي ألا ينزل علينا عقابه الشهير، فلا بأس أن ينزل علينا عقابه المتخفي وراء النذالة والجبن، ويمر عشرون عاما ونيف على صاحب هذا القلم بغير مكان ثابت في مجلة أو جريدة مصرية، ويأبى صاحب هذا القلم أن ينسب لغير مصر، فمن أجلها قال كلمته، ومن أجلها يعيش، إذا كان لعيشه معنى، ومن أجلها يموت، إذا كان موته يحمي هباءة هائمة بين سمائها وأرضها.
حتى إذا أذن الله لمصر أن يعود إليها شعاع من النور، توقف الصراخ وانقطع الهمس وصار الحديث كلاما يقوله عقل لعقل، وقلب لقلب، وضمير لضمير، عادت العقول والقلوب والضمائر إلى الحياة في دفء الشعاع العائد، وأزال الكلام عنه حجابه وظهر للناس واضحا كالعمل الطيب، وقلنا ... ولكن الذي سمع منا كان إنسانا، ولم يكن سرطانا بشريا غير جدير بأن يسمى.
وأحس الإنسان أن ما يسمعه إنما يقال من أجل مصر، ومصر عند هذا الإنسان هي حياته وروحه، وهب لها نفسه عند حرب، ووهب لها نفسه عند سلم، واثقا أنه إذا عاشت مصر عاش العرب جميعا.
ولأنه إنسان عرف مصادر الحديث واتجاهه ومنحاه، ولأنه عرف هذا وجد صاحب هذا القلم مكانا ثابتا يخاطبك منه، مطمئنا إلى غده، ناظرا إلى أمسه، قرير الخلجات، مطمئن الجوانح.
قطعة الأرض هذه ...
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2116
أكتوبر: 1975
يقولون إننا بعنا مبادئنا في سبيل قطعة أرض، والبيع في سبيل المبدأ تعارف الناس أن يكون عملية يعود نفعها على شخص بذاته، هانت عليه مبادئه فباعها ليكسب كسبا خاصا، فقولهم هذا يثير الإضحاك بقدر ما يثير الإشفاق، فهل أنور السادات اقتنى في عملية فك الاشتباك الثاني بضعة أفدنة يعود ريعها عليه؟
ما هي مبادئنا؟ إنها تحرير الأرض، وما هي مبادئ المقاومة؟ إنها تحرير الأرض، أما مبادئ سوريا فهي الهتاف لحزب البعث، وبقاؤه في الحكم، وليكن بعد ذلك ما يكون.
أما نحن قد قدر لنا أن تكون هذه مبادئنا لعدة فترات من التاريخ، وكان آخرها تحرير أرضنا من الإنجليز، ولم نصل إلى ذلك إلا حين سقطت الإمبراطورية البريطانية جميعا وسقطت شمسها التي كانت لا تغيب عن أملاكها، وبعد ذلك، وقبل ذلك، كانت مبادئنا تحرير الأرض الفلسطينية من العدوان الصهيوني، وبذلنا في سبيل ذلك دماء شهدائنا في عامي 48، و56 مجللة بالمال المعتصر من قلوب أبناء مصر، وبذلنا في سبيل ذلك دماء شهدائنا في عام 67، وخضب هذا المال نفسه وقد زاد عليه خزي الهزيمة وانكسار العزة وهوان الكرامة.
ثم انتصرنا واجتحنا برليف وأسطورة إسرائيل التي لا تهزم، وقدمنا الدم الغالي والمال، ولكننا سعدنا بالدم والمال جميعا أن أعاد للعرب جميعا عزتهم وكرامتهم، ومنحهم فوق ذلك أموالا من البترول ما كانوا ليحلموا بها في يوم من الأيام، وآن لنا أن نحقق شيئا من مبادئنا فنسترد جزءا من أرضنا، فاسترداد جزء من أرضنا هو في ذاته تحقيق بعض من مبادئنا.
ذلك أننا لم نجعل من مبادئنا تجارة، ولا جعلنا من أنفسنا في عهد السادات قراصنة نهدد الدول العربية لننال من أموالها ما لا يطيب لها أن تعطيه.
لقد كنا على بينة دائما بالدور الذي قدر لمصر أن تقوم به لتدفع ضريبة مكانتها الضخمة بين الدول العربية.
فأي مبادئ بعنا، وماذا كسبنا في سبيل ما بعنا إلا أن نسترد جزءا من أراضينا ومواقعنا الحربية وأموالنا التي اغتصبت في سبيل قضية فلسطين.
وبعد فيا ترى هل أحسن الناعقون بالخزي حين كشفت المواد السرية من الاتفاقية، واستبان أمرها عن تعهدات مبذولة جميعها من أمريكا لمصلحة سوريا والفلسطينيين؟
ولكن ما هذا السؤال ؟ أمثل هؤلاء يخجلون؟
وهل أدل على ذلك من قول راديو دمشق أننا لا نعتمد على ضمانات أمريكا أو الرئيس فورد لنا والرئيس السادات؛ لأن ضماننا الوحيد هو قوتنا الذاتية.
أهؤلاء يخجلون؟ إذن فلا بد لنا أن نذكرهم أننا رأينا قوتهم الذاتية ونعرفها حق المعرفة، فبهذه القوة الذاتية فقدوا الجولان في عام 1967.
وفي حرب الانتصار 73 أوشكت قوتهم الذاتية أن تستقبل الجيوش الصهيونية في دمشق.
ترى ألا يعرف الشعب السوري هذه الحقيقة كما تعرفها جميع الشعوب العربية؟ فأي قوة ذاتية يتحدثون عنها؟ اللهم إلا أن تكون قوة الحناجر المشقوقة والصراخ المجنون والوجه الجامد الذي لا يدركه الحياء.
بورك هذا المعول
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2117
11 أكتوبر 1975
أيدري المعول الذي أهوى على سجن طرة ماذا حطم؟ إنه لم يحطم جدارا من الطوب وإنما جدارا من الخوف، ولم يكن هذا الجدار يحيط بنزلاء السجن وحدهم، وإنما كان في قوة سحرية شرسة عاتية، يحيط بنفوس المصريين جميعا، فيحيل حياتهم فزعا ونومهم أرقا ويومهم بؤسا وغدهم هلعا.
وبنفس السحر الأسود كان يحيط بنفوس الأبناء والإخوة وذوي الرحم، فيحيل الصلات بين بعضهم وبعض توجسا وتخوفا، ويحيل الحب المشرق إلى خيانة، والود الذي تباركه السماء إلى البغض الذي يدنسه المال أو الرعب من السلطان.
هذا المعول الذي سقط على السجن هو نفس المعول الذي حطم بارليف؛ لأنه بيد الإيمان بالحق يهوي، وهو نفسه الذي صعق أذيال السخيمة السوداء من الحقد في منتصف مايو، وهو الذي محق حكم الهوى ليقيم حكم القانون، ودحض دعوى الباطل ليرفع شعار الإيمان بالله تقدست أسماؤه، والأنبياء صلى الله عليهم أجمعين.
وبهذا المعول منذ أشرق شعاعه في آفاق سمائنا أشرقت منا الروح، وتحررت النفوس من كبول الهلع، وارتفعت «الله أكبر» تملأ حولنا العالمين، وانتمينا إلى أغلى وأسمى ما يمكن أن ننتمي إليه ... مصر! عائدين إليها بعد أن غابت عنا وغبنا عهدا عهيدا وزمنا بعيدا، فكانت من غيرنا حائرة في دنيا الدول، وكنا من غيرها حيارى في دنيا الناس، حتى هدى الله الحيرة وانتمت إلى أبنائها وانتمى إليها أبناؤها، فبوركت أيها المعول.
سقوط الفعل الماضي
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2118
18 أكتوبر 1975
في اللغة العربية فعل يسمى الفعل الماضي، يطلق على ما تم فعلا من أحداث، فيقال قرأت الدرس، أي إن فعل القراءة تم فعلا ونفذ، وأصبح من الأحداث التي مضى عليها الزمن، واتخذ موقعه من التاريخ.
والملاحظ أن هذا الفعل اندثر تماما من بيانات الوزراء، بل وكاد يندثر معه الفعل المضارع أيضا، فأنت لا تقرأ بيانا يقول تم، وهو فعل ماض، أو يتم، وهو فعل مضارع، إنما الفعل صاحب الحظوة الذي لا يخلو منه حديث لوزير أو بيان لمسئول، هو الفعل الذي يدل على الاستقبال، أي إن العمل سيتم في يوم من الأيام التي لم تطلع شمسها بعد، والتي لا يعرف أحد متى تطلع، وهذا الفعل كريه للشعب، لا يحبه ولا يشتهي أن يسمعه؛ لأن فيه معنى الوعد، ومصر وشعبها عاشت على الوعود الزائفة أجيالا طويلة، حتى أصبحت تكره الوعود وتكره تبعا لها فعل المستقبل، فقد وعدها الإنجليز وأخلفوا لها الوعد سنوات طويلة من عمرها، ووعدها كل رئيس وزراء، ووعدها كل مسئول، فكرهت مصر الوعد!
أثار في نفسي هذا الحديث وعد أخير طال به الأمد، وهو وعد هين التنفيذ ميسور التحقيق، ولكن حب فعل الاستقبال وكره الفعل الماضي، حال (فعل ماض) ويحول (فعل مضارع) دون تنفيذه، يتصل هذا الوعد بشأن التليفونات عندنا؛ لأنهم يستطيعون بقوة سحرية خارقة - كالعادة - أن يجعلوا هذه التليفونات تنطق من حين إلى حين، وفي اعتقادي أنه لو اجتمع الشياطين ومجامع السحرة لعجزوا عن تحقيق هذه المعجزة، فإن القائمين بشأن التليفونات يعملون بأدوات يجب أن تعدم منذ سنوات طويلة، فلو أن هذه الأدوات ذهبت إلى بلد حديث لراح أهل العلم فيها يدورون حولها كأعجوبة من عجائب التاريخ، ومع ذلك فهي تعمل عندنا، وقد أخبرني المهندس مقبل البدراوي أنه يحتاج إلى خمسين مليون جنيه، وهي في عرف الدول ليست مبلغا مهولا مخيفا، والتليفونات ليست شيئا تعود فائدته على أبناء مصر، فقد تعود أبناء مصر أن يصبروا أنفسهم على الشدائد، ولكن المهم الآن هو هذا الانفتاح الذي يقع بأجمعه في أفعال استقبال لا نهاية لها، لا يعقل أن يأتي راغب في الانفتاح ويرفع السماعة ويجلس بجانبها ساعات حتى يصيبها الور، فالوقت عند هؤلاء ليس سلعة ملقاة على الطريق، إنه يعني مالا، والمال عندهم كميات ضخمة، ليسوا على استعداد أن يضحوا بها في سبيل ور التليفون المصري.
ترى هل أسمح لأمل هزيل أن يداعب نفسي، فيعلن وزير المالية أو وزير الخزانة بيانا مصدرا بفعل (ماض): تسلمت مصلحة التليفونات مبلغ خمسين مليون جنيه لإحياء آلة قديمة عندنا كانت فيما مضى تصل الناس بعضهم ببعض، وأصبحت اليوم آنية لا تصلح حتى للزهور؟!
شوقي في ذكراه
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2119
25 أكتوبر 1975
إن ذكرى شوقي هي كل يوم من أيام مصر، ومن أيام العرب جميعا، فهو أعظم شاعر أنجبته العربية، وقد أحس هو بمكانته قدر ما عرف العرب هذه المكانة.
وحولي فتية غر صباح
لهم في الفضل غايات وسبق
على لهواتهم شعراء لسن
وفي أعطافهم خطباء شدق
رواة قصائدي فاعجب لشعر
بكل محلة يرويه خلق
وتجد إحساسه هذا حين يقول في حفل تنصيبه أميرا للشعراء:
رب جار تلفتت مصر توليه
سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيا بمآقي
وطني أو مهنئا بلسانه
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه
وهكذا لم تغب عن شوقي المكانة التي تصدرها في العالم العربي، بل هي في الواقع المكانة التي تصدرها الأدب المصري عامة في الأدب العربي، فطه حسين وهيكل والحكيم والعقاد والمازني وتيمور والزيات، وكل هذا الرعيل هو الذي أنشأ الأدب العربي، وعلى مشكاة هؤلاء وجد الأدب العربي طريقه في الحياة.
وقد أنشأ شوقي المسرحية الشعرية، ولم يطق أن يسير وراءه فيه إلا شاعر تتلمذ عليه وظل وفيا له إلى أن اختاره الله وهو المرحوم عزيز أباظة، ثم وقفت المسرحية الشعرية بالشعر الأصيل عن السير في الطريق، وراد الشرقاوي الطريق بعد العملاقين - شوقي وعزيز - بأعمال كثيرة، وصلاح عبد الصبور بأعمال قليلة ، ولكن كليهما صدف عن الشعر الأصيل إلى الشعر الحر، وربما كان مجال المسرحية والملحمة أصلح المجالات للشعر الحر، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يسبق إلى الشعر الأصيل في قوة جرسه وإحكام قافيته وموسيقية الكلمة فيه.
وعلى أية حال، فإن مصر التي عدت عليها فترات سوداء من الأزمات المالية والاجتماعية والنفسية، ولم تنكص عن مكانتها الثقافية بفضل عماليق الأدب هؤلاء الذين اكتمل إشراقهم بشوقي، معجزة دهره ولغته، وإننا لا نملك إلا أن نرثيه بقوله هو:
وما هو ميت ولكنه
بشاشة دهر محاها الزمن
ومعنى خلا القول من لفظه
وحلم تطاير عنه الوسن
ولو أنصف الصحب يوم الوداع
دفنت كإسحق لما دفن
فغيبت في المسك لا في التراب
وأدرجت في الورد لا في الكفن
من أمريكا تحيا مصر
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2122
15 نوفمبر 1975
وصلت إلى أمريكا قبل أن يصل إليها الرئيس بيوم، فكان من الطبيعي أن أكلم ابنة عمي وزوجها الدكتور إبراهيم الترعي الطبيب المشهور، وكان قد ترك مصر في تلك الأوقات التي جعلت مثله يتركون مصر، تبادلنا التحية، وعرف الدكتور الترعي أنني لن أستطيع أن أذهب إليهم لبعدهم الشاسع عن المنطقة التي تدور الرحلة فيها، وقبل أن تنتهي المكالمة وجدت الدكتور إبراهيم يهتف «تحيا مصر»، ووجدت نفسي أهتف «تحيا مصر»، ومنذ هذه اللحظة وحتى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، وأنا لا أتوقف عن الهتاف «تحيا مصر»، وقلتها وأنا أرى رئيس مصر يستقبله الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، ويستقبله معه الرسميون ووحدات رمزية من الجيش، وأهم من ذلك جميعا مجموعة كبيرة من الشعب الأمريكي، وقد خصص لها مكان في الاحتفال تلوح بالعلم المصري والعلم الأمريكي لرئيسنا.
وهتفت بها وأنا أرى الحفل الذي أعده الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، وقد وقف الرئيسان، مع كل منهما السيدة قرينته يستقبلون جميعا ضيوف الحفل.
وهتفت بها، وهتفت وأنا أرى الشعب الأمريكي جميعا ممثلا في نوابه وشيوخه يستقبلون الرئيس المصري، واقفين جميعا وقد أخذوا يصفقون له تصفيقا لا يريد أن ينتهي، حتى إن الرئيس السادات أخذ يشير لهم مرات أن يجلسوا وهم مستمرون في التصفيق.
ثم هم يقاطعونه مرتين بالتصفيق أثناء الخطبة، مرة حين قال إننا جئنا لا نريد مالا ولا سلاحا، وإنما نريد أن نوطد صداقتنا بالشعب الأمريكي، ومرة حين قال إننا نمثل حضارة تمتد سبعة آلاف سنة في أعماق التاريخ، حتى إذا انتهى الخطاب نزل الرئيس قاصدا باب الخروج يحف به التصفيق الحاد، والنواب على الجانبين يصافحونه على غير معرفة شخصية، ويصاحبه التصفيق حتى يخرج تماما من باب الكونجرس، وأهتف أنا، وأهتف: «تحيا مصر».
مصر التي ... بذلت دماءها ومالها من أجل العرب جميعا. ... مصر التي شمخت على الإذلال، وترفعت عن المهانة، وتكبرت على الجبروت! ... مصر التي أنارت العالم العربي جميعا بالفكر الأدبي والعلمي، وما زالت رفيعة المصابيح وضاءة الإشعاع.
مصر التي شاء الله أن يمتحنها بفترة قاسية من عمرها، فكتب عليها الهزيمة حين كانت تحارب في ظل قيادة لا تنير الطريق، حتى إذا تزعمها من يحبها ولا يحب نفسه، ومن يريد لها الرفعة ولا يريد لنفسه التأله، ومن يبث الإيمان في نفوس أبنائها المحاربين بالله وبها، لا بالشيطان ولا بنفسه، حاربت حربها المنتصرة وخاضتها ضارية؛ لأنها بها تريد السلام لنفسها وللبلاد العربية وللعالم.
وقد كانت الأيدي التي تصفق في أمريكا تصفق عن مشاعر عرفت السلام الذي تريده مصر، ورأته حين انتصرت مصر، فلم تتكبر لأن الكبار يكبرون ولا يتكبرون، وكانت الأيدي تصفق عن تقدير لرئيس مصر الذي يعمل في عظمة الواثق بنفسه، وبوطنه العريق، لا في جنون المتعاظم، ولا في تشدق هواة الخطب، ولا في عربدة المحاربين بالشعارات.
فئتان في أمريكا قتلهما الغيظ من نجاح زيارة الرئيس السادات هما: الصهيونيون والفلسطينيون، لقد اتفق الصهيوني والفلسطيني في الولايات المتحدة وفي إنجلترا على مهاجمة الرئيس السادات، حتى لقد وقفت جماعة من كل منهما أمام فندق كلاردج بلندن، حيث كان ينزل الرئيس، يهتفون بلسان واحد وبلغة واحدة، ولم يخجل الفلسطينيون!
إن كان الرئيس قد قبل أن يرضي الصهاينة فلماذا يهتف ضده الصهاينة؟!
وإن كان بتحركه هذا يغضبهم ، فلماذا يهتف ضده الفلسطينيون؟!
كيف يتفق السارق والمسروق، وكيف يهتف كلاهما بلسان واحد، وينبض قلب كل منهما بمشاعر واحدة؟!
أم ترى كلاهما سارق؟ إحدى الفئتين سرقت دولة، والفئة الأخرى تسرق أموال دول، والتقت المصالح المتضاربة، والتأم الشر والجشع، واتفق النهب وقطع الطريق، ونطق لسان واحد عن فئتين تدعي كل منهما للأخرى بغضا، وتعيش كل من الفئتين حياتها على حساب هذا البغض، فأما فئة الصهاينة فتدعي أمام أمريكا أن العرب يكرهونها، فهي تريد السلاح والمال لتدافع عن نفسها ضد العرب، وأما الفئة الأخرى فتدعي أن فئة الصهاينة لا تريد أن تعيدهم إلى وطنهم، فهم يريدون المال والسلاح ليقتحموا على الصهاينة الوطن السليب، ويصبح السلاح بعد ذلك سلاحا على العرب، ويذهب المال إلى متاجر الصهاينة في لندن ونيويورك! لا يهم، إنما المهم ألا تنتهي القضية إلى سلام، فإن قبل زعيم عربي حصيف سلاما فهم عليه حرب، وإن اتفقوا في ذلك مع الصهاينة؟! ... نعم وإن.
ولكن كبار الساسة في العالم يدركون، وتقف أمريكا كلها تحيي الرئيس، ونلتقي برجل الشارع في أمريكا فنجده متابعا زيارة السادات في حب وإعزاز، ويقول لي أحدهم (وكنت معه على عشاء): إننا نرى في وجه رئيسكم وجه رجل صادق، حتى ليخيل إلي أنني لو التقيت به وطلب إلي أن أفعل أي شيء لفعلته دون تردد.
ويسألنا سائق السيارة الأجرة عن الرئيس وعن زوجته، ويقول لنا آخر إنه سعيد أن الرئيس استقبل هذا الاستقبال من نواب أمريكا وشيوخها. ... وتنبح الكلاب في موكب السلام، ولكن صوتها مخنوق بالباطل الذي تدين به، وبالجشع الذي يتملكها، وتعلو الكلمة الحرة البعيدة عن الغرض، الرفيعة عن التملق، المتأبية عن السوقية.
وتحيا مصر.
ماذا عن ... المنابر؟ وماذا عن ...
الأحزاب؟
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2124
29 نوفمبر 1975
لا أحسب أن اللجنة المركزية أو الاتحاد الاشتراكي جهة صالحة لإعطاء الرأي في المنابر التي قد تتكون، فواضح منذ الوهلة الأولى أن هذه المنابر قد تجتذب كثيرا من الفاعلية لا يتمتع بها الاتحاد الاشتراكي، والقول بأن المنابر تتكون في ظل الاتحاد الاشتراكي قول قد يجد الكثير من الجهد ليقتنع به أحد، فكل منبر من هذه المنابر سيضم نفس الفئات التي تكون الاتحاد الاشتراكي، وهذه الفئات التي تكون الاتحاد الاشتراكي هي في حقيقة الأمر المكونات الطبيعية لأي تجمع سياسي، فكل فئة منها لا تصلح بذاتها أن تكون تجمعا سياسيا، مهما يكن الاسم الذي سيطلقه على نفسه هذا التجمع، ولا أعتقد أن هناك مرجعا غير الشعب ليدلي برأيه فوق هذه المنابر.
وإن ذهاب السيد رئيس الجمهورية إلى اجتماع اللجنة المركزية دون إخطار سابق، هو في ذاته إشعار أنه يريد رأي الشعب، لا رأيا آخر، وفي اعتقادي أن الرأي الذي أدلى به السيد الرئيس عن هذه المنابر، أدلى به كفرد من أفراد الشعب لا كرئيس للجمهورية، وكأنما أراد الرئيس أن يضرب المثل من نفسه للشعب جميعا أن يدلي برأيه.
وقد حرص الرئيس منذ فترة أن يطرح أمر الديمقراطية على الشعب، وهو يعلم مسبقا أن الاتحاد الاشتراكي سيكون معارضا لأي صيغة للديمقراطية، ولهذا لم يكن رأيه وحده كافيا، بل كانت تستدعى فئات أخرى لتدلي برأيها.
والحقيقة أن صاحب المصلحة لا رأي له، والذين استفادوا من الفترة السابقة فائدة مادية شخصية هم إنما يدافعون عن البقايا الهزيلة من الفوائد الضارية التي جنوها من غياب الديمقراطية، وهم حين ينزلون بعناصر تكوينهم إلى الشعب سيدرك الشعب عن أي منطلق يصدرون؛ لأن المفروض في هذه المنابر أن تقوم حول أفكار واضحة جلية، فلا يكون الأساس فيها أشخاصا أو مصالح.
ولهذا من العبث، بل من المضحك أن يظن أحد أن الكلام عن الأحزاب معناه عودة الأحزاب القديمة، بينما هذه الأحزاب لا تستطيع العودة حتى لو سمح لها أن تعود، وما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة إلى أهمها لتعرف إلى أي مدى تستحيل العودة لهذه الأحزاب.
فحزب الوفد تكون ليفاوض الإنجليز، واسمه الوفد لأنه كان موفدا لهذه المفاوضة، ولم يعد هناك إنجليز، ولم تعد هناك مفاوضة.
وحزب الأحرار الدستوريين انشق عن الوفد ليعارض «سعد» ويطالب بالجلاء مستقلا عن حزب الوفد، وسعد أصبح في ذمة التاريخ، وليس من المعقول أن يتكون حزب اليوم ليعارضه، والجلاء قد تم فلا داعي لوجود جماعة سياسية تدعو إلى الجلاء.
والهيئة السعدية انشقت عن الوفد؛ لأنها عارضت النحاس، ورأت أنه مال عن مبادئ سعد.
والنحاس اختاره ربه، وأصبح كقول شوقي:
وليس بنافعه الواصلو
ن وليس بضائره من هجر
وسعد اليوم لا يحتاج إلى حزب يؤيده.
بقي بعد ذلك الحزب الوطني، وهو الحزب الوحيد الذي رفع شعار «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، وكنا ونحن في الجامعة في أربعينيات هذا القرن نتساءل: إذا تم الجلاء، ففيم المفاوضة؟ وعلى كل حال قد تم الجلاء، وأصبحنا في غير حاجة إلى المفاوضة، وإن كنا في حاجة شديدة إلى الوطنية.
فالذي أتصوره إذن أن فكرة الأحزاب المطروحة هي قيام أحزاب، لا عودة أحزاب.
واعتقادي - مع حرصي الشديد على الحكم الديمقراطي - أن الوقت الآن غير صالح لقيام أحزاب بالمعنى المفهوم، ولعل قيام المنابر الآن أصلح للفترة التي نمر بها بعد غياب الديمقراطية مدة أوشكت تقترب من ربع القرن، ونحن لا نريد أن نعود إلى نوع الديمقراطية الذي كان موجودا قبل الثورة، فهذه أيضا فكرة عجيبة تطرأ على ذهن بعض الكتاب، ويناقشونها كأنها حقيقة واقعة، بينما الجميع يعرف أنها كانت ديمقراطية ناقصة يعوق انطلاقها الإنجليز والسراي، ويعوق انطلاقها فساد بعض الزعامات، وبعض الكتاب المغرضين يتخذون من هذا الفساد مبررا لفساد آخر في الفترة الماضية، وهذا شيء مضحك، فإن الثورة قامت لنقضي على هذا الخلل في حياتنا السياسية والاجتماعية، فإذا وقع المنتمون إليها في خلل أشد وفساد أكثر إيغالا، فاللوم أكبر، والأصل القانوني المعروف أن الخطأ لا يبرر الخطأ، ولهذا نريد لحياتنا الديمقراطية الجديدة أن تقوم على أسمى الأسس وأكرم الأطناب، واعتقادي أن فكرة المنابر الآن إذا قامت حول أفكار واضحة بينة، تستطيع أن تمر بنا من المرحلة التي نجتازها اليوم.
لا حياة لأدب بغير تراث
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2125
6 ديسمبر 1975
إن تراثنا الأدبي يشرف أي أدب ينتسب إليه، وقد فشت بين شداة الأدب موجة تنأى بهم عن تراثهم الأصيل، وولوا وجوههم شطر الأدب الأجنبي وحده.
ولشداة الأدب عذرهم؛ فقد مرت فترة طويلة سيطرت فيها على الصحافة فئة تهدف أول ما تهدف إلى تحطيم التراث بادئة بالدين، منتهية إلى التراث الأخلاقي والاجتماعي، واقفة ومطيلة الوقوف عند الأدب العربي، محاولة أن تمحوه من سماء مصر، ليمحى بعد ذلك من سماء الوطن العربي أجمع.
وهؤلاء الشداة كما يقول شوقي:
فراخ بأيك فمن ناهض
يروض الجناح ومن أرغب
فاضطروا أن يصطنعوا ما ليس فيهم، ويعتنقوا غير ما يؤمنون به، لتجد أعمالهم سبيلها إلى النور.
ولكن القارئ لم يقبل هذا، فصحح مسار الأعمال، فإذا هي تجد سبيلها إلى الظلام، ويصبح هؤلاء الشداة في عماية كاملة من الجهل والتجهيل.
ذلك أنه لا حياة لأدب لا ينتسب إلى أعراقه الأصيلة، ولا يركن إلى أصوله العريقة.
فحتى القصة والمسرحية - وهما الوافدتان على التراث الأدبي العربي - لا سبيل لهما أن يزدهرا وتسمق فروعهما إلى السماء، إن لم يكن الكاتب فيهما ناظرا إلى أدبه في أسلوبه، وإلى وطنه في موضوعه.
وإذا نظرنا إلى الآداب الأخرى وجدنا الأدباء المحدثين جميعا يدورون حول آدابهم القديمة، فشكسبير وديكنز وهاردي وغيرهم ما زالوا أحياء بقوة وجبروت في الأدب الإنجليزي، وكورني وراسين وفولتير وبلزاك ودوديه وغيرهم ما زالوا يتصدرون الأدب الفرنسي، وتولستوي ودستيوفسكي وجوركي وغيرهم ما زالوا أئمة الأدب الروسي، رغم أنه أصبح أدبا سوفيتيا، وانكمش من أدب عالمي إلى أدب محلي.
وقد كان نتيجة هذه الفترة الحالكة من تاريخ الصحافة المصرية والحياة المصرية جميعا أن أصبحت كتب التراث عزيزة المنال، فارتفعت أسعارها، حتى أصبح الشاب لا يطيق أن يقتنيها، ولهذا رأيت حين توليت العمل بهذه الدار أن أعيد طبع بعض كتب التراث ما وسعني الجهد، وقد بدأت بكتاب البخلاء للجاحظ، وقام الأستاذ عباس خضر مشكورا بتحقيقه، وهو الآن على وشك الصدور.
وحين تفاوضت مع الأستاذ عثمان غنيمي، المدير المالي لمجلة الإذاعة حول سعر الكتاب، حدث شيء غريب، حاولت أنا أن أبيع الكتاب بسعر التكلفة، فإذا بالرجل الذي ينتمي إلى عالم المال والحساب يقول إننا نقدم خدمة عامة، فلا بأس علينا لو خسرنا بعض الشيء في البيع، وخجلت من نفسي ووافقت المدير المالي أن نبيع الكتاب، بأقل من ثمن التكلفة، وسيصدر الكتاب في جزأين متتابعين، الأول في شهر يناير، والثاني بعده مباشرة.
ترى هل تستطيع دور النشر أن تعين على هذا الهدف، فتشاركنا في إعادة طبع التراث، وإتاحته في أسعار ميسرة إلى الطلبة وشداة الأدب؟! لكم أرجو ذلك!
الحصان الذي نفق
قصة قصيرة
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2126
13 ديسمبر 1975
لم يكن يسري فقيرا في القرية، ولكنه كان تائها في زحامها، محتقرا بين أهلها، لا يشعر به أحد، رغم جهده الجهيد أن يشعر الناس به، فقد كان لا يترك وسيلة يذكر بها الناس أنه حي، وأنه يسعى بينهم، وأنه ليس نكرة من النكرات إلا سعى إليها حثيثا، وقد كان يحصل دائما على هزء الناس والسخرية به، إلا أنه لم يستطع قط أن يحصل منهم على ما يريد من شعور بوجوده، وأنه حي.
ولم يكن غناه فادحا، ولكنه - مع ذلك - كان يدعو إلى الولائم في كثير من الأحيان، وكان الناس يلبون دعوته، ولكنهم ما إن يأكلوا ويتركوا بيته حتى ينسوا أمره، وكأنه لم يكن.
ولم يكن يسري مؤمنا بالله، وما كان يصلي، ولكنه مع هذا حريص على أن يشهد صلاة الجمعة مرتديا أجمل ما عنده من الملابس، لا ينسى رباط عنقه الأحمر، مقتنعا أن اللون الأحمر هو أكثر الألوان استدعاء للأنظار، ولكن الأنظار - مع ذلك - كانت تأخذه، فهو موجود بغير وجود، حاضر خير منه الغائب.
وكان يسري يحرص أيضا على أن يخطب الناس بعد كل صلاة جمعة، ولم يكن طبعا يستطيع أن يحدثهم عن عدم إيمانه، فهو مع كل حرصه على أن يذكر الناس بوجوده، أكثر حرصا على أن يظل على قيد الحياة ... أية حياة، ولو أنه أطلع الناس على ما يعتمل في نفسه من عدم إيمان لأصبح موته بأيديهم أمرا محققا.
وإنما كان يسري يخطب الناس في وجوب إعطاء الفقراء والمساكين والإحسان إليهم ، ولكن لم يقدر له أبدا أن يكمل خطبة إلى النهاية التي يريد أن تنتهي إليها، فما هي إلا جملة وأخرى حتى يصبح المسجد فارغا من الناس أجمعين.
فما كان أحد من أهل القرية ليلقي إليه سمعا وهم يعلمون أن الإحسان عنده كلام، والشفقة بالمساكين عنده شقشقة، وكفاهم دليلا على ذلك ما يعانيه منه عبد السميع ومحمدين وشفيق الذين يستأجرون أرضه، فإن أحدا في القرية لا يعاني من الفقر والذلة والهوان والقهر ما يعانيه هؤلاء الثلاثة الذين قدر لهم أن يكونوا أجراء عنده، ويا طالما عرضوا أنفسهم على الملاك الآخرين، ولكن أحدا لم يستطع أن يغيثهم، فالمستأجرون في القرية يرثون الأرض عن آبائهم، ولا يستطيع مالك - بل ولا يجب - أن يخرج أحدا من أرضه ليعطيها إلى آخر.
وقد ضاق محمدين بمالك أرضه يسري، وضاق بالقرية جميعا فتركها، وتسمت أرض الله في بلاد الله، ولم تعد القرية تعلم عنه شيئا.
وظل عبد السميع وشفيق يستأجران أرض يسري وحدهما، بعد أن حاول أن يجد مستأجرا آخر بدلا من محمدين فذهبت محاولاته سدى.
فالكلام منه إذن عن وجوب الإحسان خليق أن يجعل أهل القرية ينصرفون عنه، وحتى إن لم يتوافر هذا السبب، فقد كان أهل القرية سينصرفون عنه أيضا لأنهم لا يشعرون أن له وجودا أو مكانا.
كان هذا الشعور بالضياع والإهمال يملأ نفس يسري، ويجعل نفسه تفيض مرارة وحقدا، فهو حاقد على كل غني له بين القرية توقير واحترام، وهو حاقد على كل متعلم يسمع الناس له في اقتناع وإكبار، وهو أشد حقدا على المحترمين في القرية دون أن يكون لاحترامهم سبب ظاهر إلا أنهم محترمون، ولعل بعضهم لم يصب من العلم إلا قليلا، ولكن أهل القرية يحترمونهم ويقصدون إليهم إن طلبوا الرأي، وينزلون عنه عندما يشيرون عليهم به.
نار من الحقد تفتك به ... نار من داخله، لا سبيل أن يصل إليها شيء إلا ما يزيدها أوارا واشتعالا.
يخرج يسري في كل يوم إلى ظاهر القرية، وينظر إليها في كره شديد، وألم عميق ، ومرارة قاتلة، ويظل قابعا منزويا كوحش كسير يحاول أن يتربص بأعدائه المصائب، فتخذله الذلة ويقعد به الهوان، وبينما هو كذلك سمع جوادا يركض ويهز الأرض بأقدامه، واقترب الصوت، واقترب، حتى تكشف عن الحصان وراكبه، أما الحصان فمجنون أرعن، وأما صاحبه فخائف هالع. - أين أنا؟ - لا أدري. - ألا تعرف اسم القرية التي أنت منها؟ - المنشية. - من أين أنت قادم؟ - لا شأن لك ... أتشتري هذا الحصان؟ - ماذا؟ - ألم تسمع؟ لا وقت عندي للدلع.
حصان ... أيشتري هو حصانا، وما البأس؟ وأي شيء سيجعل أهل القرية يحسون به خيرا من هذا الحصان ... الحصان جاء ... الحصان ذهب ... ليس في القرية من يملك حصانا ... ولكنهم لن يقولوا يسري جاء أو ذهب ... الحصان فقط، لا بأس أيضا ... يكفي أن يذكرهم الحصان به. - ولكن هذا الحصان مخيف! ألا تراه لا يكف عن الحركة العنيفة؟ - هذا دليل الحيوية. - الكثير منها يقتل. - أنت صاحبه؛ اخدمه يخدمك. - ولكن لماذا تريد أن تبيعه؟ - أهو تحقيق؟ - لعلك سرقته. - وافرض. - قد يراه صاحبه فأخسره. - اسمع، الأمر المؤكد أن صاحبه لن يحاول أن يسترده. - إذن فأنت صاحبه. - ها أنا ذا ... أركبه أمامك وأعرضه عليك، ولا وقت عندي للكلام الكثير، أتشتري أم أمشي؟ - كم تريد فيه؟
واشترى يسري الحصان وحاول أن يركبه، فنفضه الحصان نفضة عنيفة إلى الأرض أحس معها أن عظامه تنسحق، فسحب الحصان ومشى يتكفأ حتى بلغ منزله في عتمة من الليل، وأدخل الحصان إلى حجرة نومه الخاصة، وذهب إلى حيث السكر، فأحضر جميع ما في البيت منه.
وبعد أسبوع استطاع أن يركب الحصان بعد أن أنس إليه.
وفعلا بدأت القرية تتكلم عن الحصان، ولكنها - كما توقع يسري - لم تتكلم عن يسري.
كان يسري يربط الحصان في الغيط مع جاموسته، ويذهب إلى ما يبتغي من أعمال، وبينما هو جالس في بيته، إذا بشخص يعدو إليه. - يسري. - نعم. - حصانك قتل عبد السميع. - ماذا؟
حاول عبد السميع أن يركبه فجرى حتى ألقاه في الترعة وأغرقه.
وأصبحت الحكاية أحدوثة في القرية لفترة طويلة، ويسري سعيد كل السعادة بموت عبد السميع الذي جعل الناس يتحدثون عن حصانه كل هذا الحديث.
فإن الحادث في القرية شيء عظيم، فهو ريح شديدة العصف تمر على الماء الراكد من أثر الملالة، فالناس لا يجدون في القرية ما يتحدثون عنه، فإذا مر بحياتهم حدث كهذا أصبح تاريخا يعتبر الذين عاصروه خالدين في حياة القرية وتاريخها.
ولكن حصان يسري لم يترك لهم فرصة طويلة يلوكون فيها حادث القتل الذي ارتكبه، بل هو يعاجلهم. - يسري. - نعم. - حصانك. - ما له؟ - فقأ عين عبد الشافي بن سعيد أبو عرابي. - ماذا؟
وفي هذه المرة يذهب سعيد إلى يسري ويمسك بخناقه، مقسما بأغلظ الأيمان بأنه قاتل الحصان أو قاتل يسري، ويتجمع الناس ويحولون بين سعيد ويسري وتبدأ المفاوضات، ويسري سعيد، فقد أحس الناس به هو أخيرا، وها هم أولاء يجتمعون حوله ويفاوضونه ويفاوضهم.
وتتوالى أحداث الحصان، فهو يقطع حبله ويعتدي على براسيم الآخرين، وهو ينطلق في القرية في جنون أحمق، يكسر أرجل الناس أو أبوابهم، أو يوقع ما يعرشون به على بهائمهم، أو هو يعتدي على هذه البهائم فيجعل أصحابها يعودون بها إلى السكن، ولعل أشد ما آلم الناس من الحصان وصاحبه ما فعله الحصان بالمصلى التي أقامها أجداد أجدادهم هناك عند مجرى النيل، فقد دخلها الحصان فهدم قواعدها، ومزق الحصير فيها، ولعل هذا الحادث بالذات هو أسعد ما سعد به يسري حتى لقد أغدق في مساء هذا الحادث على حصانه من السكر قدرا لم يشهده الحصان من قبل.
أصبح يسري هو شغل القرية الشاغل، وأصبح الناس يبتعدون عن مكان الحصان قدر جهدهم، وألقى الحصان على القرية ظلا من الرعب ثقيلا، وليس أفتك بالإنسان من الخوف، ولا يزري بالإنسان شيء قدر شعوره أن الذعر والهلع يحيط به من كل جانب، وما أشد الهول حين يكون العدو حيوانا أعجم لا يعقل ولا يفهم، وإنما يخرب لوجه الخراب بلا هدف ولا فكرة ولا غاية ينتهي إليها، ويسري سعيد، فليمت الناس من الخوف أو من الغضب، فلقد أصبح هو شيئا يذكر ، ومقصدا يسعى إليه.
وفي يوم صحا يسري من نومه وذهب مسرعا إلى حصانه؛ مجده وعزه وأمله الذي تحقق، وذكره الذي ذاع، واسمه الذي انتشر، ماذا ...؟ ما الذي جعل الحصان في هذا الشكل الذي هو عليه؟ لا يمكن ... غير معقول ... لقد مات الحصان ... مات ... كيف؟ ... لا يهم ... أمسموما مات، لا يهم ... هل مات من كثرة السكر؟ لا يهم، لقد مات ... أحس يسري أن اسمه هو هذا الممدد جسدا من غير روح ... وعما قريب يصبح عدما بلا جسد ولا روح ... لا يمكن ... غير معقول ... إن حصاني لا يموت ... إنه لا يموت ... لا يموت، وفجأة انتفضت في جسم يسري المرارة التي اختزنها قبل أن يعرف الحصان، وانتشر في جسده الحقد الذي دفنه فيه طوال عهد الحصان، ووجد نفسه يحمل الحصان الميت ويخرج به من البيت، محطما باب البيت، صارخا في الناس وهو يعدو في كل متجه ... إنه لم يمت، إن حصاني لا يموت ... لا يموت ... لا يموت.
وما هي إلا صرخات قليلة ... وخطوات أقل من العدو الأحمق العربيد المجنون حتى انهار يسري، ومن فوقه الحصان يكتم أنفاسه القليلة الباقية.
واختلط الجسدان حتى لا يستطيع أحد أن يستبين أحدهما من الآخر، وقبل أن يدركه أحد، تلحق روحه بروح الحصان الذي نفق، ويتجمع حوله أهل القرية، ولا تلتقي نظرات ولا كلمات، وإنما يشيع أمن إنساني فارق الإنسان فيهم حينا ثم عاد.
لا مسئولية بغير مساءلة
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2126
20 ديسمبر 1975
أكتب هذه الكلمات يوم الثلاثاء حتى تستطيع أن تلحق بالمطبعة المستعجلة التي تريد أن تفرغ من العمل قبل إجازة العيد، وقد سمعت في أثناء الأسبوع أن قرارات سوف تصدر تضم الوزارات التي تعمل في ميدان واحد في قطاعات تجمع بينها.
وقد تظهر هذه الكلمة بعد أن تكون هذه القرارات قد أعلنت.
الواقع أن هذه القرارات في ذاتها خطوة إن لم تؤد إلى ما بعدها تكون غير محققة لما يراد منها.
فإنه من غير المعقول أن يتحمل رئيس الجمهورية وحده مسئولية الحكم في تفاصيله وفي خطوطه العريضة في آن معا، ولا بد أن تكون هناك جهات تحمل مسئوليتها كاملة، ولكم أرجو أن تختفي من التصريحات الرسمية وغير الرسمية تلك الجملة التي لا يخلو منها بيان «حسب توجيهات السيد الرئيس».
فإنه ليس من المعقول أن يتفرغ الرجل الذي يحمل مسئولية مستقبل مصر وحاضرها، بل ومسئولية جيل بأكمله لتفصيلات الوزارات ودقائق العمل في المصالح.
ليس من المعقول أن الرجل الذي كان يفاوض بالأمس فورد وكيسنجر وويلسن، والذي وجه المجتمع العالمي إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه في قضية فلسطين - وسلكه فعلا - والذي يفاوض اليوم ديستان أن ينظر في مشكلة الدقيق واللحم والأتوبيس والتليفون.
إن فردا واحدا لا يستطيع أن يقوم بهذا، والعقل الذي يعد نفسه للكلام في خطوط عريضة يصعب عليه، بل يستحيل أن يفكر في التفصيلات، على خطورة هذه التفصيلات وأهميتها في الحياة اليومية للشعب.
وإليكم موضوعا تسمع عنه لا يجوز أن يحل مشكلته رئيس الدولة، بل هو من الوضوح واليسر بحيث يجب أن يحله الوزير المسئول دون حتى أن يقول حسب توجيهات السيد الرئيس!
هل يصدق أحد أن التقارير الرسمية تقول إن بند الدقيق الفاخر يحظى وحده بإعانة رسمية من الدولة قدرها 38 مليون جنيه.
ما الدقيق الفاخر؟ إنه ما يصنع منه الجاتوه والكيك وما إلى ذلك.
ما أهمية ذلك لجموع الشعب؟ أليس عجيبا أن تنصرف الدولة اليوم بما ظلت الأجيال تسخر منه، حين قالته ماري أنطوانيت عندما شكا إليها الشعب من عدم وجود الخبز، فقالت: ولماذا لا يأكل الشعب الجاتوه؟
إن هذه الأصناف من الحلوى ليست ضرورة شعبية، ومن يريد أن ينالها يستطيع أن يدفع من أجلها الثمن الغالي إذا كان لا بد له أن يأكلها.
ويحظى اللحم بإعانة قدرها 8 ملايين جنيه، ولعمري ماذا يفيد الشعب من هذه الإعانة؟!
إن الذين يريدون أن يأكلوا اللحم عليهم أن يتحملوا غلاء ثمنه، لا بأس على الدولة أن تعين على غلاء اللحم في المواسم وفي عيد الأضحى، أما أن تعين على غلائه بثمانية ملايين جنيه ليتمتع القادرون بأن يصبح اللحم أرخص لهم بقرش أو قرشين أو عشرة قروش، فهذا تصرف لا أظن أنه جائز.
واعتقادي أن الأيسر والأقرب للمعقول أن تترك الدولة العلف حرا حتى يستطيع الكثيرون أن يربوا الماشية، فإن احتكار العلف يجعل التربية محصورة في فئة واحدة، هي الفئة التي أثرت ثراء فاحشا في السنوات الماضية، وما زالت تثري إلى يومنا هذا.
هذا كله كلام في التفاصيل لا يجوز أن يرقى إلى رئيس الدولة، فإن الأعباء الملقاة على عاتقه في كبريات المسائل تحتاج إلى جمع من الرجال، لا إلى رجل واحد.
الديمقراطية هي الممارسة
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2128
27 ديسمبر 1975
عاشت مصر ما يقرب من عشرين عاما وكلمة الحاكم تثير الرعب والهلع في نفوس أبنائها، وكان المصري يتمنى في خلال هذه السنوات أن يمر اليوم وهو بعيد عن سمع الحكام.
ثم أذن الله لمصر أن تتنفس، وأصبحت الصحف تطالعنا كل يوم بشكاوى الجماهير وآلامها وآمالها، وأصبحت الصحف تنشر هذه الآلام والآمال، ولكن هل ينتهي دور الصحف عند هذا النشر.
قد يكون هذا مقبولا في دولة لم تتعرض لما تعرضت له مصر طوال السنوات الأليمة الماضية، ولكننا اليوم كمريض طال به المرض ثم وافاه الشفاء، فخطواته على الأرض متخلجة مترددة مهتزة.
والديمقراطية ممارسة قبل أن تكون دساتير وقوانين.
فحين نال شعب إنجلترا الديمقراطية في الماجنا كارتا عام 1215 كان فعلا يمارس الديمقراطية ويريدها أن توضع في إطارها الشرعي.
والحكم عندنا اليوم يناشدنا أن نمارس الديمقراطية معتمدا على أن ما بينه - الحاكم - وبين الشعب هو الحب لا الحقد، والرغبة في البلوغ إلى الأحسن للشعب جميعا لا للحكام، ومن هنا فدور الصحيفة إذن أن تردم هذه الفجوة التي وجدت بين الحكام وبين الناس لمدة عشرين عاما.
لقد زالت الفجوة النفسية التي كانت تفصل بين الحكام وبين الشعب، وبقي أن تزول الفجوة الحقيقية التي تتمثل في مصالح الناس من جانب، وفي عدم معرفة الحكام بهذه المصالح من جانب آخر، والمفروض أن الحاكم دائما يرغب في قضاء هذه المصالح بكل الجهد والقدرات المتاحة له .
ودور الصحافة المصرية وهو دور من نوع خاص تفرضه الظروف التي مرت وتمر بها مصر، هو أن يجمع الحاكم والمحكوم وصاحب السلطان وصاحب المصلحة، وبهذا تصبح الديمقراطية هي الشعار فعلا حتى إذا صدرت بها التشريعات تكون التشريعات مجرد صياغة قانونية لحالة مستقرة.
يوم يشعر الشعب بذلك لن يخفي الخمسمائة من أصحاب الملايين ملايينهم، ولن يشعر الفلاح في غيطه أنه بعيد عن السلطان، ولن يشعر العامل في مصنعه أنه مبعد عن حقوقه.
يومذاك يعرف كل مصري أنه ينال حقه، ولا يعجب أن يقع عليه الجزاء إن قصر، فلا أمل لنا في انتعاش إن لم يصحب الجزاء الثواب والعقاب والمكافأة والحق والواجب، فقديما قالوا إن الحق والواجب كوجهي العملة لا يفترقان، فإذا أعطي كل مصري الحق الذي له صح عنده أن يتحمل الواجب الذي عليه.
صادرين عن هذا الرأي رأت مجلة الإذاعة أن تبدأ بدعوة مواطنين من شعب الدقهلية ليلتقوا بمحافظ إقليمهم يقولون ويسمع.
يطلبون هم، ويعد هو، وسيشهد هذا اللقاء مندوب عن المجلة، سيكون عمله بعد ذلك أن يخبر الشعب بما أنجزه المحافظ من وعود، أو بما لم يستطع أن ينجزه، والأسباب التي وقفت به عن هذا الإنجاز، ونحن نبدأ الديمقراطية من هذا اللقاء.
إنه خطوة المريض، عاد إلى الشفاء، فإذا سلمت بنا الخطوات وثبتت منا الأقدام أمكننا أن نسير؛ لأنه لا بد أن نسير، وسنسير بإذن الله.
أخبار ... وتعليق
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2129
3 يناير 1976
تقدم بعض أعضاء مجلس الشعب للحكومة بالأسئلة الآتية: (1)
أسماء مكاتب الاستيراد والتصدير التي يديرها ويشترك أو يعمل فيها بعض الشباب من أبناء وأصهار بعض القيادات التنفيذية والسياسية. (2)
أسماء 500 مليونير مصري فورا حتى يعرف مجلس الشعب من هم هؤلاء؟ (3)
أسماء من تقاضوا عملات في الفترة ما بعد عام 1967.
والأسماء في ذاتها لا تعنينا في شيء، سواء كان ذلك في شأن أقارب الوزراء أم المليونيرات، إنما يعنينا أن يكون قريب الوزير قد استغل هذه القرابة، أو صاحب المليون قد استغل الشعب.
والحقيقة أن وجود خمسمائة مليونير بعد أن كانوا تسعة في العهد الرأسمالي أمر لا بد معه أن نبحث عن هذا النوع العجيب من الاشتراكية الذي طبق طوال السنوات الماضية.
وأعتقد أن الذي يعنينا ويعني الشعب هو الطريقة التي وصل بها صاحب المليون فأكثر إلى مليونه فأكثر، ونحن نرى أن يصرف أعضاء المجلس همهم إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الانفجار المليوني.
والقول بأننا محتاجون إلى أصحاب هذه الملايين غير صحيح، فلا يجوز للسارق أن يستغل ما سرق بل لا بد أن ينزل به العقاب.
أما التجار الذين استغلوا قلة الاستيراد وأثروا، فهؤلاء لا ذنب لهم، بل الذنب على نوع الاشتراكية الذي أتاح لهم ذلك، وفي ظل الانفتاح لن يستطيعوا أن يعودوا إلى هذا الاستغلال، فليبحث المجلس إذن عن الموظفين الذين أصبحوا مليونيرات، ولا شان له بغيرهم، لأنه لا جناح على غيرهم!
سقط الصنم ... ولم تسقط القاعدة
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2130
10 يناير 1976
أتصور أنه في عهد عبادة الأصنام كان هناك فريق من الناس لا عمل له إلا أن يجلس بجوار هبل وغيره من الأصنام، يرفع عقيرته بمعجزات الصنم وما يناله قصاده من خير على يديه، داعيا الناس أن يزيدوا من الأموال التي يقدمونها للتمثال، مؤكدا أنهم كلما زادوا مالا زادهم خيرا ومعجزات ومنجزات.
وأتصور أنه حين أشرق النور وتهاوى الصنم - لأن الأصنام لا تعيش في النور - أتصور أنه بقي من الصنم قاعدة، وهذا الفريق الذي كان يعيش على النصب، والأكاذيب، والادعاء الباطل، والشعار الزائف، والاحتيال المقيت، ويجد هذا الفريق نفسه بلا مورد يعيش عليه، ولا ناس يحتال عليهم إلا قلة قليلة لا ترى إلا في الظلام، ولا تحيا إلا في السراديب، ولا تتنفس إلا العفن، ولا تأكل إلا لحم البشر، ولا تشرب إلا الدماء الآدمية.
ويدور فريق الصنم المنهار حول القاعدة المهيضة المحطمة، يطلقون المباخر ويرفعون العقائر، ويستجدون النفع الذي زال عنهم، فهذه القاعدة هي كل ما بقي منهم، وبغيرها لا حياة لهم؛ لأن حياتهم قامت أول ما قامت على هذا البهتان، ولو كانوا يملكون صنعة غير طبولهم ومزاميرهم التي كانوا يدقونها وينفخونها هتافا للصنم، وأصبحوا يدقونها وينفخون فيها نواحا عليه، لذهبوا إلى صنعتهم تلك ونسوا ما كان من أمر الصنم والقاعدة، ولكن من أين وهم عجزة إلا عن الهتاف، جهلة إلا عن الاحتيال، أغبياء إلا عن السلب والزور والغش والسرقة؟
ولكل فترة زمن صنم يقيمه الناس من الدماء، ثم لا يلبث الناس أن يتبينوا مقدار ما امتص الصنم من كيانهم، ولهذا فلا بد لكل صنم أن يسقط وينهار، ولا بأس أن تبقى القاعدة حينا يلف حولها هذا الفريق من نفاية البشر، ويمر الزمن بالنور فتمحى القاعدة كما امحى الصنم، وتصبح النفاية عدما من العدم ولا يبقى إلا الإشراق والنور والضياء، فإنه يمكث في الأرض وفي السماء.
... وفي أي شيء صدق؟!
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2135
14 فبراير 1975
أية غريبة أن يقال ما يقال؟ وما المال وقد سرق أمننا، ولص كرامتنا، وامتص دماء أبنائنا، وأهدر على رمال سيناء شرف مصر والعرب وتاريخ أمة ومستقبلها ...
وفي أي شيء صدق حتى يصدق في ذمته؟!
قال ارفع رأسك يا أخي، وحطم كل رأس فكر في الارتفاع، أو فكر فقط، وأبى أن يجعل أحدا من الناس أخا، بل أرغم الجميع أن يكونوا عبيدا له، أو هم أعداء.
قال ديمقراطية: ثم فشا وحده مسعورا، منفردا بالحكم، مسئولا وحده عن كل خفقة نفس في البلاد.
وقال قضينا على الإقطاع، فإذا بأصحاب الملايين في عهد الرأسمالية كانوا لا يتجاوزون أصابع اليدين عددا، فأصبحوا خمسمائة نتيجة لعهده، ثروة الواحد منهم مهما تبلغ من الضآلة تلتهم ملايين الإقطاع جميعا والإقطاعيين.
وقال ثورة بيضاء، ثم أهدر دماء الشباب في حروب اليمن وحربي سيناء من أجل مجده الشخصي، ومن أجل خراب مصر في دمائها ومالها وكرامتها.
وأسال الدماء - في خسة غادرة مجرمة - وراء أسوار السجون والمعتقلات.
قال الشرف وهدد الرجال في عفة زوجاتهم وشرف بناتهم وأخواتهم.
قال تكافؤ الفرص وأغدق الأموال على أبنائه، حتى لقد كان الواحد منهم يلهو بقيادة طائرة لا يحلم أغلب الشعب أن يركبها مرة في حياته ، وتقدمت ابنة له تفكر في شراء أرض يتجاوز ثمنها مائة وخمسين ألف جنيه، ولقب ابنه بالمليونير في إذاعة لندن، وسكب أموال الدولة على إخوته وعلى كلابه من ماسحي أحذيته، ولاعقي نعاله، فهم ينبحون باسمه حتى اليوم، وقد فجعتهم فيه الفاجعة، وزالت من أفواههم دماء الشعب التي أتاح لهم أن يمتصوها، تؤيدهم في نباحهم فئة أخرى اعتدى عليهم في المعتقلات، وجعل زوجاتهم بلا موئل لطول حبس الأزواج، ولحبس المال عنهم، ومع ذلك ينبحون باسمه مع كلابه النابحة.
لأن الحكم الجديد
قال الله.
وقال الحرية.
وقال القانون.
ونفذ ما قال وانتصر.
في أي شيء صدق؟!
قال الرجل المناسب في المكان المناسب، ثم اختار أهون الناس وجعل منهم رؤساء على العمالقة، ووضع في أغلب المناصب رئيسا جاهلا؛ لأن الجهلاء هم علماء النفاق، فانهار العمل في الحكومة وفي القطاع العام، وحين قال محافظ من علمائه: أعطي القانون إجازة، رقي إلى وزير؛ لأنه عبر عن شعار الدولة.
في أي شيء صدق؟!
دعا إلى الاشتراكية، وعاش، وعاش خدمه والمحظوظون من أتباعه عيشة تتضاءل عندها عيشة الفجار من العاهرين في الرأسمالية، فسمعنا عن فواكه تأتي بالطائرات، وعن سيارات نقل تحمل الفراء والسجاجيد، ويعلن هذا علينا حين يغضب على الفاعل، ويستره علينا حين يترضاه ويضع رأسه تحت قدميه.
ألا إلى غير رجعة يا زمن الهمس والصراخ، والنوم المفزع، والقلق الشائع، والخوف المبيد، والعرض المباح، والدم المسفوك، والشرف الجريح، والتاريخ الممزق، والأمل المظلم، واليوم الكالح، والغد العبوس، والحق المضاع.
ويقولون اكتموا على السرقات أن تذيع، فإنها إن شاعت أحجمت أموال العالم عن مصر والانفتاح! جهلوا الحقيقة، لن تأتي الأموال وأصحابها يعرفون أن اللصوص هنا تتخفى وراء الأستار تحمل معها التشكيك في أمانة بلادنا، يوم تتكشف الحقائق ويعرف العالم أننا أصبحنا على الطريق القويم، شريفة أيدينا، واثقة نفوسنا، مطمئنا اقتصادنا، يأتي إلينا أصحاب الأموال شرفاء واثقين مطمئنين، والحق دائما بالدول أجدر.
مصر هذه ... هي التي ستبقى
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2136
21 فبراير 1976
على ضفاف نهرنا ولدت الحضارة وازدهرت أديان السماء، وبقيت في أبناء هذه الضفاف شمخة الماضي، ترتفع بهم عن أي حقد، وتسمو بهم عن أي صعاب، وتمر الأيام وتحاول أن تطحن عزيمتنا فنطحنها نحن بابتسامة على فمنا نلقى بها الحياة، وكأننا نرى في وجه الحياة ابتسامة لا تخبو.
ونحن أبناء هذا الوادي لا نبيت إلا وشعاع من التفاؤل ينساب في نفوسنا، ترى الفتى منا فقيرا مهزولا معدما مهلهل الثياب، ولكنه غني النفس يملأ الدنيا غناء وطربا كأن الدنيا ملك له، بل إن الدنيا كلها لا تعنيه، وفيم يعنى بها وهو يعلم أن الآخرة خير له من الأولى وأن سوف يعطيه ربه فيرضى؟
نرى السعادة في كل شيء، فإن لم نرها صنعناها بنفوسنا من إشراقة شمس، من ندى على وردة، من حنين كروان، من زقزقة عصفور، من اخضرار شجرة، من جمال غصن، من دعاء نخلة مشرئبة إلى السماء، من ظل سحابة في صيف، من دفء شعاع في شتاء، من نسمة طيبة في قيظ، من لقاء صديق، من تحية ود، من غروب شمس، فيه أريج الغيب وفيه وعد بلقاء الغد.
ثم ننام.
وننسى ما كان في يومنا واثقين أن اليوم القادم خير من اليوم الماضي، وأن الحياة لا تستطيع أن تحمل لنا بين طوايا غيبها إلا الحب؛ لأننا في أعماق أعماقنا لا نعرف إلا الحب.
إن تكن مرت علينا سنوات بدت فيها منا كشرة أو كراهية للعالم حولنا، فالسنوات قد مرت ولم يبق إلا الأصيل من طباعنا الذي عبرنا به الأجيال إلى الأجيال.
وسنعبر به الأجيال إلى الأجيال.
بقيت مصر الحب.
مصر الحضارات.
ومصر المنتسبة إلى أديان السماء ...
بقيت مصر هذه ... ومصر هذه هي التي ستبقى.
أنا أكتب
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2139
13 مارس 1976
هذا القلم الذي أضم أصابعي عليه تعود أن تنضم عليه أصابعي وحدها دون أن تتخللها أصابع أخرى، لا أستتبع إلا ضميري، ولا أستصفي إلا مشاعري.
حر هذا القلم، ولذلك يعيش في عهد الحرية صريحا لا يرمز، واضحا يطلق الكلمة الواضحة بلا خبيء لها يتخفى وراء الحدث، أو وراء الأشخاص .
عاش القلم الذي أضم عليه أناملي فترة طويلة يرمز لا يبين، يومئ لا يعلن، حتى إذا جاء العهد الذي نعيش فيه استبان لفظه وأعلن كلمته.
وها هو ذا الاتحاد الذي تنضوي المجلة التي أشرف عليها تحت رئاسته يعارضني، ولكنه يطلق لي الحرية ويعلن رأيه واضح المخالفة لما أرى.
ولكنني مع ذلك لم أنقل، ولم أرفت، ولم أصادر.
ذلك لأن اتحاد الإذاعة والتليفزيون جهاز حر، يعمل في ظل حكم حر.
ورئيس حر.
يريد الحرية لمصر، ولأبناء مصر.
لأنه يريد المجد لمصر.
لا حقد اليوم
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: 2140
20 مارس 1976
إن تكن قد وجدت الحقد في عناصر التركة يا سيدي الرئيس، فلا جناح عليك فقد محوته.
ليس في مصر اليوم مصري حاقد، لقد استطعت بالحب أن تمحو كل ما كان في النفوس من حقد، وما يتكلم واحد منا إلا من منابع الحب التي أصفيت، ومن فيض السماحة التي أغدقت.
لقد عارضتك في يوم ووقعت على بيان غضبت منه، وأعلنت غضبك هذا أرفق ما يكون الإعلان، ثم ها أنت ذا تتيح لي أن أجري قلمي في حب مصر، ولا يفعل هذا إلا رجل يعرف كيف يمنح الحب، ولا حقد مع الحب.
نسينا يا سيدي الرئيس ما كان، وأحببنا أيامنا مهما تكن شديدة، لا أمل لنا اليوم إلا حب مصر ... مصر التي لا تعرف إلا الحب، في مصر الحب هذه يا سيدي نبتة من غرس النبوات تجعل شعبها ينسى ما يسيء ويذكر ما يسعد.
في مصر الحب هذه نسمة مباركة من أنفاس الملائكة تجعلنا لا نطيق أن تحمل بين جوانحنا إلا الحب.
اختلف على حكمنا ناس وناس، واحتلنا المحتلون ومر بنا التاريخ وئيد الخطو شديد المراس، ولكن ناس مصر لم يبق في نفوسهم إلا الحب، فإن عراهم الحقد فترة فما هي إلا هنيهة في عمر الزمن ثم إلى الحب نعود.
إن تكن التركة المثقلة قد شملت الحقد فيما شملت.
فقد كان فيها أيضا الهزيمة وجعلتها نصرا.
وكان فيها - كما قلت - العائلة العربية الممزقة فجمعت بددها ، ورأبت صدعها ورتقت فتقها.
وكان فيها عالم يكرهنا من شرق وغرب، فأرغمته على احترامنا، ثم أحس بالحب عندك فإذا هو يحبنا.
أما الحقد يا سيدي الرئيس فقد زال يوم أقفلت المعتقلات وأطلقت السجناء، وأرسلت الكلمة حرة نظيفة تمرح مرتاشة الجناح في سماء مصر الخالدة.
سيدي الرئيس، هناك بيت قديم لعزيز أباظة أحب أن أهديه إليك:
بك الدهر كفر عن ذنبه
وألقى مقاليده واعتذر
إن الكرام بحفظ العهد تمتحن
الأهرام - العدد 32648
30 أبريل 1976
لا يستطيع أدب أن يعيش إذا قامت فروع له من جذور بعيدة عن تراثه، وكل أدب في العالم يعيش في ظل التراث الذي ينتسب إليه.
فالأدب الإنجليزي ما زال يعتبر رواده الأوائل هم الآباء الشرعيين لفنون أدبهم الحديث على الرغم من أن المسرح والرواية والقصة فروع قديمة أصيلة في الأدب الإنجليزي، إلا أن الأدب الإنجليزي ما زال يحتفل برواد فنه الأوائل، ولا يتعالى عليهم ولا يقطع صلاته بهم.
ولكن الأدب العربي أصابته بآخره كبرياء مزيفة لا تعترف بالتراث ولا بالأصول الأصيلة لأدبنا.
ترى هل يخجل أدباؤنا الشباب من تراثهم أنه كان خلوا من الرواية والقصة القصيرة والمسرحية؟ وهل يعتبر الشباب الاهتمام بالمتنبي والبحتري وأبي تمام حتى البارودي وشوقي الخالد نوعا من الرجعية والجمود؟
هل هؤلاء الشعراء وشعرهم يمثلون فكرا متخلفا لا يجوز للنابهين الأذكياء الرافضين لكل أصل قديم أن ينظروا إليه أو يستلهموه أدبهم أو يثروا أسلوبهم بأساليبه؟
ألا يستطيع هؤلاء القافزون إلى العبقرية من شبيبة الأدباء أن يعرفوا تراثهم ويستفيدوا منه، ليطوروا أدبهم بعد ذلك ويسيروا به في الآفاق الواسعة التي يريدون أن يرودوها؟
وهل هذا الرفض من الشباب وليد دراسة أم وليد جهل؟ أم وليد تسرع للشهرة دون دراسته؟
زارتني أديبة إنجليزية منذ أعوام ودعوت شابا من هواة الأدب أن يكون معنا، فكانت الأديبة الإنجليزية تكلمه عن المتنبي وشوقي وبديع الزمان ... ويكلمها هو عن شكسبير وإليوت وديكنز حتى لم تستطع الأديبة الإنجليزية آخر الأمر أن تتمالك نفسها، فقالت له: «لك أن تكلمني عن أدبائي ولكن بشرط أن تكون درست أدباء لغتك أولا، فأنا لم أجرؤ على دراسة الأدب العربي إلا بعد أن فرغت من دراسة الأدب الإنجليزي وامتحنت فيه ونلت شهادتي.»
والواقع أن الأدب العربي إن لم يعتمد على تراثه في كل مناحي فنونه فمصيره أن يذوي ويفنى ويصبح بلا وجود.
فنحن إنما نكتب الأدب العربي للشعب العربي، ويستطيع القارئ في العراق وسوريا والأردن أن يفهم عنا نحن الكتاب المصريين، وأن يدرك المشاعر التي تموج بها نفوسنا وأن ينبض نبضنا ويتنفس الهواء الذي نتنفسه.
أما القارئ الأوروبي فهو بعيد كل البعد عن لغتنا وعن مشاكلنا، وإذا قرأ عنا فقراءته ستكون قراءة جغرافية أكثر من قراءة أدبية، فالأدب مرتبط بلفظه بقدر ما هو مرتبط بمضمونه، ولقد فهمنا نحن الآداب الغربية؛ لأننا منذ الطفولة على صلة بحياة الناس هناك، ولأنهم هم رواد الرواية والقصة والمسرحية، وكان لا بد لأشكالهم الفنية في هذه المجالات أن تفرض نفسها علينا، أما نحن فإنهم لا يكادون يعرفون عنا شيئا فإذا قرءوا فلينظروا كيف يعيش هؤلاء الناس الذين يسمون عربا.
فالارتماء على أدبهم وطريقة تفكيرهم الأدبية، والحرص الشديد على تقليد أسلوبهم دون الانتماء إلى تراثنا يجعلنا أشبه بالقرود في نظرهم وفي نظر قرائنا على السواء.
وإني لأعجب من الأدباء الشبان حين أسمعهم يقرءون قصصهم في الإذاعة أو في الندوات العامة، فأجدهم لا يكادون يقيمون كلمة عربية صحيحة، وقد اتخذ أغلبهم أسلوب الجمل القصيرة البرقية في قصصهم، فأعفى نفسه من التركيب العربي للجملة، وهو مع ذلك عاجز عن نطق جملته الأعجمية.
وإني لأحس في كثير مما أقرأ من الأدب الحديث أن الأديب من هؤلاء يريد أن يقول شيئا ولكن الكلمة لا تكاد تسعفه، ويوشك لولا الخجل أن يقولها في لغة أجنبية، بل إن بعضهم لا يخجل ويفعلها.
وأنا أعرف أن المدارس المصرية لم تعد تهتم باللغة العربية الاهتمام اللائق باللغة التي نعيش بها، ولكن الأديب الذي يريد أن يصبح أديبا لا يجوز له أن يعتذر بذلك، فإن عليه أن يعلم نفسه اللغة التي يريد أن يصبح أديبا من أدبائها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدراسة العميقة للتراث العربي من شعر ونثر، ثم عودا إلى العنوان؛ إن الكرام بحفظ العهد تمتحن!
ثروت أباظة
نحن أقوى من الحياة
الأهرام - العدد 32653
5 مايو 1976
ليس في مصر من لا يعلم أن هناك أزمة جارفة تحيط بنا، سواء كان ذلك متمثلا في عدم توازن دخل الفرد مع متطلبات الحياة، أو كان ذلك في الخدمات العامة، ومن المضحك المبكي أن تقدم الجرائد كل يوم دليلا على ذلك، كأن الأمر ما زال يحتاج إلى دليل، ومثل ذلك يقبل إذا كان المسئولون لا يعرفون ذلك ويحتاجون إلى من ينبههم إليه، ولكن الشواهد جميعها تدل على أن المسئولين أكثر علما منا نحن أفراد الشعب بهذا الانهيار الذي نعانيه، ولذلك كان صديقي محقا حين سألني: اكتبوا لنا ماذا علينا نحن أفراد الشعب أن نعمل، ولا عليكم من الماضي فقد عرفنا ما كان فيه، ولا عليكم أيضا من هذه المتاعب اليومية التي نعانيها في الرزق أو في الخدمات العامة، فكل فرد منا أدرى بأزمته من الآخرين، إنما وظيفتكم الآن أن ترشدوا الناس كيف يواجهون حياتهم اليومية تلك.
هو محق في هذا الطلب؛ لأن الناس تعودوا أن يطلبوا النصح ليسخروا من الناصح، أو ليعملوا عكس نصيحته.
إن كل فرد في الشعب المصري يعرف كيف يواجه يومه، وهو لا يحتاج في ذلك إلى نصيح أو مرشد، وأكثر ما يثير ضحكي وألمي معا كلمة التوعية العامة التي أصبحت منتشرة الآن بشكل يدل على الجهل الفاضح بنفوس الناس، ولأضرب بذلك مثلا من هذه الإعلانات الساذجة التي تدعو إلى تحديد النسل، كأن الناس يعرفون أنه كلما جاء لهم طفل جديد فتحت لهم أبواب جديدة من الإنفاق، وكم أتمنى أن أعرف إحصاء عما أحرزته هذه الجماعات وهذه التوعية من نجاح في تحديد النسل، وإني واثق من النتيجة.
إن الناس لا تحتاج إلى من يرشدهم كيف يتغلبون على الأزمة، ويكفيك أن تلقي نظرة على الوجوه، إنها لا تعبر مطلقا عن مقدار الأزمة التي تعانيها ، يبدو أن في داخل كل فرد منا جهازا يجعل الإنسان يتكيف مع واقعه ويخلق للأشخاص أبوابا من الأمل ولو كانت وهمية، إلا أنها قادرة على جعله يتقبل الحياة كما تدور به الحياة.
والمثل العامي المعروف يومئ إليك إلى أي مدى يستطيع المصري أن يسعد من داخله مهما تكن الظروف المحيطة به: «كل موال ينزه صاحبه»، لكل مصري موال ينشده أو تتغنى به نفسه، فيرتد إليها هدوءها وتشيع فيها الطمأنينة، ويتسرب الأمن إلى حناياها، ويحيا الناس.
قد يكون موال بعضنا بسمة طفل، أو تهريج مهرج في التليفزيون، أو حديث سخيف في الإذاعة، أو شعور لا معنى له بالصحة والعافية، أو أي شيء قد لا يخطر على بال أحد أنه يسبب أي سعادة، فالنفس البشرية عجيبة في قلب الأشياء إلى مصادر للرضى والهناء، إن الشعب المصري الذي مرت به هذه الظروف الطاحنة أصبح يستطيع أن يصدر إلى العالم أجمع - في شرقه وفي غربه، في بؤسه المادي وفي ثرائه الفاحش - شيئا لا يملكه هذا العالم الواسع العريض، هو السعادة، السعادة التي تنبت وتنمو وتتفرع وتزدهر داخل النفوس بلا تعقيد ولا ثراء ولا مواصلات هانئة ولا تليفونات صالحة، إنها سعادة بلا معنى ولكن لها مصدر نعرفه نحن - المصريين - ولا يعرفه غيرنا من شعوب الأرض، إنه الإيمان العميق في خلايا تاريخنا، وفي كل أنحاء نفوسنا، ونعيش ونضحك، ولتدر بنا الحياة حيثما تريد أن تدور، فنحن دائما - كنا وما زلنا وسنظل - أقوى من الحياة.
العدالة والقانون ... وحرية الكاتب
الأهرام - العدد 32655
7 مايو 1976
في ظل حرية الصحافة تختلف النغمات، فيقبل الناس على ما يكتب الكتاب، فإن توحدت النغمة أصبحت طبلا أجوف يملأ الهواء ضجيجا ولا يسمعه أحد، ويصبح الكلام رخيصا ولا يحترمه من يستقبله.
والقلم أمانة، وويل لكاتب يخون أمانة قلمه، إن أبسط ما ينزل عليه من عقاب أن ينصرف عنه القراء، ولا كاتب بغير قراء.
وليس كاتبا مصريا من يتغيا غير مصر غاية، لها حياتنا ولها نموت، وباسمها نجوب الدنيا شم الأنوف، مرفوعي الهامات، أباة كراما .
لأننا نحيا نقول رأينا تأييدا أو معارضة، ولمن يقرأ ما نقول أن يحكم عليه، وله - بطبيعة الحال - أن يختلف معنا أو يتفق، فالكاتب لا ينزلف للناس ولا يداهن مشاعرهم وآراءهم أجمعين، وإنما هو يستوحي ضميره فيما يكتب، وضميره هو الحقيقة الوحيدة التي يستطيع أن يطمئن إليها. وقد يغضب بعض الناس، وقد يرضى بعض آخرون، ولكن المهم أن يكون الكاتب صادقا مع نفسه، وحينئذ سيكون صادقا مع الناس، فإذا اختلفوا مع الكاتب في الرأي فسيظلون على احترامهم له، فإن شعر إنسان ما أن الكاتب اتهمه بما ليس فيه، فالقانون هناك ينتصف لمن ظلمه قلم الكاتب، ويرد إلى المعتدى عليه كرامته أنصع ما تكون؛ لأنها حينئذ ستكون بريئة نقية بحكم القضاء الذي لا يتحيف ولا يطلق الأحكام إلا بعد إعمال الرأي النزيه البعيد عن الغرض والعواطف جميعا.
ولذلك فإنه لا حرية بلا قانون، الحرية بلا قانون فوضى، وفي ظل الفوضى تستطيع أن تعتدي على الآخرين، ولكن الآخرين أيضا يستطيعون أن يعتدوا على حريتك وعلى كرامتك وعلى مالك وعلى كل ما تقدسه، فالفوضى لا تقدس شيئا ولا تنتهي عند أمد.
والحرية المعتمدة على ركيزة القانون تجعل الكاتب يحس أن أصابعه طليقة حول قلمه، لا يحيط بها إلا القانون العام الذي يحميه كما يحمي خصومه، وبغير الحرية لا فن، وخاصة في الأدب؛ لأنه مرتبط بالكلمة، والكلمة لا تتنفس الحياة إن لم تكن حياة حرة طليقة، وهي لن تعيش في ظل القهر أو الإرهاب، إنها إن ولدت مع قهر أو إرهاب ولدت ميتة لا قيمة لها ولا وجود، والكلمة الميتة قتيل يعلن قاتلها عن جريمته، ويشهر بنفسه ليصبح أمام الناس قاتلا محقرا؛ لأنه ارتكب جريمته دون أي مبرر من خلق أو شرف ضمير.
والكلمة الحرة إذا تنفست الحياة وعاشت، ظلت تطن في آذان الزمان إلى أبد الآبدين، ولهذا كان الطغاة يخشون الكلمة أكثر مما يخشون الجيوش، فحين اجتاح الطغاة العالم حرصوا على إحراق الكتب؛ لأن الكتب كانت تخيفهم وترعبهم وهم الذين كانوا يخيفون العالم ويملئونه رعبا ، وكما خافوا الكلمة كانوا يخافون القانون؛ لأنهم أمام القانون ليسوا أسماء وإنما هم أشخاص، ولهذا ترسم العدالة معصوبة العينين وإن كانت مبصرة، فهي ترى الحق وتعطيه لصاحبه، ولا يعنيها من يكون، ومع العدالة والقانون تعيش الحرية دائما في وئام.
ثروت أباظة
كن مصريا واعتنق ما شئت
الأهرام - العدد 32656
11 مايو 1976
من مفكرة ثروت أباظة
نشأت فكرة العقد الاجتماعي عند روسو، والفكرة في مجملها تقول إن هناك عقدا غير مكتوب بين الفرد والدولة، ويتنازل فيه الفرد عن جزء من حقوقه لتضمن له الدولة الحقوق الأخرى، فهو يقدم لها ضريبة الدم متمثلة في الخدمة العسكرية الإجبارية لتحفظ عليه دماءه ودماء من يعولهم، ويقدم ضريبة المال لتحفظ له الدولة بقية ماله، ويقدم ضريبة الحرية بإطاعة قوانين الدولة لتحفظ له الدولة حريته، وبناء عليه يكون الفرد حاملا عبء المجتمع كله مقابل ما يسبغه عليه المجتمع من أمن وحرية، ويقول رجال القانون إن الحق والواجب كوجهي العملة، لا يفترقان.
فليست الدولة إذن مكانا مباحا يقيم فيه من لا يطيع قوانينه ولا يرعى حرماته ولا ينظر إلى صوالحه، إنه مكان تتعلق به حياة الإنسان الذي يؤدي له ما عليه من واجبات، فإن خان هذه الواجبات سقطت حقوقه، وجاز للدولة أن ترفضه فردا من أفرادها وجاز لها أيضا أن تحجب عنه الجنسية، وتتركه هائما في العالم بلا وطن، وفي داخل الدولة تختلف الآراء، ويجب أن تختلف، لكل إنسان في الوطن أن يختار المذهب الذي يعتقد أنه يحقق أكبر فائدة لبني وطنه، ولكن هذا الاختيار لا بد أن يكون منبعثا من حبه لوطنه، وهادفا إلى مصلحة أبناء هذا الوطن.
أما إذا تلقى الفرد مذهبه من دولة أخرى، أيا تكون هذه الدولة؟ وإذا اعتنق مذهبه هذا لا لشيء إلا لأن دولة ما تريد له أن يعتنقه، فحينئذ يصبح هذا الفرد غير مصري، وتسقط حقوقه جميعا، فنحن حين نؤدي للدولة ضريبة الدم والمال والحرية؟ إنما نعبر بذلك عن إخلاصنا للوطن تعبيرا مجسما؛ لأن الإخلاص للوطن مفروض في كل مواطن، لا يمحي عنه إلا حين يبدو من المواطن غير ذلك.
وبعض المواطنين ينتهزون فرصة الحرية ويلقون أسماعهم - وربما أيديهم - إلى بلاد أخرى، هؤلاء ليسوا مصريين، وهم أشد خطرا على المصريين من الأعداء الصرحاء، فالعدو الصريح تعرفه وتستطيع أن تتقيه وتستطيع أن تهزمه.
أما المصري الذي يعيش في نسيج الشعب المصري وينتمي بمشاعره وولائه إلى غير شعب مصر، فلا سبيل إلى اتقائه؛ فهو عدو يتخفى في دماء المصريين، وحين يكشف أمره يكون قد خرب ما خرب ودمر ما دمر.
كن مصريا واعتنق من المبادئ والمذاهب ما شئت، واجهر برأيك، ولكن فقط اجعل رأيك ينبع من أعماق قلبك المصري، ومن إخلاصك لوطنك، لا لشيء آخر، مذهبا كان هذا الشيء أو دولة أو فردا.
الليل ومحطة القذافي
حين يخلو بك الليل قد لا تجد ما تفعله إلا أن تعبث بمؤشر الراديو، وفي الظلام لا يرى المؤشر طريقه، وقد يقف حيث لا يريد، فلم يكن غريبا أن أجد محطة القذافي تطل من الراديو.
عجيب أمر هذا القذافي؛ فهو ديكتاتور كأوضح ما تكون صورة الديكتاتور، يستأثر بالحكم وحده بلا نصيح ولا مشير، ويقذف الرعب في قلوب الأحرار من بني وطنه، وهو بحكمه المتشنج يرغم أهل الرأي والكفاءة أن يتركوا البلاد إلى غير رجعة، وهو لا يسكت عنهم في البلاد التي لجئوا إليها، يخاف أن يكشفوا من أمره ما يريد أن يستره، فيتعقبهم بقابض الأرواح والأموال، ويدبر مع القتلة المحترفين مؤامراته في اغتيال للزعماء الذين يكرمون أنفسهم عن إطلاق الشعارات الكاذبة، ورفع اللافتات الخادعة، والذين لا يبرح بهم الشوق العارم إلى الزعامة العربية.
ولا شك أن المال الذي يجري بين يديه يجعله يتصور أنه بماله لا بد له أن يكون زعيم العرب أجمعين، فأمثاله من الزعماء الشغوفين بحب العظمة لا يفكرون في خير بلادهم وإنما يفكرون في أمجادهم الشخصية، ولتذهب بلادهم إلى الجحيم.
وينسى هؤلاء أن المال الذي يدمرون هو مال بلادهم وليس مالهم هم، وإن هذا المال يجب أن يستثمر ليعود على بلادهم بالتقدم والازدهار.
ينسون هذا جميعه، أو يقصدون أن ينسوه ليذكروا شيئا واحدا هو أن يوسعوا رقعة زعامتهم المزعومة، مهما يحل ببلادهم من دمار.
وفي سبيل هذا تسفك الدماء وتنهار الدول، وتستشرى الفتن وتحطم الوحدة، ويهدم الكيان العربي الذي التأم شمله وارتأب صدعه في حرب رمضان.
ويزداد القذافي غضبا حين ينتصر الزعماء الآخرون بالعمل لا بالألفاظ، وبالحرب لا بالهتاف، وبالدم لا بالصراخ.
ولذلك فمصر تنال من أدبه واهتمامه أوفى نصيب، فهي أشد الدول إثارة لمكنون صدره لا لشيء إلا لأنها انتصرت.
كان يجب عليها أن تنهزم حتى يرضى القذافي وأعوانه والمتحدثون بآماله وأمواله، والراكبون حصانه بعد أن نفقت من تحتهم الأحصنة الأخرى، فهم يعجزون أن يسيروا في زحام الناس إلا بخيل الآخرين، فإن عزت الخيل فلا بأس بالحمير يتوكئون عليها ويهتفون بنهيقها، وقديما قال الحكيم العربي «الذليل بغير قيد متقيد، كالكلب إذا لم يسد بحث عن سيد».
الخبرة والإدارة
صديقي رجل عالم تخرج في كلية العلوم، وكان فيها من النابهين، فأبى أن يقف به العلم عند شهادة التخرج، فأخذ سمته إلى إنجلترا وظل بها حتى حصل على الدكتوراه في صناعة الأقمشة، وعاد إلى القاهرة.
إلى هنا وإخالكم ستكملون أنتم القصة وتقولون أي جديد فيما ستروي؟ لا بد أنه عاد ليجد نفسه معينا بمصنع للسيارات، أو في الإدارة القانونية لإحدى المصالح الحكومية أو الشركات.
والعجيب أنني سأخلف ظنكم، فإن صاحبي قد عاد ووجد مكانا في شركة من شركات النسيج، وعين خبيرا فنيا فيما تخصص فيه، وقد شاء الحظ أن يقف إلى جانبه مرة أخرى فوجد رئيس الشركة زميلا له رافقه في المدرسة الثانوية، ثم انشعبت بهم الطرق فدرس صاحبي في كلية العلوم ودرس زميله في كلية الآداب قسم تاريخ.
طبعا اندهش صاحبي حين وجد شركة النسيج تضع على رأسها متخرجا في كلية الآداب قسم تاريخ، فهو فيما تعلم في القاهرة أو إنجلترا لم يدرس أن هناك صلة ما بين التاريخ وصناعة الأقمشة، ويقول: حتى إذا كان هناك تاريخ لصناعة النسيج، فأنا أعتقد أنه ليس ضمن برنامج كلية الآداب قسم التاريخ، فما أعتقد أن قسم التاريخ يدرس تاريخ الصناعات وإنما يدرس تاريخ الدول، المهم أن فرحتي بوجود زميلي جعلتني أتغاضى عن هذا التناقض، وفرحتي بعملي جعلتني أنصرف إليه بكل خبرتي.
بدأت عملي وإذا بصديقي ورئيسي يريد أن يتدخل في أدق خصائص عملي، ودهشت أول الأمر.
نعم هو أنيق، وهو لا شك ذو خبرة واسعة في اختيار لون القماش الذي يفصل منه حلته، واختيار لون القميص الذي يتماشى مع هذه الحلة، ثم هو ذو خبرة فائقة في اختيار الكرافتة التي تواكب الحلة والقميص جميعا، ولكنه من المؤكد لا يستطيع أن يعرف مم صنعت الحلة أو القميص أو الكرافتة.
ولا تقل لي أي عجيبة أن يتدخل رئيس في أعمال شركته، فهو يعلم كما نعلم - وإن ظن أننا لا نعلم - أنه وصل إلى منصبه هذا بوسائل بعيدة كل البعد عن إتقان صناعة النسيج، وهو يعلم - ويظننا لا نعلم - أنه عين أول ما عين بهذه الشركة لأسباب لا تتصل مطلقا بخبرته في النسيج، وإن كانت وثيقة الصلة بخبرات أخرى يستطيع كثير من الناس أن يتقنوها ويعف كثير آخرون أن يتخذوها وسيلة في الحياة.
فصديقي خبير من أكبر خبراء فن النفاق، وهو في نفاقه يستغني تماما عن الحياء، ولم يكن عجيبا أن يجد آذانا تصغي لنفاقه؛ لأن هذه الآذان نفسها كانت معينة في مناصب وصلت إليها بخبرة النفاق وامتهان الكرامة، ولا صلة لها بإتقان العمل أو الخبرة فيه.
وأرى في عينيك سؤالا: وأي عجيبة فيما تروي؟ ... نعم أنا أحس أنك تسخر مني في نفسك قائلا: لقد غاب الفتى فترة خارج البلاد وعاد إليها لا يدري من أمرها أمرا، هون عليك ولا تعجل بالتذاكي والتحليل.
كل هذا الذي رويت ليس عجيبا، ولكن كان من المنتظر أن يعرف صديقي حقيقة خبرته ويترك الأمور تسير في شركته بخبرة الآخرين وذكائه هو، فلا يتعرض لما يفهم حتى لا ينكشف أمام أهل الخبرة، وهو يتمشى تماما مع بعض الذكاء الذي يجب أن يتوفر عند المنافقين.
وأحس رئيسي ما يدور في نفسي من سخرية بجهله، فزاد على جهله التعالي والتعاظم مصرا أن يذكرني دائما أنه رئيسي وأنني مرءوس، فسكرتيرته تمنعني من الدخول، وحين أحتال على ذلك وأطلبه بالتليفون تأبى أن توصلني به، مدعية أنه مشغول بوفد أو اجتماع، أو بما شئت من هذه الحجج التي لا تتقن السكرتيرات غيرها مع الابتسامة الإكليشيه الباردة، فإن رجوتها أن يطلبني حين يفرغ من وفده أو اجتماعه أو ما شاءت أن تختلقه له من معاذير، وعدت في أدب مصطنع ثم لا طلب، والعمل يحتاج إلى التشاور ولكن كرامة العالم تحول دون ذلك.
وأنا في حيرة.
وانصرف صاحبي بعد أن ألقى إلي بحيرته، وتسألني أنت أيها القارئ ما اسم الشركة وما اسم الرئيس، لا إله إلا الله، أتريدني أن أصرح لك بكل شيء، ألا تعرف الأدب الرمزي أيها القارئ، لا شك أنك تعرفه فقد مرنت عليه سنوات طوالا، وما عليك لو أنك وضعت كلامي هذا في إطار الأدب الرمزي، فإنك بذلك تستطيع أن تطبقه على من شئت!
ثروت أباظة
التعليم مسئولية الدولة والثقافة مسئولية الفرد
الأهرام - العدد 32662
14 مايو 1976
كان لي قريب شاعر هو المرحوم توفيق عوضي أباظة، ولعله من أرق من عرفت من الشعراء، أذكر له شعرا كثيرا، فهو يقول مثلا لصديق له يذاكره أيام أنس عاشاها معا:
وعلى اقتراحك قد نزلت
وقد نزلت على اقتراحي
فتمازجت أرواحنا
كالراح والماء القراح
وقد أهدي إليه مرة عمامة، فهو يقول لمن أهداها له:
توجت رأسي بالعمامة
وكسوتني حلل الكرامة
فكأنني شيخ المراغة
في المهابة والفخامة
وكان قريبي هذا فلاحا يعمل بالفأس، فهو يرسل برقية إلى أبي يقول فيها:
قل للوزير الألمعي مقالة
مشبوبة كذكائه المتوقد
الفأس قد أكلت يدي وأنا امرؤ
للطرس لا للفأس قد خلقت يدي
قريبي هذا لم يدخل أي مدرسة، وإنما علم نفسه ثم ثقف نفسه بنفسه، وكان خطه جميلا ولكنه كان بطيئا في الكتابة بشكل ملحوظ، لأن يده أصيبت بكسر في بواكير طفولته، ولكن هذا البطء في الكتابة لم يمنعه أن ينقل ديوان المتنبي جميعا؛ لأنه لا يقوى على شرائه، لقد كان مولعا بالشعر فلم يقف شيء في طريقه.
وأخونا الأستاذ أمين يوسف غراب لم يختلف إلى مدرسة قط، وإنما علم نفسه، وقرأ قراءة واسعة في القصص العربي والأجنبي المترجم، حتى استطاع أن يصنع هذا الاسم الذي حققه واستطاع أن يترك بصمات على القصة القصيرة في مصر.
وإذا ألقينا نظرنا إلى أدباء العالم القدامى منهم والمحدثين، وجدنا أن الغالبية الكاثرة منهم لم تتلق من التعليم أكثر مما تلقاه رفاق جيلهم، ولكنهم هم ثقفوا أنفسهم واستطاعوا أن يكونوا عمالقة في فنونهم وآدابهم.
فالواقع أن الثقافة مسئولية الفرد وليست مسئولية الدولة، فعلى الدولة يقع عبء التعليم، ولكن التثقيف واجب الراغب فيه، وهو حين يريد ذلك لا يقف شيء في سبيله.
تستطيع الدولة أن تقرب مناهل الثقافة للراغبين، ولكن الفرد وحده هو من يثقف نفسه، وعليه أن يسعى إلى الثقافة في مظانها جميعا.
وليس الأمر بعسير، فحتى الفقير المعدم يستطيع أن يختلف إلى المكتبات العامة المصرية وغير المصرية، ويصيب من الثقافة المتاحة له ما يطيب له أن يصيب.
والدعوى بأن المكتبات ليست كاملة لا تصلح اعتذارا له، فإنه لن يقرأ جميع ما في المكتبة حتى يتبين أوجه النقص فيها.
ولكن هذا الحديث لا ينفي مسئولية الدولة نفيا تاما.
فأنا أذكر أننا حين كنا طلبة في المدارس الثانوية كانت مكتبات المدارس حافلة بالكتب، وأذكر أنني قرأت من مكتبة المدرسة تيمور جميعه، وبعض كتب توفيق الحكيم التي كانت نافذة من السوق، وغير هذين، فقد كانت كتب جميع الأدباء الكبار في المكتبة، بل كان بها أيضا الكثير من كتب النشء الحديث في ذلك الوقت، وكانت كتب التراث جميعا في مكتبات المدارس، وأذكر مثلا أنني قرأت العمدة لابن رشيق من مكتبة المدرسة، وقرأت منها أيضا كتب المنفلوطي، وأنا لا أستطيع أن أتصور أن المدارس اليوم تخلو تماما من المكتبات، وأن الميزانية المدرجة لها لشراء كتب تستنفد في أشياء أخرى لا شك أنها أقل أهمية من إتاحة الثقافة للطلبة ، وهكذا أصبح من الطبيعي أن يعرف الطلبة كتابهم من خلال أعمالهم في السينما والتليفزيون والراديو، دون أن يقرءوا هذه الأعمال في كتبها الأصلية.
ثروت أباظة
الصوت المرتفع والتليفون والفن
الأهرام - العدد 32666
18 مايو سنة 1976
من مفكرة ثروت أباظة
تعود أبناء الريف أن يرفعوا صوتهم إلى أعلى الدرجات حين يتكلمون في التليفون، ولا شك أن هذه العادة قد لازمتهم من أيام تليفونات المركز المتصلة بالعمدة، وهي - بالمناسبة - ما زالت موجودة حتى اليوم، وكان الخفير لا يكاد يسمع محدثه حتى كان يرفع عقيرته إلى القمة، وأغلب الأمر أنه كان حين تنتهي المكالمة يرتمي إلى أقرب مقعد أو مصطبة مقطوع الأنفاس وكأنه جرى مائة كيلو بغير توقف.
وكان المرحوم أحمد عبد الغفار «باشا» فلاحا لم تتخل عنه أخلاق الفلاحين ولا عاداتهم، رغم تعلمه في أكسفورد، ورغم كرسي الوزارة الذي تبوأه.
وفي يوم كان أحد الزوار يجلس عند سكرتيره في الوزارة، وكان صوت الوزير عاليا جدا حتى كان الزائر يسمع كل كلمة يقولها صارخة في أذنه، وأحس السكرتير بحرج فنظر إلى الزائر وكأنه يعتذر: أصل الباشا بيكلم تلا.
فرد الضيف بسرعة ذكية: ولماذا لا يكلم الباشا تلا عن طريق التليفون؟
هذا الصوت المرتفع نلتقي به كثيرا في الأعمال الأدبية، وهو عيب أجمع النقاد على أنه ينال من العمل الفني ويغض من قيمته.
فالعمل الفني بطبيعته همسة تتسلل في ذكاء شديد ولباقة إلى أبعد أغوار النفس الإنسانية، وترسي فيها ما يشاء أن يرسيه الكاتب من معان.
والصوت المرتفع لغة المقال، وليس لغة العمل الفني، فحين يعلو صوت الفنان في عمل أدبي ينقل عمله من قصة أو رواية إلى مقالة أو خطبة.
ولكننا مع ذلك نجد أعمالا كثيرة لأدباء يرتفع فيها صوتهم إلى درجة الإزعاج، وتسقط هذه الأعمال وتمنى بالفشل، والكتاب الذين ترتفع أصواتهم غالبا ما تكون كتاباتهم بتوجيهات صادرة إليهم، فيرتفع منهم الصوت ليسمعوا من أصدر التعليمات؛ لأن هؤلاء المصدرين للتوصيات لا يحسنون أن يسمعوا الفن، فصلتهم بالفن مقطوعة، وإلا فكيف يصدرون الأوامر إلى الفنانين ؟
الشعر وحده هو الذي نستطيع أن نسمح له باللغة المباشرة والنغمة العالية؛ لأن الشعر العربي يعتمد في تراثه على المدح والذم والغزل والهجاء وغير ذلك من أبواب الشعر المعروفة، فحين يأتي الشعراء المحدثون ويسيرون على نفس النهج الذي سار عليه الأوائل، فلا جناح عليهم، بل إننا قبلنا هذه النغمة المباشرة في المسرحيات الشعرية التي قدمها شوقي ومن بعده عزيز، أباظة فحين يقول:
أسمع الشعب ديون
كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا
بحياتي قاتليه
أثر البهتان فيه
وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء
عقله في أذنيه
يقبل الناس منه هذا الكلام ويرددونه من بعده إلى اليوم، وحين يقول عزيز أباظة في العباسة:
شعور الشعب يا جعفر
حق لا هوى فيه
يحس الكره والبغض
فيجريه على فيه
يميز بوحي فطرته
عداه من محبيه
له من وعيه الساذج
مصباح فيهديه
نقبل منه هذا الكلام ونردده من ورائه.
وحين يرتفع صوت الشرقاوي في رواياته، يقبل منه الناس هذا الصوت المرتفع في مسرحياته: الفتى مهران، ووطني عكا، والنسر الأحمر، وغيرها، وينظرون إلى مسرحه في تقدير.
والواقع أن الشعر الحديث في المسرحية يقع في المكان الذي خلق له؛ لأنه يضفي على الحوار نوعا من الموسيقى والجرس مع تحرير الشاعر من القافية، وإطلاق يديه في تنويع الحوار والسير به إلى حيث تبتغي المشاهد والمواقف.
ولهذا لم يكن عجيبا أن تنجح مسرحيات الشرقاوي، ويتخلج الشعر الحديث على الطريق ولا يستطيع أن يبلغ من نفوس الناس ما بلغه الشعر.
وعودا إلى الصوت المرتفع، أعتقد أن القراء أنفسهم يحبون في العمل الفني أن يصلوا إلى خوافي معانيه بشيء من الجهد يبذلون مع الكاتب، حتى إذا أغناهم الكاتب الروائي أو القاص عن هذا الجهد انصرفوا عن العمل جميعا في غير احتفاء ولا تقدير.
شوقي وحافظ وطه حسين
خطب رئيس وزراء إنجلترا في مرة فقال: إن إنجلترا لا تشرف بشيء قدر شرفها بأن منها شكسبير، وكانت إنجلترا في ذلك الحين الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لم تعتز بعسكرها ولا بهذه الإمبراطورية التي تدور مع الشمس حيث تدور دائما، وإنما اعتزت ببضع كلمات قالها شاعر اسمه شكسبير، وقد كان رئيس الوزراء هذا صادقا في نظرته فقد صفيت الإمبراطورية وغابت عنها الشمس في أغلب أوقات النهار، وغابت شمسها هي أيضا، وأصبحت دولة من الدرجة الثانية، تعاني الفقر والأزمات المالية والسياسية جميعا.
وشاء الله لمصر أن يشرق فيها شاعر لقبه شعراء العالم العربي بأمير الشعراء، وهو أميرهم لقبوه أو لم، واجتاح شعره بلدان العربية وكان يعرف ذلك عن نفسه وهو يقول:
وحولي فتية غر صباح
لهم في الفضل آيات وسبق
على لهواتهم شعراء لسن
وفي أعطافهم خطباء شدق
رواة قصائدي فاعجب لشعر
بكل محلة يرويه خلق
وكان يعرف ذلك وهو يشكر الذين نصبوه أميرا للشعر حين يقول:
رب جار تلفتت مصر تو
ليه سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيا بمآقي
وطني أو مهنئا بلسانه
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه
وحدث أن كان الدكتور طه حسين يبدأ حياته الأدبية، وقد حلا له أن يهدم شوقي، وكتب المقالات في مهاجمته، وطبعا لم يهدم شوقي.
وحاول العقاد والمازني نفس المحاولة، وبقي شوقي، ووقف المازني في ذكرى حافظ إبراهيم يقول لقد حاولنا أن نهدم شوقي وحافظ لنقف على أنقاضهما فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.
وفي يوم كنت جالسا مع أستاذنا العملاق طه حسين وسألته: لماذا هاجمت شوقي وأنت أعظم من يعرف فضله؟
قال: لقد هاجمته في أشياء لا تتصل بالشعر، وإنما لأنه كان ينسب آراء أرسطو إلى أفلاطون.
وكأنما رأى العملاق ظل ابتسامة على وجهي فهو يكمل حديثه قائلا: وعلى كل حال أنا ما أسفت على شيء كتبته قدر أسفي على مقالات الهجوم.
وأفاجأ بوزارة التربية والتعليم تقرر على الطلبة في العام الماضي كتاب أستاذنا طه حسين «شوقي وحافظ» وهي بهذا تقدم لتلاميذها عميد الشعر العربي وعميد النثر العربي وشاعرا من أكبر الشعراء الذين أنجبتهم مصر أسوأ تقديم.
فطه حسين صاحب الكتب الباذخة في الأدب والرواية، لم تجد له وزارة المعارف كتابا تقدمه له إلا هذا الكتاب الذي كثيرا ما اعتذر عنه.
وشوقي الخالد لم تجد وزارة التربية وسيلة تقدمه بها إلى تلاميذها إلا من خلال هذا الكتاب.
وحافظ أيضا بعرضه هذا العرض على أبناء الجيل كارثة.
وفي هذا العام أنظر في كتاب ابني فأجد أنهم قرروا عليه قصيدة شوقي الخالدة:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نبكي لوادينا
وأفرح بهذا وأعجب به، ولكن كيف يتركني جهابذة الأدب العربي أفرح؟
قرأت نقد القصيدة، ويل للعظيم من الصغير، وويل للعمالقة من الأقزام وأشباه الأقزام، ما هذا أيها الأستاذ الناقد؟ من قال لك إن الشعر يصنع به هذا الذي تصنعه، وأي ذوق سقيم تفرضه على أبنائنا؟
وكيف تفعل بشوقي وشعره هذه الأفاعيل؟ إن الناقد الذواقة المتمكن حين يقف أمام نص كهذا وقفت أمامه الأجيال خاشعة مكبرة، عليه فقط أن يبحث عن سر عظمته وخلوده وروعته، وبعد فإنني أرجو ألا يقرأ طلبة الثانوية العامة هذا الذي أكتب، فإن عليهم في الغد القريب أن يمحقوا شوقي في ورقة الإجابة أو هم ملاقون من المصححين الويل والثبور وعظائم الأمور، والأمر لله من قبل ومن بعد.
همسة لأعضاء مجلس الشعب
أنتم بعد أشهر قلائل ملاقون ناخبيكم، والناخبون الآن ينبث بينهم المتعلمون من حملة الشهادات العلمية، فهم يبصرونهم بأمور، لعله لا يسركم أن يبصروها.
وأول هذه الأمور وأهمها مسألة الجمع بين وظيفتين، لا أعتقد أن أحدا سيغفر لكم أن تجمعوا بين وظيفتين في الوقت الذي تحرمون فيه ذلك على صغار الموظفين والذين يحتاجون إلى وظيفتين وثلاثا وعشرا إن أمكنتهم الطاقة وأتيحت لهم السبل.
ولا أعتقد أحدا سيقبل منكم أنتم بالذات أن تكونوا أعضاء مجلس شعب ونواب مصر جميعها، والمشرعين والرقباء على جهازها التنفيذي، وتظلون مع هذا موظفين في الجهاز التنفيذي الذي أنتم رقباء عليه.
لا يستطيع أحد أن يتصور أن يكون أحدكم موظفا في وزارة لها وزير، ويكون في نفس الوقت رقيبا على هذا الوزير، وقد كان النظام يقضي بأن تترك للنائب فرصة ثلاثة أشهر يختار بعدها أن يظل في وظيفته أو يصبح عضوا في المجلس التشريعي.
وأنا أعتقد على أي حال أن استثناءكم أنتم بالذات من قانون الجمع بين وظيفتين، يجعل القانون غير مقنع لمن يطبق عليه.
وأعتقد أيضا أنكم لو ذهبتم إلى الناخبين وقد تنازلتم عن هذا الحق الشاذ الذي لا مثيل له في أي دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية في العالم، سيكون منظركم أكثر إشراقا وجمالا، ويكون انتخابكم أيضا أكثر احتمالا.
ثروت أباظة
لم يتسع الوقت
الأهرام - العدد 32669
21 مايو 1976
حين تقرر أن يسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها، لم يفكر في شيء آخر إلا أن يزور الأماكن المقدسة، ويطوف حول الكعبة المكرمة، ويقف أمام شباك النبي.
ولم يكن توقه إلى العمرة عن أي شعور بالإيمان، بل كان كل ما يفكر فيه هو تحدي هذه الرواسب التي تسيطر على أفكار المسلمين، والتي يرى أن انصياعهم لها ما هو إلا تعلق ببقايا الأبوة وعهود الصبا والطفولة.
وكان واثقا أن الإنسان المتحضر لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين أو التعلق بأوهامه!
وهو واثق من نفسه وأفكاره، وقد ازداد بها وثوقا حين اختار المذهب الشيوعي مذهبا، وانسلك في قالبه، وواجه كل ما واجهه أصحاب المذهب من عقاب، كما نال كل ما ناله هؤلاء من ثواب.
والوظيفة التي يرتع فيها الآن ما هي إلا نهلة من فيض البحر الذي انسكب على أبناء مذهبه، فما كانت الشركة البولندية لتعينه لو لم يكن شيوعيا غارقا في الشيوعية يهب لها نفسه وإلحاده، ويقدم إليها أيضا فقره لترده عليه غنى ووفرة ورفاهية ورخاء.
وقد استطاعت الشيوعية أن توفر له ما لم تستطع الرأسمالية أن توفره لأحد من أمثاله، فسيارته كاديلاك من آخر طراز، نعم السيارة الرأسمالية، ولكن ما دام الشيوعي قد استخدمها فإن سيارته هذه الكاديلاك بالذات تصبح شيوعية بالتخصيص.
ومنزله من أفخم منازل الزمالك، وأثاث بيته غالي الثمن غلاء فاحشا ولا يهم من بعد إن كان يتسم بالذوق السليم أو لا يتسم، فكل ما يهمه أن يكون غالي الثمن.
أما ملابسه فهي في الحق مضحكة، فإنه فيما يبدو مصاب بعمى الألوان، فتراها تختلط على جسمه كقصة غير معقولة، أو كموسيقى صاخبة يعزفها قوم لا قائد لهم ولا نوتة تجمع بينهم، ولكن كل وحدة من وحدات ملابسه ثمينة في ذاتها، واضح أنه بذل فيها المال الكثير، فيما يركب أو يسكن أو يلبس.
وكان يتيه دائما بين الناس بأنه لا يمد يده لأي دولة شيوعية، وأنه شيوعي بالمبدأ لا بالجيب، وهو بطبيعة الحال يرى وظيفته هذه التي يشغلها والتي تسكب عليه المال حقا طبيعيا له لا صلة لها بالشيوعية.
هو يرى ذلك أمام الناس حين يخاطبهم، ولكنه في دخيلة نفسه يعرف تماما أنه لو لم يكن شيوعيا لما زاد دخله عن دخل زملائه الذين تخرجوا معه، والذين يعجز مرتبهم أن يطاول عشر مرتبه.
هو واثق كل الوثوق أن ذلك الخير الذي يمرح فيه سببه الوحيد الذي لا سبب غيره أنه شيوعي، ويعلم أن الكلية التي تخرج فيها قد منحت الحياة الآلاف من أمثاله، أغلبهم أكثر منه علما ودربة على العمل وإتقانا له.
ولكن الشيوعيين وحدهم من هؤلاء الآلاف هم الذين يستطيعون أن ينالوا ما تهبه لهم الحياة من حظوة، وأصحاب الجرأة فيهم هم الذين يستطيعون أن يواجهوا الناس أنهم لا يمدون يدهم لأي بلد أجنبي وهو من أصحاب الجرأة هؤلاء.
حين نزل إلى جدة قصد فندق الرياض، حيث كانت شركته قد حجزت له حجرة فاخرة ذات غرفة ملحقة وتليفزيون، وبعد أن أودع الحجرة حقيبته ونظر إلى المرآة واطمأن على القصة غير المعقولة التي يضعها على نفسه، نزل إلى بهو الفندق ينتظر أصحاب العمل الذي جاء من أجله.
ولكنه فوجئ بصديقه رفعت جالسا في البهو ... - أنت ... أنت في السعودية؟ - عمل. - فقط؟ - طبعا، سأعمل هذه العمرة التي تحكون عنها في دينكم. - وأنت؟ ألك دين آخر؟ - أنت تعرف. - فعلا ... أنت مسكين ... أنت بلا دين على الإطلاق. - أحمد الله على ذلك. - بل احمد الشيطان إن شئت. - المهم أنت ماذا تفعل هنا؟ - أنا جئت من أجل هذه العمرة التي نؤمن بها نحن المسلمين. - وهل قمت بالعمرة؟ - ليس بعد: أنا على موعد مع الأصدقاء أن نقوم بها. - أذهب معكم. - ألا تخاف؟ - أخاف مم؟ - ألا تخاف أن تؤمن ... إن للكعبة روعة، وإن لقبر الرسول ضياء لا تراه العين، وإنما ينفذ إلى القلب وإلى حنايا المشاعر، فيرج الإنسان رجا عميقا، وترى روحك حلقت إلى عليين تطوف مع النبي في رحلة آخر دين أرسل إلى الناس، وتراه معذبا في سبيل عقيدته ثم تراه في خطبة الوداع أتم دينه وبشرنا أن الله رضي لنا الإسلام دينا، يخطب في أصحاب حجه: إن دماءكم وأموالكم حرام بينكم حرمة يومكم هذا في شهركم هذا في عامكم هذا.
ويهتم بهم وهو يختم رسالته إلى البشرية: اللهم هل بلغت؟ ويصيحون: نعم. ويهتف مرة أخرى. اللهم فاشهد.
أتحتمل هذا جميعه؟ - قد لا يحتمله السذج من أمثالك، أما أنا فأحتمله وإني واثق. - لكم أخشى أن أجدك أكثر سذاجة مني ومن أصحابي المؤمنين. - لقد جربت نفسي مع الإيمان. - حقا؟ - ووجدت نفسي غير قابل للإيمان على الإطلاق. - هل أنت واثق؟ - كل الثقة. - وكيف عرفت؟ - تعرضت لمحنة فلم أذكر الله. - ما نوع المحنة؟ - هل يهمك هذا؟ - كل الأهمية. - كنت راكبا سيارتي، وغفت عيني لأجد نفسي غائصا بسيارتي في الماء، حاولت أن أفتح باب السيارة فاستعصى علي، ورحت أحاول وأنفاسي تختنق بي تشدني إلى الموت في جذب آسر عنيف، ولم أجد أمامي إلا أن أحاول الخروج من شباك السيارة فرحت أدفع جسمي خلالها دفعا، ثم لم أدر بعد ذلك من أمر نفسي شيئا. - أنقذت وأنت مغمى عليك؟ - نعم. - ومتى كنت تريد أن تذكر الله؟ - إننا نحن المؤمنين نذكر الله حين نصبح عاجزين، فإن الله يأمرنا أن ندبر نحن أمر أنفسنا، ونتوكل عليه ولا نتواكل.
وقد كنت أنت مشغولا بإنقاذ نفسك، وحين جاءت اللحظة التي يجب أن تقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كنت مغمى عليك، يا صديقي إن هذه التجربة لا تصلح دليلا تطمئن إليه أنك محصن ضد الإيمان. - أترى ذلك؟ - لا شك في ذلك ... هيه ... أتأتي معنا؟ - لا، سأذهب وحدي.
وأثار الحديث الكثير من الوساوس في ضميره، ما مصيري إذا اهتزت مشاعري من الإيمان، واستيقظت من سباتها تلك البذرة القديمة التي ألقى بها في نفسي أبواي وسقتها البيئة والتقاليد وتاريخ أجدادي الطويل ذلك في ظل العقيدة.
وما البأس أن أومن وأظل في عملي ... هراء؛ إن عملي متوقف على إلحادي، ولماذا ألقي بنفسي إلى صراع أنا في غنى عنه، وما لي لا أبعد مشاعري عن هذا الامتحان؟ قد أجوزه وأظل على إلحادي أو قد أرسب وأعود إلى الإيمان، ويومئذ وداعا للكاديلاك، والملابس الأنيقة والعيش السعيد.
وبعد أيام التقى الصديقان في بهو الفندق. - أراك تنهي إقامتك بالفندق. - عائد إلى بيتي. - هل أديت العمرة؟ - لم يتسع الوقت ...
حديث إلى مولانا الإمام الأكبر
الأهرام - العدد 32673
25 مايو سنة 1976
من مفكرة ثروت أباظة
أنا من الكثيرين الذين يكنون للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود كل إجلال وإعجاب وتقدير، فهو رجل فيه كبرياء العلماء وتواضعهم، ينظر إلى الدنيا مستصغرا، وينظر إلى وظيفته في الحياة مكبرا، وهو عف الضمير واليد واللسان، عالم واسع العلم تتيح له ثقافاته المتعددة أن تكون نظرته شاملة عميقة، وهو لا شك من المعالم الإسلامية التي تشرف مصر في جميع محافل العالم، ولهذا جميعه أتيح لنفسي أن ألقي بالمشورة في ساحته فيما يتصل بفيلم محمد رسول الله الذي منع الأزهر عرضه، وقد كنت أتمنى أن يشاهده مولانا الإمام الأكبر ليدلي برأيه بناء على المشاهدة، ففكرة عرض فيلم إسلامي ليست ممنوعة في ذاتها، فقد ظهرت قبل اليوم أفلام أخرى لا تختلف في مضمونها عن هذا الفيلم، وإن يفضلها في الإخراج وروعته، ظهرت أفلام «ظهور الإسلام» و«فجر الإسلام» و«الشيماء أخت الرسول» وجميعها ظهرت بموافقة من الأزهر، كما أن الأزهر وافق لي على فيلم كلفتني به مؤسسة السينما، وإن كانت لم تنتجه بعد بعنوان «قلوب في السماء» ... وهو فيلم إسلامي، وظهر أيضا فيلم بأكمله عن «خالد بن الوليد » وآخر عن «بلال مؤذن الرسول» وهما من الصحابة وكانت القاعدة التي يطبقها الأزهر ألا يظهر أحد من العشرة المبشرين بالجنة.
ومثل هذه الأفلام تتيح للشباب أن يعرف تاريخ دينه من الوسيلة الإعلامية التي يقصد إليها، وقد كانت هناك مفاوضة معي أن أشترك مع كتاب هذا الفيلم، ثم انقطعت هذه المفاوضة، وإني أشهد الله والحق أنني ما كنت لأستطيع أن أضيف أو أعدل مشهدا أو كلمة من مشاهد الفيلم أو حواره.
وإني أرى الأعداء يتربصون بديننا من داخل الوطن، ويلبسون عباءة الإسلام ويمسكون خنجره، ثم يوجهون عدوانهم إلى الدين والوطن ... وأنا رجل مؤمن عميق الإيمان لم يختلج في نفسي شك إلا الذي يؤدي كل الاطمئنان إلى قوله تعالى:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، ولكن هذا لا يمنعنا أن نرد كيد الكائدين ومكر الماكرين.
وهم في كيدهم يحاولون أن يجعلوا ديننا السمح الذي أمرنا أن نوغل فيه برفق - يبدو دينا عسرا عنيفا يتمثل أمام الذين لا يعرفونه وسيلة تضييق وأخذ بالخناق، فينهار اقتصادنا وتتحطم آمالنا في الانتعاش المالي، فإن المذهب الذي يلحدون إليه لا يلتقط أنفاسه إلا من العفن، ولا يتفرع وينمو إلا في الدمار، ولا تنبت جذوره إلا في الأرض الخراب.
وبعد يا مولانا الإمام، فإن أخشى ما أخشاه أعداء يتخفون في ثوب الأصدقاء، ولكنني في نفس الوقت مطمئن إلى صدق نظرتك وجلاء بصيرتك، وقد ارتضيناك لديننا إماما، وشأننا وإياك في هذا الدين أن تأمر فنأتمر، وتنهى فننتهي، وتسمح فنترخص، وأنت بما ارتضيناك له جدير.
من العاملين وإليهم ...
جاءني خطاب من أحد العمال يقول فيه: «إنني من خلال ملاحظتي، ومن خلال استعمالي لوسائل النقل العام، لاحظت أن بعض العاملين بالمؤسسة يتعاملون مع الجمهور باستهتار شديد، فمثلا تقبل السيارة على محطتها وهي غير مزدحمة، ولكن السائق في الكثير من المرات يتوقف في منتصف الطريق والعربة شديدة الازدحام ليشرب كوب شاي أو عصير قصب، رغم وجود هذه الأشياء بنهاية الخط، ومثل هذه الأشياء تجعل الأزمة تبدو وكأن ليس لها حل على الإطلاق، حتى لو زيدت السيارات، وأصلحت الطرق ... فإن العيب الأساسي هم العاملون بمؤسسة النقل العام، بل إن تصرفاتهم هذه تضغط على أعصاب الجمهور وتستفزه إلى درجة اليأس ...»
وقد أحببت أن أنقل الخطاب الذي جاء إلي بعباراته، فكلنا نعلم أن البلاد تمر بأزمة طاحنة، وكلنا نعرف أن السيارات العامة غير كافية وأن التليفونات غير صالحة، وأن الخدمات العامة جميعها ناقصة لدرجة مثيرة، ولكن هذا جميعه يهون إذا لم يتسرب اليأس إلى قلوبنا، وإني أذكر أنني كنت أتحدث إلى وزير سابق قبل أن يخرج من الوزارة، وقلت له في أثناء الحديث عن شأن من الشئون العامة إن هذا الأمر لا بد أن يصلح، فقال: «نصلح إيه ولا ايه». والواقع أن الكلمة صدمتني من وزير مسئول، وأذكر أنني قلت إن كل سفر طويل يبدأ بخطوة ... والواقع أنني لا أرى الخطوة أبدا، بل أحيانا أراها إلى الوراء، تستطيع الأيام أن تدمر التليفونات والكهرباء والطرق والمواصلات، لكن ويل لنا وللأيام إن هي دمرت نفوسنا، إننا أشبه بمن يدخل بيتا قائم الجدران راسي الأسس، ولكن الأثاث بداخله جميعه حطام، ولا بد لنا أن نبدأ برفع الحطام لنضع الأثاث الجديد، فإنه لا أمل لنا يرجى إذ ظللنا نبكي الأثاث المطحون أو إذا هالنا الأمر وتولانا اليأس، فلا سبيل لنا إلى تجديده أبدا.
وكم أكره هذا الكلام وما أكتبه، فإن النصائح الموجهة إلى الجماعات كلمات ضائعة فكل إنسان يعرفها، وترديدها ثقيل على نفس الكاتب والقارئ جميعا، ولكن نحتاج إليها لنصل إلى ما نريد، فإنني أوجه هذا الكلام إلى كل مسئول، والمسئولون أقل عددا من العاملين بطبيعة الأمر، وإن هؤلاء المسئولين إذا لم يلجئوا إلى القواعد العامة التي تؤكدها التشريعات السماوية، والقوانين الوضعية، فلا أمل لنا ولا لهم، لا بد من العقاب والثواب، ولا بد أن يكون العقاب في أيام محنتنا هذه شديدا رادعا، وإننا لنعلم أن عمر بن الخطاب شدد العقوبة على الذين يخفون الطعام في عام الرمادة وهي سنة القحط الشديد الذي ألم بالناس في أثناء حكمه .
وقد سمي عام الرمادة؛ لأن وجوه الناس أصبحت في لون الرماد من شدة الجوع، وقد استطاع عمر أن ينجو بالناس من الأزمة دون أن تلحق أذى بنفوسهم، وإن ألحقت بأجسامهم الجوع والهزال وبوجوههم لون الرماد.
ونحن هنا نستقبل ما نحن فيه بنوع من اليأس اللامبالي ... ولكن هذا اليأس هو الذي يجعلنا لا نتحطم في داخلنا، ولكن إذا ألم بنا اليأس إلماما يجعلنا لا نقبل على إصلاح ما بنا، فعلى مستقبلنا العفاء.
إن أول بوادر الأمل أن نطبق قانون الثواب والعقاب ... وأن يعم هذا القانون جميع مرافق حياتنا، وأنا غير يائس ... فمنذ قريب روى لي صديق كريم أن خطابا جاءه من مهندس ري في بلدته يطلب إليه أن يرفع ماسورة تروي حديقته منذ زمن طويل، وذهب الصديق إلى وكيل الوزارة المختص فوجده رجلا غاية في الكياسة والأدب ولطف الحديث، واستمع إلى شكواه واطلع على الخطاب وطلب المهندس الذي صدر الخطاب من إدارته، وبكل هدوء قال له: يجرى تحقيق فوري مع المهندس الذي أرسل هذا الخطاب لأني أشم فيه رائحة أرفضها!
أنا في انتظار التحقيق بعد يومين.
إذن، فهناك رؤساء يعرفون أن في توقيع العقوبة على المخطئ إنصافا للناس جميعا، وإنصافا للعاملين الذين يؤدون واجبهم، وإرضاء لوجه الله.
بغير توقيع العقوبة لا أمل في إصلاح، وإن انهمرت على أرض مصر كل وسائل الخدمات الحضارية، وإن رئيسا لا يوقع العقوبة يسيء إلى مصر قدر ما يسيء العدو، وهو أشد على مستقبل مصر خطرا من كل عدو يتهددها أو يتآمر عليها.
ويل للإنسان من نفسه
في بعض الأحيان يسلط القدر الإنسان على نفسه، فيكون هو شر عدو يلاقيه، وشر أنواع العداء أن يعتقد الإنسان أنه قمة رفيعة باذخة، بينما لا يظن الناس به هذا الظن، حينئذ هو في دوار مخيف آخذ؛ لأن الحقيقة دائما واحدة، ولكنها عنده مزدوجة، هو يراها من ناحية، والناس جميعا يرونها من ناحية أخرى.
هو يرى أن كل تكريم أقل مما يستحق، والناس ترى أن كل تكريم له أكثر مما يستحق ... حينئذ يصاب هذا المسكين بنوع من الترفع يقضي على البقية الباقية له عند الناس، فإن كان كاتبا كتب ما لا يفهمه الناس؛ لأن الناس في رأيه غوغاء وسائمة، وعليهم هم أن يفهموا ما يكتبه وليس عليه أن يكتب ما يفهمون.
وإن كان تاجرا نظر إلى الزبائن في تكبر وترفع، فهم عنه هاربون، وهم من بضاعته نافرون، وإن كان يبيع لهم أنسام الحياة.
وهكذا سيكون أمره إن مررت به على كل مناحي العمل في الحياة، وهو شر ما يكون مع زوجته وأولاده.
فإن كانت زوجته ذكية وحاولت أن ترضي غروره تعذر عليها هذا واستحال؛ لأنها مهما تبذل له من إرضاء لغروره فلن يرضى، فهو فوق كل تكريم وأرفع من كل تعظيم، وحسب زوجته الله ونعم الوكيل.
أما مع أولاده فالمصيبة أدهى وأمر ...
فإن الأولاد في هذه الأيام لا يحبون أن يصدقوا أن آباءهم قمم، كما كان أبناء الجيل الماضي ينظرون إلى آبائهم، فحين يرى الأبناء أباهم منتفخا كالديك الرومي ولا يجدون ما يبرر هذا الانتفاخ - إن أمكن وجود مبرر لغروره عامة - فإن الأبناء تصاب بنوع من الاحتقار لآبائهم، وويل لأب يحتقره أبناؤه.
وعلى كل حال، فإن عقاب هذا النوع من الناس يكمن في الخلق الذي يتخلقون به، فهم في صراع دائم بين واقعين: واقع يتوهمونه وواقع يراه الناس، وبين هذين الواقعين يعيش هؤلاء في حريق، خفف الله عنهم ومنحهم على بلواهم الصبر إنه قريب مجيب.
ثروت أباظة
القصة واللغة
الأهرام - العدد 32676
28 مايو 1976
لا أدب بغير لغة، وهذه قاعدة لا تحتاج إلى مناقشة، وبحسبك نظرة إلى الآداب الأخرى لتجد أنهم يهتمون بلغتهم اهتماما بالغا، فاللغة هي الوسيلة التي تصل بالعمل الفني إلى مستقبله، فلا بد للكاتب أن يكون عليما بلغته حتى يصل بها إلى حيث يريد من نفوس قرائه، والعلم واللغة ليسا مجرد معرفة بألفاظها، وإنما معرفة بأسرار الألفاظ ومسراها وإشعاعها وارتباطها بالمعاني المختلفة في نفوس الناس.
ولكن ظهرت في السنين الأخيرة فئة ترى أن الروائي أو القصاص لا يحتاج إلى لغة عربية جميلة أو سليمة لكتابة القصة، والأعجب من ذلك أنهم يضعون القواعد والأسباب لنظريتهم هذه، فيقولون إن الأسلوب الجميل يلهي القراء عن تتبع أحداث الرواية أو القصة ومراميها، ويذهب بعضهم إلى الدعوة لاستعمال اللغة العامية مرتئين أن هذا يجعلها أكثر واقعية.
والواقع أن في هذا القول جهلا كبيرا بالواقعية، فليست الواقعية نقلا للواقع، وإنما تحوير قصصي له، فالقصة تستلهم الحياة ولكنها لا تنقل عنها وتستشف ما وراء أحداثها من أعماق وأسرار.
تستطيع الحياة أن تؤلف كما تشاء، فهي لا تحتاج إلى قراء ولا يعنيها رأي النقاد في كثير أو قليل، إنها كما قال شوقي في مصاير الأيام:
وألقى رقابا إلى الضاربين
وضن بأخرى فلم تضرب
أراد لمن شاء رعي الجديب
وأنزل من شاء بالمخصب
وليس يبالي رضى المستريح
ولا ضجر الناقم المتعب
هذا هو دستور الحياة في أبنائها وفي قصصها ورواياتها.
أما القاص فلا بد له إذا ألقى رءوسا إلى الضاربين أن يمهد لهذا الحديث، ويجعله طبيعيا منطقيا داخلا في نسيج العمل الفني دون نفوذ ولا شذوذ.
وهكذا تصبح الواقعية الفنية في الرواية والقصة أمرا مختلفا كل الاختلاف عن واقعية الحياة، واللغة جزء من هذه الواقعية، وجمال السرد يحبب القارئ في العمل الفني، ويجعله يشعر أن الكاتب يحفل به ويحترمه ويقدم له أجمل ما عنده، والجمال في الأسلوب لا يباعد بين القصة والقارئ، ما دام جمال الأسلوب ليس استعراضا أسلوبيا، وإنما سبك لأحداث القصة وتوفير الانسجام بين عرضها ومضمونها وشكلها جميعا.
حتى الحوار يجمل به أن يكون باللغة العربية البسيطة، فالقارئ قد عود أن تكون القراءة بالعربية لا بالعامية، وهو قادر، بل إنه يجد متعة أن يقلب الحوار العربي إلى حوار عامي في ذهنه، وقد استطاع توفيق الحكيم ومن بعده نجيب محفوظ، ثم تبعتهما أنا أن نكتب حوارنا بلغة سهلة عربية يخيل لقارئها أنها عامية، ولم يشق على القراء ذلك، بل لعله كان أكثر إمتاعا لهم.
ولكن معرفة الكلمة العربية السهلة تحتاج إلى إلمام كبير باللغة العربية، وإلى حس صادق بخوافيها، ولكن من قال إن الفن شيء سهل؟ إنه جهد ضخم، وعلى من يرود طريقه أن يحتمله أو يبتعد عنه.
حيرة مع مليم ناقص
الأهرام - العدد 32680
1 يونيو سنة 1976
من مفكرة ثروت أباظة
كانت المدارس تبدأ قبل أن يجمع الفلاحون القطن، فكان أبي يرسلنا إلى القاهرة، ويبقى هو في القرية ليشرف على جمع القطن، وكانت مدبرة منزلنا سيدة كبيرة السن، وكان زوجها صديقا لأبي، فحين مات عنها عاشت هي معنا ترعى أمري أنا وإخوتي، وكانت مصاريف المنزل ومصاريف أيدينا في يدها، وبطبيعة الحال فرتكت أنا مصروفي في لحظات، وأصبحت يا مولاي كما خلقتني، وجاءني صديقي إحسان عفيفي، وهو اليوم الدكتور إحسان عفيفي، وقال إن فيلما جديدا ظهر للوريل وهاردي ومعروض في سينما متروبول، وعملت الحسبة وتبينت أنني أريد خمسة قروش لأذهب إلى السينما وأركب الترام ذهابا وإيابا، فتذكرة السينما صالة درجة أولى ثلاثة قروش ونصف القرش، والترام ستة مليمات ذهابا ومثلها إيابا، ويبقى معي ثلاثة مليمات، ذهبت إلى أم عبده وطلبت منها القروش الخمسة، وطبعا سألتني فيم تريدها؟ فقلت لها أشتري كتابا - وكانت بعض الكتب في ذلك الحين تباع بخمسة قروش - وتظاهرت أم عبده أنها صدقت ونفحتني القروش الخمسة!
بكرنا في يوم الجمعة أنا وإحسان ذاهبين إلى السينما، وركبنا ترام 33 إلى العتبة، ودفع إحسان لي تذكرة الترام، وحين حاولت أن أحتج قال ادفع أنت لي عند عودتنا، فابتلعت احتجاجي، كنت يومذاك في الابتدائية بمدرسة العباسية، وكان إحسان بالسنة الأولى الثانوية بمدرسة فاروق الأول الثانوية، وهكذا كنت لا أعرف أحدا من أساتذته.
وقفنا عند شباك التذاكر، فرأى أستاذا له مع آنسة يقفان عند شباك البلكون، فطار عقله وهتف بي في جنون فرحان: أستاذ الإنجليزي معه واحدة، ويقطعان بلكون، لا بد أن نقطع بلكون معهما. - تقطع معهما؟! - نعم. - كيف؟ - كذا. - بكم تذكرة البلكون؟ - بأربعة قروش ونصف. - وكيف أرجع؟ تذكرة الترام بستة مليمات، ولن يبقى معي إلا قرش تعريفة. - ولا يهمك أن أقطع لك تذكرة الترام.
كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها القلق!
قطعنا تذكرة البلكون، وظللت طول الفيلم والهواجس تنهش عقلي، وأحاول أن أردها بضآلة الفرق بين ما معي وما أحتاج إليه من أجل تذكرة الترام.
لم أتمتع بالفيلم، مع أنه كان من أحسن أفلام لوريل وهاردي، وانتهى الفيلم وأضيئت الأنوار والتفت إلى إحسان، ليس هناك إحسان، امحى، ألغاه الوجود، أصبح كأنه لم يولد، لا إحسان على الإطلاق.
وقفت بباب السينما حتى أغلقوا الأبواب ولا إحسان!
ماذا أفعل؟
الأتوبيس بقرش تعريفة، ولكنني ساكن جديد بحي العباسية ولا أعرف إلى بيتي طريقا إلا من محطة الترام، أما أين ينتهي بي الأتوبيس وكيف أذهب إلى بيتي، فلا أعرف، مشيت إلى شارع فؤاد لأسأل عن محطة الأتوبيس فوجدتها.
هل الأتوبيس الذي يقف هنا يذهب إلى شارع فاروق؟ - لا، ولكن ترام 33 هو الذي يذهب، ومن محطة الترام هذه تستطيع أن تركبه.
المصيبة أن محطة الترام كانت أمام محطة الأتوبيس مباشرة في شارع فؤاد نفسه، ووجدت نفسي أقول في بلاهة. - ولكني أريد أن أركب الأتوبيس.
ونظر إلي محدثي يبحث عن لهجة أجنبية في كلامي فلا يجد، فليس من المعقول أن يفعل هذا إلا سائح، ولست به، لا كلامي ولا منظري يدلان على ذلك، طبعا لم يخطر له على بال أن معي تعريفة وليس معي ستة مليمات، فالمليم لا يستطيع أن يكون فرقا بأي حال، وعلى أية صورة.
وجدت على محطة الأتوبيس صديقا لي في مدرسة المنيرة، ولكن ماذا أقول له، هات مليما؟ أهذا معقول؟ تواريت عنه حتى لا يراني وجاء الأتوبيس وركبت وسألني الكمساري: أين تريد أن تذهب؟ - العباسية. - أي عباسية؟ - العباسية القريبة من شارع الجنزوري. - تحتاج إلى قرش صاغ.
مصيبة لم تقدر على المليم فكيف تقدر على التعريفة كاملا. - اذهب بي إلى آخر محطة يوصل إليها هذا التعريفة.
وأدرك الركاب الأزمة، وللأسف لم يكن الأتوبيس مزدحما، فكان كلامي يرن في أسماعهم جميعا، والتفتوا إلى صبي يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ميسور الحال وليس معه إلا تعريفة، أي شعب عظيم هذا ، في لحظة واحدة سرت في الأتوبيس معان كثيرة كلها رفيعة وشريفة وجميلة، فأنا عند الكبير منهم ابن، وعند الصغير أخ، وتسارعوا جميعا إلي، منهم من يريد أن يدفع لي فآبى خجلا شاكرا، ومنهم من يريد أن يصحبني إلى البيت فيزداد خجلي، وأطلب إليهم في لعثمة أن يدلوني على طريق البيت فقط.
ويصل الأتوبيس عند شارع أحمد سعيد، ويأتي إلي الكمساري أن أنزل هنا، وينزل معي بعض الركاب، ويقومون جميعا بإرشادي إلى الطريق.
وأسير وأصل إلى شارع الجنزوري، وألتقي في منتصفه بإحسان عفيفي، عاد إلى الحياة من جديد بعد أن حلت المشكلة، كانت على وجهه ابتسامة معتذرة لا تغني شيئا. - أين أنت؟
واحتجزت دمعي حتى لا يراه، وذهبت إلى البيت وتلقاني أم عبده. - أنا أعرف أن القروش الخمسة التي أخذتها لم تكن لكتاب، أنت ذهبت إلى السينما.
لم ينقصني إلا أم عبده أيضا ... النهاية، ترى هل استفدت شيئا من البحث عن المليم؟ لا أظن.
خطاب من البريد
كتب إلي أحمد يوسف سعد من الإسكندرية خطابا على جانب كبير من الأهمية، فهو غاضب من أخبار متفرقة تظهر في الجرائد تنم عن الفوضى، ويعطي مثلا على ذلك أنه نشر في الأهرام منذ شهرين تقريبا، أن كافوري حضر كمستثمر، وعرض توريد سيارات ثلاجة لنقل سمك بحيرة ناصر، ورفض المسئولون بحجة أنهم لا يعانون اختناقات في نقل أسماك بحيرة ناصر، ثم عاد الأهرام بعد مضي فترة لا تتجاوز شهرا من نشر هذا الخبر فنشر أيضا: تجري الآن الجهات المسئولة البحث عن أسرع وسيلة لنقل سمك أسوان.
ولقد طلبت من قسم المعلومات في الأهرام أن يبحث عن هذين الخبرين فلم يوفق إلى ذلك، فلعل الأستاذ أحمد يوسف سعد يذكر لنا التاريخين حتى نتمكن من عرض هذه القصة التي أراها أنا غاية في الأهمية ... وأعتقد أن كثيرا من الشعب يرى ذلك معي.
حديث إلى الدكتور يوسف إدريس
شأني مع الدكتور يوسف إدريس عجيب؛ فما جلسنا معا وقال آراء إلا اتفقت معه فيها، وما قرأت له شيئا يعرض فيه آراءه إلا اختلفت معه.
أقرب مثل على ذلك ما كتبه في مفكرته يوم الجمعة الماضي، لقد تناولت المفكرة جميعها فيلم الكرنك وقصته، وقد شاء الدكتور أن يرفض رواية نجيب محفوظ الكرنك ويحتفي غاية الاحتفاء بفيلم الكرنك الذي ما زال وسيظل قصة نجيب محفوظ أيضا، وقد عانيت من هذا بصورة أبشع، ومن كتاب بعينهم عندما ظهر فيلم شيء من الخوف عن روايتي شيء من الخوف أيضا، ولكن ذلك تاريخ ماض، وإن كان أخونا الدكتور يوسف يجدده مع أستاذنا نجيب محفوظ، فهو يقول كقاعدة عامة: «لعل من أحسن من يتعرض لنقد القصص هو من يكتبها»، والقاعدة مقبولة بشرط واحد، هو ألا يفرض القصاص نفسه على القصاص الآخر، فكل قصاص له طابعه، فإذا كتب عن قصاص آخر فحتم عليه أن ينظر إلى طابع القصاص الذي يكتب عنه، ولونه واتجاهه الفني، غير فارض نفسه عليه.
ويعود الدكتور يوسف ليقول: «حين صدرت - رواية الكرنك - وقرأتها في حينها، وجدته شبه ريبورتاج صحفي أكثر منها حياة داخلية روائية عميقة عودنا إياها نجيب محفوظ في معظم أعماله».
ولما كنت أكتب الرواية، وهي عملي الأساسي، فقد أصبحت لا أهتز في كثير أو قليل من كلمات الحياة الداخلية والعمق والمستوى والأبعاد والشكل، وغير ذلك من الألقاب التي ألغيت من الناس وألصقت بالأعمال الفنية.
إنما الذي أعرفه، والذي لا شك أن الدكتور يوسف إدريس يعرفه كل المعرفة، أن الكاتب إذا اختار الشخص الأول في سرد قصته أصبح حرا أن يضع على لسان هذا الشخص كل ما يريد أن يقول في صراحة تامة لا رمز فيها ولا مواراة، وبغير خفوت أو مداورة فنية.
وقد كنا جميعا نلجأ إلى الشخص الثالث حين كانت الحياة السياسية تفرض علينا الرمز، حتى جاءت الحرية، وأصبح الرمز سذاجة فنية تدعو إلى الضحك والسخرية.
فيم الرمز وقد أتاحت لك الحرية أن تقول ما تشاء؟
لقد كنا نرمز لأننا نخاف على أنفسنا، فلو كنا كذلك ما كتبنا، وإنما كنا نرمز لأننا نريد لكلامنا أن يرى النور ويقرأه الناس .
وهذا الكلام الذي يقال لنجيب محفوظ عجيب، وهو الذي كتب ثرثرة فوق النيل وميرامار واللص والكلاب، ومجموعة القصص غير المعقولة، وغيرها كثير، وهو أستاذ الرواية المصرية.
أما النقاد الذين يشير إليهم الدكتور يوسف إدريس، فهو يعرف اتجاههم تماما وما تحولوا إليه من رفض لكل عمل يشير إلى هذه الفترة بالطريقة التي تناولتها الكرنك بها، وبعد، فالذي لا شك فيه أنه لولا رواية نجيب الخالدة الكرنك، ولولا نجيب الشامخ، لما وجد هذا المخرج البرعم الذي ما زال يفض غلاف الجدة عن نفسه.
وحديث إلى أستاذنا توفيق الحكيم
لقد جاء في كلمة أستاذنا الأسبوعية التي نشرت السبت الماضي بعنوان مأساة العظماء، أن التاريخ يحاسب الزعيم، حتى ولو لم يكن مخطئا، ولكن يا سيدي الأستاذ اسمح لي أن أقول إن الزعيم المفرد هو المخطئ دائما، وأن في الشاهد الذي تفضلت فسقته الدليل على ذلك.
فقد قلت إن المخطئ في موقعة واترلو هو جوروشي وليس نابليون.
ولكن يا سيدي الأستاذ من الذي اختار جوروشي هذا؟ إن الذي اختاره هو نابليون، والذي يختار شخصا لمهمة عليه وحده أن يتحمل مسئوليته، فالتاريخ إذن يا سيدي لم يظلم حين ألصق التهمة بنابليون، فإنه هو صاحبها وليس غيره.
مصطفى محمود (بين الدين والعلم)
الأهرام - العدد 32683
4 يونيو 1976
يقوم الدكتور مصطفى محمود بدور مهم لأجيالنا من الشباب، فهو يفسر لهم دينهم بصور العلم الذي يتعلقون به، ويتوهمون أنه يسيطر على حياتهم، وأن سيطرته هذه تجعل الدين خرافة، ونوعا من الغيبية.
الإنسان بطبيعته يحب أن يؤمن؛ لأن الإيمان في ذاته ضرورة الحياة، ولقد رأينا الملحدين، فهم جازعون هالعون إن مستهم مصيبة عادوا إلى إيمان مفزع غير مطمئن.
ولقد وجد الدكتور مصطفى نفسه في النهج الذي انتهجه، ووجد الشباب فيه ضالتهم التي كانوا يتلمسون، فتوافق على يديه العلم الحديث والإيمان العميق، وقد توافرت عند الدكتور مصطفى كل الأدوات التي تمكنه من مخاطبة الشباب.
فهو طبيب في دراسته، فنان في هوايته، وصوفي في عقيدته، وبهذه المقومات جميعا خاطب الشباب فأحبوا ما يكتب وأقبلوا عليه، وأصبح الإيمان عندهم متمثلا في صورة واضحة الملامح بينة المعالم.
فلذلك أنا أخالف الأستاذة الدكتور سهير القلماوي فيما ذهبت إليه من أنها كانت تريد الدكتور مصطفى محمود أن يتفرغ للقصة العلمية، فإن كتابا كثيرين يستطيعون أن يكتبوا القصة العلمية، وأنا أخالف أستاذتنا الدكتورة حين قالت: ... إن القصاص مصطفى محمود تاه منا في خضم عميق الأغوار من العلاقات المتشابكة بين العلم والعقيدة أو الدين.
فإن الدكتور مصطفى لم يته منا أبدا، بل إنه اتضح لنا عن كاتب متمكن في الطريق الذي أعده له قدره ودراسته وفنه وتصوفه.
وأخالف أستاذتنا الدكتورة في قولها: إن موضوع الإيمان في مقابل العلم هو الموضوع الذي ضيع فيه د. مصطفى محمود نفسه مؤلفا قصصيا، فالذي أعتقده ويعتقده الجمهور الكبير الذي يقرأ له أن د. مصطفى محمود وجد نفسه في هذا الموضوع.
وأحب أن أناقش الدكتورة فيما جاء في مقالها من أن المجموعة كلها عودة إلى الأسلوب القصصي العلمي الذي برع فيه د. مصطفى محمود، والذي تؤهله له ملكاته وثقافته أن يبلغ فيه آفاقا عظيمة، لولا أنه غرق في بحر الإيمان والتدليل على الدين والإيمان بالعلم ... ثم الهجوم على العلم هجوما لا يتعمق المشاكل تعمقا عودنا عليه في قصصه، فأولا: في بحر الإيمان لا يكون الغرق وإنما النجاة، وثانيا: إن الدكتور مصطفى لا يهاجم العلم بالإيمان وإنما يوفق بين العلم والإيمان، فهو في كل ما يكتب يحاول أن يظهر قدر الله من خلال العلم، ولا هجوم هنا على العلم.
وأنا يا دكتورة لست أدري لماذا يرمى بالسطحية كل من يتجه إلى الإيمان والدين بعمله الفني، ولست أدري لماذا يكون الإيمان سذاجة بينما الأدب الملحد أكثر مباشرة، فهو دائما يتقولب المذهب الإلحادي ويصرخ بإلحاده عاليا ولا يرميه أحد بالسذاجة.
هل إذا انضوينا تحت أعلام ديننا الذي قوم الأجيال لفترة قاربت ألفا وأربعمائة سنة نكون سذجا؟ وإذا ألحدنا إلى مذهب لم يستطع أن يطبق حتى اليوم، وتداعى عنه أنصاره وأفلس في مدى خمسين عاما نكون تقدميين؟ وفي كتابتنا عمق وأبعاد، إلى آخر هذه الأسماء التي لا مسميات لها عندهم؟ وهذا الحديث لا أسوقه إليك يا دكتورة، فلست - والحمد لله - منهم، وهذا الحديث لا أسوقه إليهم، ولكنك فيما أخذت على الدكتور جعلتني أذكرهم.
وبعد، فإنا مع الدكتورة أن الإسلام لا يشرف بأن حقيقة علمية اكتشفت حديثا أشارت إليه آياته البينات، فالإسلام نفسه والقرآن هما كل الشرف، ولا شرف يمكن أن يضاف إليهما، ولكن هل هناك ما يمنع من ذكر الحقائق العملية التي أشار إليها الكتاب الكريم؟
وبعد، مرة أخرى يا سيدتي الدكتورة، ما أبعد المثل الذي تفضلت فسقته عن أديبنا العالم د. مصطفى محمود، فأين القذافي بجهله وسطحيته وسذاجته وحمقه من عالم أديب تعمق العلم وتعمق دينه وقدمه إلينا في علم وأصالة وإيمان وبراعة؟
القرية بين الحضارة والأصالة
الأهرام - العدد 32687
8 يونيو 1976
من مفكرة ثروت أباظة
ذهبت إلى قريتي هذا الأسبوع وطريقي إليها كله حقول، فهكذا طرق مصر الزراعية جميعا، ولكن حين اقتربت من قريتي وجدت نسمة لها عبق خاص أنست له نفسي.
جزء من كياني لاقى جزءا من كياني، بعض مني هفا إلى بعض مني، أريج زهرة البرسيم مع عيدان القمح المحصود مع بشائر شجيرات القطن من هذا العبق الذي عرفته منذ ولدت، والذي أعرفه وإن كنت مغمض العينين، إنه عبق قريتي.
حين كانت أكياس القطن في المدحاية تنتظر المشتري، نتخذ منها نحن أطفال القرية ملعبا ومراحا، أملنا أن يطول بها الأمد ملقاة أو واقفة لنختبئ بينها ونجلس عليها ونسمر، وليس يعنينا رغبة آبائنا الملحة أن تجد المشتري وتنقل.
رفاق ملعبي صالح أبو عرابي الذي أصبح شيخ الخفراء الآن، والسيد أبو علي الذي أصبح المخزنجي، وصلاح أبو أحمد ابن العمدة الذي أصبح مدرسا أول، ويوسف أبو عبد القادر الذي كان يصنع لنا السيارات من الطين، وأصبح اليوم عامل المكن، وغيرهم، وأصبحوا اليوم هم رجال القرية، فحين سعى إليهم الحقد ليوقع بيني وبينهم لفظت نفوسهم بذرة الحقد، وسقت شجرة الحب بيننا التي نمة في نفوسهم وفي نفسي.
وأسمع من رجل من رجال السياسة الكبار وضع تحت الحراسة فترة طويلة، ورفعت عنه هذه الحراسة في عهد الحرية، أن الفلاحين في الأرض التي يملكها، والتي وقعت عليها الحراسة، كانوا يقصدون إليه جميعا في كل عام، ويؤدون إليه إيجار الأرض كاملا لا حراسة هناك.
أخلاق بعيدة عن الحقد، وقد دمر الحقد حياتنا فترة من الزمان، ولكنه جاء عند مشارف الريف وهزمته نفوسهم ووفاؤهم وحرصهم على هذه المعاني الكريمة التي يعيشون بها حياتهم.
وأذكر هذا، وأذكر مثال أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود في هذا الشأن، وأحاول أن أرجع إليه فتعييني الحيلة، وأطلب مكتب المعلومات في «الأهرام» أستنجد به، فما هي إلا أن أضع سماعة التليفون حتى أجد المقالة عندي حاضرة من قريب، وأقرأ: «أخلاق القرية التي ندعوا لها لنجعل منها نموذجا لسلوكنا ضرورية لحياتنا، ولكنها وحدها لا تكفي؛ إذ لا بد أن تكملها أخلاق المدينة».
وأقرأ: «بل إن الاتجاه العام الذي يسود عصرنا هو تحويل القرية إلى مدينة بالمعنى الحضاري، لا تحويل المدينة إلى قرية، فالأقرب إلى التصور في يومنا هو أن يتحول الفلاح إلى عامل زراعي، بل بكل ما تحمله كلمة عامل الآن من حقوق في الأجور والتأمينات والائتمان النقابي وغير ذلك».
وأذكر ما كتبه أستاذنا الدكتور في مفكرته الأخيرة، وأجده فلاحا مثلنا جميعا، وأتساءل هل هناك ما يمنع أن يتمتع الفلاح بكل هذا الذي ينشده له أستاذنا الدكتور ويظل مع ذلك على أخلاق القرية؟
أي تعارض هناك بين الحضارة وبين الأصالة في الأخلاق؟ تلك التي رسخت في نفوس الفلاحين منذ سنوات تتجاوز الآلاف عددا.
الدكتور زكي نجيب محمود من أعظم المصريين تحضرا، فهو من أعلم أساتذتنا، وأكثرهم ثقافة واطلاعا على الآداب العالمية والفلسفات القديمة والحديثة، ولكنني مع ذلك أزعم أن أخلاق القرية عامل أساسي في تصرفاته الخاصة والعامة على السواء، والدليل بين يدي غير بعيد، فقد ذكر كيف شعر بالحرج الشديد حين اضطر أن يذكر كل شيء عن نفسه، وعن تفاصيل ما يملك وكيف كان يسير في الطريق، يحس أنه تجرد مما يجب أن يستر به نفسه، تلك يا سيدي آثار القرية في نفسك، فنحن في القرية نحب أن تكون شئون منزلنا مقصورة على أهل منزلنا وعلينا.
أما ما يخشاه الدكتور عن الروابط الأسرية التي تجمع بين أبناء القرية، فلا شك أنه يعلم أن هذه الروابط تجعل للحياة متعة خاصة، وتمكن الإنسان أن يسير بين الناس آمنا، إن له في الحياة أحضانا دافئة من أهله وذويه وأصدقائه ومحبيه، وإلا فبئست حياة لا يحدونا فيها إلا المصلحة، ولا يدفئنا فيها إلا المادة.
أما ما يأخذه الدكتور من هناك على أهل القرية من أن عامل الزمن ملغي عندهم، فأنا أوافقه عليه، ولكن يا دكتور لعلك لا تنسى أن الزراعة عندنا ما زالت على ما كانت عليه عند قدماء المصريين، وصلة الفلاح بالزمن مرتبطة بصلة الزراعة بالحصاد، فالزمن جميعه ملغي ولا يحتاجون إلى الدقة فيه، ترى هل لو أصبحت الميكنة هي أساس الزراعة يظلون على ما هم عليه من إلغاء الدقة في الزمن؟ لا أظن، وإنني أطمئن الدكتور، وأحب أن أطمئن معه نفسي، على أن التطور الطبيعي للحياة سيلغي كل ما نأخذه على أخلاق أبناء بلدتنا، وسيبقي على كل ما هو أصيل.
من المسئول إذن؟
شاء الله لي أن أتخرج في مدرسة الحقوق، وكنا قد تعلمنا هنا مادة اسمها القانون الدستوري، ومن المبادئ الأولية التي ما زلت أذكرها، ولا أعتقد أنني سأنساها، أن السلطة التنفيذية مسئولة أمام السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية هي رئيس مجلس الوزراء والوزراء، وكل وزير مسئول مباشرة أمام السلطة التشريعية التي هي اليوم مجلس الشعب، وكنا قد تعلمنا أن الوزير هو صاحب الرأي الأول والأخير في شئون وزارته، ولذلك يحرص الدستور أن يطلق على رئيس الوزراء لقب رئيس مجلس الوزراء؛ لأن رئيس الوزراء لا يرأس الوزراء في وزاراتهم وإنما يرأس المجلس حين يجمع، وذلك حتى تصبح مسئولية الوزير كاملة أمام السلطة التشريعية.
ولذلك، تولاني الذعر حين رأيت السيد وزير الأوقاف يعلن لمجلس الشعب أنه غير مسئول عما يجري في هيئة الأوقاف ، فمن إذن المسئول؟ وإلى أي وزارة تتبع هذه الهيئة؟ وهل هناك هيئات لا وزير لها؟ إن وجدت، فمعنى ذلك أن هذه الهيئات لا يسائلها أحد، لأن مجلس الشعب لا يسائل إلا الوزير الذي يفرض فيه أنه مسئول عن كل ما يجري في وزارته، كبيرا ما كبر، أو صغيرا ما صغر الموظف بهذه الوزارة.
إذن، فالأمر أخطر بكثير من مجرد تصرفات معيبة قام بها رئيس الهيئة، إن الأمر يتعلق بالنظام العام، هل هذا الموظف يتصرف في أموال الدولة، أم في أمواله الخاصة؟ فإن كانت الأولى فأمام أي جهة هو مسئول؟
وذعرت لأن هذا الذي سمعناه من السيد الوزير يرجح لدينا ما نسمعه عن هيئات أخرى لا يسأل القائمون عليها عما يفعلون، وأقرب مثل إلى ذهني الآن جهاز الاتحاد التعاوني، فقد سمعنا مما سمعنا أن ميزانيته حصيلة ضريبة مفروضة على الفلاحين يدفعونها دون أن يعلموا وهم يتعاملون مع بنك التسليف، وسمعنا فيما سمعنا أن الجهاز يضم بين من يضم من موظفيه عشرات قد تبلغ المائة من أعضاء مجلس الشعب، وسمعنا الكثير، ترى هل هذا الجهاز أيضا لا يتبع وزيرا مسئولا، وإن كان يتبع أليس بين النواب غير المعينين به من يبحث في شأنه؟ وهل نأمل قبل كل شيء أن نعرف الوظيفة الأساسية التي يقوم بها الجهاز لصالح الفلاحين؟ وهل تستحق أن يدفع لها الفلاحون من اللحم الحي ضريبة علم الله أنهم في أشد الحاجة إليها.
وبعد، فمعاذ الله أن أتهم بما ليس لي به علم ... إنما أنا أسأل ... فهل من جواب؟
تعليق على تعليق
جاءني خطاب من السيد مستشار اللغة العربية يعلق به - وكلمة التعليق اخترتها لأكون أنا مؤدبا كما أحب أن أكون - على الكلمة التي كتبتها عن كتاب شوقي وحافظ، والأستاذ يصحح لي الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه ذاكرا أن الكتاب اسمه حافظ وشوقي، لا شوقي وحافظ كما ذكرت أنا! ولعل الأستاذ المستشار لو عاد إلى الكلمة لوجدني لم أذكر عنوان الكتاب، وإنما قلت أنه كتاب شوقي وحافظ، ولم أقصد نص العنوان ، ومع ذلك فأنا معترف بالخطأ ومعتذر عنه.
ثم يقول الأستاذ المستشار: «إنما الأساس - فيما يقرر على الطلبة - إتاحة الفرصة لتنمية ذاتية الطالب، وتدريبه على أن يتذوق ويحكم بنفسه، والمدرس لينمي قدرات الطلاب بفتح مواهبهم دون أن يتحكم في أذواقهم، فلكل منهما أن يتدبر ما قيل عن شوقي، ويقف منه كما يشاء، مؤيدا أو معارضا، على أن يبرر نظرته بما يدعمها».
والحقيقة أنني لم أكن أدري أن المدرس حين يهاجم - في كتاب مطبوع - نصا ما هجوما عنيفا في غير ذوق، ولا فنية، ولا شعور بجمال الإيحاء الكلي للقصيدة، يكون قد ترك الطالب حرا في نقد النص مؤيدا أو معارضا، ولعل تلك نظرية جديدة في التربية أو النقد لم أصل إليها بثقافتي القاصرة.
وبعد، فلغة المستشار التي كتب بها تعليقه تبرر في وضوح تام لماذا تتهجم الكتب المدرسية في اللغة العربية على أعمدة الأدب عندنا، فرب البيت زعيم كبير في هذا الميدان، وما على مدرسيه حرج إن تبعوه.
كم كنت أرجو أن تتوثق صلة السيد المستشار بالسيد وزير التربية والتعليم الذي أجد فيه دائما نموذجا من أرفع النماذج وأسماها في الخلق الرضي، والأدب الجم، والتهذيب الذي يدعو من يعامله إلى الإكبار له، والخجل منه في وقت معا.
في آفاق الأدب الإنساني
الأهرام - العدد 32690
11 يونيو 1976
ظل كتاب الرواية والقصة القصيرة يكتبون القصة الرمزية فترة طويلة من الزمان، وكانت الحالة العامة تدعو إلى ذلك، أما اليوم فلم يعد للقصة الرمزية مكان، فإلى أي اتجاه يا ترى ستتجه أقلام الكتاب؟
كنا حين نكتب القصة الرمزية نخاف أن تأتي بعدنا أجيال وتقرأ هذا الذي كنا نكتبه، وتعجب لماذا كان يرمز هؤلاء القوم، ولماذا لم يصرحوا بما يريدون دون رمز أو تخف، فهذه الأجيال القادمة لن تتصور أن الحرية زالت في يوم من الأيام، وستظن هذه الأجيال أن الحرية التي تنعم بها أمر مقرر منذ أقدم العصور، لم تحتجب في يوم من الأيام.
وكنا نرد هذا الخوف عن أنفسنا، بأن على هذه الأجيال القادمة أن تعرف أيضا تاريخ بلادها مع معرفتها بتاريخ أدبها، وحتم على الأديب أن يكون ابن عصره معبرا عن الفترة التي يعيشها في آمالها وآلامها، ما حرمت منه وما تهفو إليه، وحين تعرف أجيال المستقبل حقيقة هذه الفترة التي عشناها ستجد أدبنا هو الصورة الوحيدة التي كان يمكن أن تظهر.
وكذلك كنا نخشى على كتبنا من الترجمة، فالعالم الأوروبي لا يتصور أن هناك مكانا في العالم فيه هذا الأدب وليس فيه حرية، ولكن ترجمت لنا بعض أعمال، ولم يقل الغرب ذلك، فإنه يبدو أن المثقفين في الغرب يعرفون الحقائق عن البلاد الأخرى.
وكنت دائما أتساءل: ترى ماذا بقي من أعمالنا بعد أن يسقط عنها الرمز ويصبح غير ذي موضوع، ولكن تبين لي أن القارئ يستطيع أن يجد في القصة التي يقرؤها متعة دون حاجة منه لأن يعرف ما ترمز إليه.
وعلى كل، تلك فترة ومضت.
وجاءت الآن الحياة التي لا نحتاج معها إلى الرمز ... ففيم نكتب؟
أتصور أنه يجب علينا أن نكتب فيما كنا سنكتب فيه لو لم يعترض طريقنا زوال الحرية.
وأتصور أننا نستطيع أن نكتب في المعاني الإنسانية العامة، تلك التي نظر إليها كبار الروائيين في العالم، وكتبوا فيها أعظم أعمالهم، مثل مورافيا وشتاينيك وهمنجواي، وغيرهم وغيرهم ممن اتخذوا الإنسان - كإنسان - موضوعا لهم، يتابعون نبضه، ويستقصون رغباته وآهاته، ومواطن ضعفه ولحظات قوته.
عن هذا الإنسان نستطيع أن نكتب الكثير، بل إننا نستطيع حتى أن نستثير ما أفدناه من التجربة المريرة التي خضناها وخاضها معنا الإنسان المصري، ونستطيع أن نكتب عن الحب والكراهية، عن الحقد والسماحة، عن الخوف والأمن، عن المجهول والزمن، عن المجتمع حين يقيد والمجتمع حين ينحل.
إننا في ظل الحرية نستطيع أن نتحرر أيضا من القيود التي كان يضعها المجتمع حول أدبنا طلبا للحرية والسعي إليها.
لم نكن نتصور أن نرسف في ذل الخوف والرعب، ونتكلم عن الحب والسماحة، كان ضياع الحرية يفرض نفسه علينا وعلى أدبنا.
واليوم نستطيع أن ننطلق إلى آفاق الإنسانية، وما أرحبها من آفاق!
اثنين فلاج ... وهات مليم
الأهرام - العدد 32701
22 يونيو 1976
من مفكرة ثروت أباظة
أنا من جيل يشرف اليوم على خمسينيات حياته، مظلومون نحن جيل الأربعينيات الذين ولدنا في أواخر العشرينيات، وحين جاءت الثلاثينيات التي كان الجنيه فيها يشتري عمارة ويبقى منه ما يشتري بيتا كنا نحن أطفالا وكان الحصول على القرش في ذاته عملية تحتاج إلى مناورة ومداورة.
وكنا في هذه السنوات نحب أن نتفرج على السينما، وكان أهم ما فيها حلقات الشجيع تومكس وغيره من مشاهير الأبطال، وكنت أظل الأسبوع كله حريصا أن أبقي على قرش لي وقرش لزميل طفولتي إبراهيم الذي جاء من البلدة خصيصى ليكون رفيق ملعبي.
ثم نتعرض بعد ذلك للرعب الشديد، أن يلحظ أحد تغيبي وتغيبه عن البيت فترة الساعات الثلاث التي نقضيها بالدرجة الثالثة من سينما الأهلي، حتى إذا كبرت بعض الشيء، ولم أعد أحتاج لمن يلاعبني، دخل إبراهيم إلى المطبخ سالكا طريقه إلى أن يكون واحدا من الطهاة في الأسرة، وأتممت أنا رحلة الشقاء في الدراسة.
وحين ألم بنا الشباب في بواكيره الأولى التقينا به شبابا أسود لا نور فيه، فقد أقبلت الحرب العالمية الثانية، وأطفئت أنوار القاهرة، وأطفئ معها نور شبابنا، ولولا أن رمت بنا الهواية إلى الأدب والقراءة لقطعناه شبابا فارغا، لا تداعبه أي متعة ولا صخب، ولكننا نحن الذين أحببنا الأدب وانصرفنا إلى قراءته وجدنا متعتنا ضجيجنا جميعا في القراءة، وكنا نجتمع في بيت أحدنا نناقش ما قرأنا، ويمتد بنا النقاش حتى الوهن الأخير من الليل، فنقوم إلى بيوتنا وننقلب إلى أهلنا، وقد أوهمناهم أننا كنا نذاكر.
وفي ليلة سهرنا في بيت صديقنا الأستاذ عثمان نويه، الذي كان بمثابة الأستاذ لنا، ولكن حبه للأدب كان يجعله يشاركنا في حديث طه حسين، وتوفيق الحكيم، والعقاد، والدكتور حسين هيكل، تاركين مربع أرسطو والمنطق والفلسفة والجغرافيا.
وأوغل بنا الليل والوقت صيف، والنسمة رخاء، وقمنا وقام معنا صاحب البيت للمشي على غير هدى.
ولم أجد معي سجائر، وقد كان العثور على سجائر في هذه الأيام ضربا من المعجزات ، ولهذا ظللت بخيلا بها حتى اليوم.
ووجدت دكانا يتخفى وراء الظلام ينير مصباحا خجولا، يحيطه بأسطوانة ورقية من بقايا علبة سجائر قديمة، وكان باب الدكان لا يزيد على ربع ضلفة من ضلف الأبواب العادية. - عندك سجائر نمرة ثلاثة؟ - لا. - عندك بحاري؟ - لا. - كرافن إيه؟ - لا. - ملك مصر أو سفير؟ - لا.
وانغمست في حديثي مع صاحب الدكان ونسيت أمر من معي، حتى وجدت يدا تنبعث من الظلام تحمل نصف قرش وتضعه على منضدة البائع لتقول في حسم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.
أدرك الأستاذ عثمان أنني أحادث الرجل بلغة لن يفهمها، فلو كان عنده شيء مما ذكرت لما سهر إلى آخر الليل ليهتبل ربحا لن يزيد على ملاليم، وأراد الأستاذ عثمان أن يعلمني اللغة الصحيحة التي يمكن أن يفهمها؛ اثنين فلاج وهات مليم، أي إنه يعرف الثمن تماما، وقد تعلمت الكثير من هذه الجملة البسيطة التي طالما ضحكنا منها بعد ذلك.
لمن أتكلم؟ وماذا أريد أن أقول؟ وكيف أصل بما أريد إلى فهم من أكلمه؟ تلك هي مشكلة المشاكل أمام الكاتب أو المتحدث.
تستطيع أن تكون أستاذا عظيما في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تخاطب بها من تخاطبهم، فهناك كلام يقال في المدرج بأسلوب معين وألفاظ بذاتها، وهناك كلام يكتب في المجلات المتخصصة، وهناك كلام يكتب للجرائد اليومية، وهناك حديث خاص للندوات العامة، ومعرفة كل مجال وما يتطلبه من كلام هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس.
ولكن كثيرا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية ما لا تحتمله إلا المجلة المتخصصة، وكثير منهم يكتب في الكتب كلاما لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية، وتختلط الأمور عليهم وعلى قرائهم ويقعون في أحابيل «الأستذة»، ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من التصريح بعدم الفهم؛ حتى لا يقال عنهم جهلاء ويصبح الكلام في الهواء لا قيمة له ولا يجد له فاهما ... كم يحتاج هؤلاء الأساتذة إلى عثمان نويه ليقول لهم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك!
دعوة كريمة من أستاذ كريم
كم كان أستاذنا زكي نجيب محمود رائعا في مفكرته الأخيرة، وإني واثق أنه لم يصدر في دعوته إلى إنقاذ تلميذه عن روح الأستاذ، بقدر ما يصدر عن روح الإنسان، فلكل أن يعانق المذهب الذي يشاء، وله أن يدافع عنه بكل المنطق الذي يملكه، ولكن ليس لأحد أن يصادر رأيه أو يعذبه لأنه صاحب رأي.
إن الإنسان هو أكرم ما خلق الله، وأي مساس بحريته أو بجسمه أو بمشاعره إنما هو وحشية وهمجية وانتكاس إلى أبشع ما عرفته البشرية من عهود.
فليكن تلميذ أستاذنا هذا شيوعيا أو فوضويا أو ما يشتهي أن يكون، إنه وحده صاحب الحق في تكوين عقيدته، ولا سبيل لأحد عليه إلا بالنقاش الحر، ودفع الحجة بالحجة والرأي بالرأي، أما أن يكون النقاش باعتقال الحرية، وأن يكون رد الحجة بالاعتداء على كيانه البشري، ويكون دفع الرأي بالتهديد في النفس أو العرض أو المشاعر فذلك أمر تأباه الإنسانية التي تسود هذا العهد الذي نعيش في ظله.
أنا لا أعرف صاحب هذه المشكلة، كما أنني حين قرأت مقال الدكتور زكي لم أهتد إليه، ولكنني سمعت البعض يرددون اسمه، وظللت مع ذلك لا أعرفه ولا أذكر أنني التقيت به، إلا أنني عرفت أنه يعاني هذا الذي يعانيه منذ نحو عشر سنوات، فهو إذن قطعة منسية من عهد مضى والحمد لله.
وإنني واثق أن الدكتور زكي في ندائه إنما يستثير المشاعر الكريمة التي يعرفها في القائمين بالأمر الآن، ولا شأن للدكتور زكي بالناحية الطبية، وإنما الذي ننشده أن تنظر في حالة هذا المستغيث جماعة محايدة من الأطباء، وإننا واثقون بضمائر الأطباء، أما أولئك الذين كانوا يشرفون على المعتقلات فما هم من الأطباء ولا من الطب في شيء.
والنظرية القانونية تقول إن الشريك في الفعل مثل فاعله، ولكن الوزر الذي يقع على كاهل المشاركين في التعذيب من الأطباء أكبر من وزر الشريك العادي، فالمفروض في الطبيب أن يكون رحيما؛ فهو الذي يأسو جراح الجسم والنفس، فإن أهمل فهو مجرم ، أما أن يساعد من يحطم الجسم ويسحق النفس فهو شر من مجرم.
وعودا إلى دعوة أستاذنا أحييه من أجلها، وإن كانت ليست غريبة على من هو في مثل خلقه الرفيع وثقافته العالية.
اقتراح إلى التليفزيون
ترى هل فكر التليفزيون في تسجيل التراث الأدبي من المسرحيات الشعرية والأعمال الأدبية الكبرى؟
إني أقدم إليه هذا الاقتراح راجيا أن يبحثه.
لماذا لا تمثل روايات شوقي جميعا، وروايات عزيز أباظة، وروايات الشرقاوي وصلاح عبد الصبور في التليفزيون؟ وإني واثق أنها ستجعل للتليفزيون رصيدا ضخما هو في أشد الحاجة إليه، كما أنه سيبيعه إلى جميع تليفزيونات العالم العربي.
وإذا أضفنا إليها روايات الأستاذ علي أحمد باكثير النثرية، مع تسجيل ما لم يسجل من روايات رائد المسرح العربي توفيق الحكيم، فإنني أعتقد أن روايات أستاذنا الحكيم وباكثير لا تقل كثيرا في مستواها الفلسفي والفكري عن مدرسة المشاغبين.
ولماذا لا يسجل التليفزيون روايات الريحاني على أن يقوم بتمثيلها كبار ممثلي الكوميديا وخصوصا فؤاد المهندس تلميذ الريحاني الأول.
ألا يكون هذا الاقتراح للتليفزيون مكتبة رائعة تغنيه لمدة عامين أو ثلاثة عن الحرج الذي يعانيه والذي ينعكس على المتفرج المسكين كمدا وغيظا وألما؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل!
وكلمة أحب أن أهمس بها للتليفزيون ما دمت أتحدث إليه، ترى هل شاهد أحد الحلقة التي سجلتها إحدى المذيعات مع الفنان وانلي؟ ترى هل نسيت السيدة الفاضلة المذيعة أن هذه الحلقة تذاع في بلد عربي إسلامي له تقاليده وأخلاقه وقيمه؟ ولا أحب أن أفصل ما أجملت حتى لا أحرج نفسي ولا أحرج الفنان، ولا أحرج التليفزيون أكثر مما هو محرج دائما.
فإن هناك أسرارا في حياة الناس ينبغي لها أن تستر ويجهل بمن يثيرها أن يكون رفيقا في مسها إن كان لها أن تثار.
حواديت وملحوظة
الأهرام - العدد 32708
29 يونيو 1976
الحر شديد شديد، والحديث الجاد ثقيل على المتحدث والمستمع معا، فما علي لو حكيت لك بضع حواديت، وما عليك لو أنك قرأت ما أكتبه لك للتسلية ولإزجاء الوقت.
هاتان حكايتان من صنع الحياة ، ولعلك تريد أن تسأل: فلماذا لا تصوغهما في قصتين وهذه بضاعتك؟
يبدو أني لا أجد فيهما شيئا أستطيع أن أصوغ منه قصة، فالحياة قد صاغت كلا منهما ولم تترك لي مجالا لاجتهاد.
ثم أنا أخشى إذا صغتهما أو صغت واحدة منهما أن تسألني بطريقتك المعهودة: «ماذا تريد أن تقول بقصتك» وأنت محق، فإنه لا بد لي أن أريد شيئا من قصتي، أما الحياة فإنها تؤلف كما تشاء ولا يجرؤ أحد أن يسألها ماذا تريدين؟ فهي غير حريصة على إرضائك ولا على إرضاء أحد، وهي ليست ملزمة أن تقدم لك حكمتها عن كل قصة تؤلفها، فللحياة حكمتها ا لكلية الخالدة وليس يعنيها أن تكون لكل حكاية صغيرة لها حكمة قائمة بذاتها.
الحكاية الأولى: صداقة ساعات
عن صديقنا علي، كان منذ أيام في النادي، وتعرف هناك بصديق جديد هو خيري، وحدث بينهما هذا الشيء الذي يحدث كثيرا بلا معنى ولا تبرير، فقد أحس كل منهما أنه يعرف الآخر منذ سنوات، وفي لحظات أصبحا صديقين حميمين. - أين تسهر الليلة؟ - عند عصام. - الله ... أنا الآخر مدعو عنده. - نذهب معا. - لا بأس، أترك سيارتي هنا ونذهب معا.
وذهبا وظلا رفيقين طوال السهرة، وازدادت الصداقة بينهما قوة، حتى قارب موعد الرحيل فقالت ربة البيت: إلهام ستأتي الآن.
وقال خيري لعلي: أظن أنه حان موعد قيامنا.
وقال علي: مستحيل لا بد أن أبقى. - لماذا؟ - لأرى إلهام هذه. - أتعرفها؟ - دون أن ... - كيف؟ - إنها صديقة لصيقة لابن عمي. - ماذا تقصد بصديقة لصيقة؟ - أي معنى تريد أن تفهمه. - ولكنها متزوجة. - وتريد أن تترك زوجها لتتزوج ابن عمي المجنون بها، والذي ينفق عليها عن جنون أيضا. - هل أنت واثق؟ - أقول لكم إنه ابن عمي.
ومرت صاحبة البيت بالصديقين: علي، أريدك. - وقام إليها وهمست: ماذا تقول لخيري عن إلهام؟ - حكايات. - سمعتك تتكلم عن إلهام. - من ضمن الحكايات. - ماذا قلت له؟ - أروي له عن حكايتها مع شريف ابن عمي. - نهارك أسود. - لماذا؟ - لأنه هو زوجها وهما مختلفان في هذه الأيام. - ماذا؟ - ما سمعت . - أين باب الخروج؟
وهكذا لم تستغرق الصداقة الجديدة أكثر من ساعات في حياة الصديقين، أي حكمة في هذا لا أدري؟ أستطيع طبعا أن أستخرج لك بعض حكم سخيفة: لا تتحدث عن النساء إذا كنت لا تعرف من تتحدث إليه معرفة وثيقة، أو حكمة أخرى أكثر سخافة: لا تتعجل بالصداقة أو ما شئت، ولكن المؤكد أن الحياة لم تقصد إلى أي حكمة تريد أن تسمعها، أو أحاول أنا أن أفتعلها افتعالا.
الحكاية الثانية: الزواج والقدر
لعلني لم أعرف في حياتي شخصا أحب زوجته قدر ما كان عبد الحميد يحب زوجته، فقد كان دائم الفخر بها والإكرام لها، وكان سعيدا أنها تفصل له قمصانه، وأنها أيضا تعاونه على العيش بالتدبير، وكان يرى فيها الجمال الذي لا يراه في أحد سواها ... ولم يكن عبد الحميد ساذجا ولا عبيطا، وإنما مارس الحياة ومارسته، وعرف فيما قبل الزواج كل ما يعرفه الشباب قبل الزواج من لهو ومتعة، بل ولعله بالغ بعض الشيء في لهوه ومتعته، حتى إذا تزوج أصبح لا يعرف غير زوجته وعمله والصلاة والصوم والعبادة أعمق ما تكون العبادة.
وكنا حين نلتقي بعبد الحميد نصبح على ثقة أن الحديث لن ينقضي، أو يأتي بذكر زوجته مرتين أو ثلاثا على الأقل، ولما كان يكبرنا في السن فقد كنا نخجل أن نعلق على حديثه هذا بغير ما يحب.
حتى كان يوم سمعنا فيه عجبا، لم تكن زوج عبد الحميد أهلا لهذا الحب وهذا الوفاء.
وقد اكتشف هو الحقيقة المروعة، ولكنه ظل ثابتا كالطود واجدا في صلاته وصيامه ملاذه الذي يلوذ به من النكبة النكباء التي تزلزل الجبال الشم.
كانت زوجته في ريعان العمر، ولم يكن هو يسبقها في العمر بسنوات كثيرة، فكان عدم وفائها لا تبرير له إلا أنها نوع من النساء لا يعرف كيف يكون وفيا، طلق زوجته، ومشت الحياة.
وعرفت سيدة فاضلة تصلح زوجة لعبد الحميد، إلا أنني أخشى أن أتدخل في مثل هذه الأمور؛ فإن الصلة بين الزوج وزوجه صلة لا مثيل لها في الصلات، وأخشى أن تكثر بينهما المشاجرات فيلعنني كل منهما في كل مشاجرة وأنا لا أحب أن ألعن بغير مناسبة.
إلا أنني استخرت الله وقلت أقوم بالتجربة.
عرضت الأمر على عبد الحميد فرحب، وعرضت الأمر على السيدة وأهلها، فقالوا لا بد للعريس أن يعلم أنها لا تنجب، فقد تزوجت من قبل ولم تنجب.
سألته فقال: وأنا أيضا تزوجت من قبل ولم أنجب، ولا حاجة بي إلى الإنجاب، وتزوجا، منذ خمسة وعشرين عاما تزوجا.
وقبل أن ينقضي العام الأول جاءني عبد الحميد. - لن تصدق. - ماذا؟ - زوجتي. - مالها؟ - حامل. - غير معقول! - تلك إرادة الله. - أجاد أنت؟ - تلك إرادة الله.
ثم أنجبت فتاة أسمياها اسما حبيبا إلي، وكأنهما أرادا أن يشيرا إلى أنهما يلعناني كثيرا، والفتاة الآن في السنوات الأخيرة من الجامعة.
ولكن الحكاية لم تنته بعد.
لم يمر على زواج عبد الحميد عام وبعض عام حتى جاءني. - لن تصدق. - ماذا؟ - زوجتي الأولى. - مالها؟ - ماتت. - كيف؟ - مسكينة ... ماتت لأن زوجها رفض أن يأتي لها بطبيب! - زوجها؟ - نعم، فقد تزوجت الفتى الذي كانت تعرفه. - إذن؟ - مسكينة ... يرحمها الله!
وانحدرت من عينه دمعتان؛ فهو وفي غاية الوفاء حتى لمن لم يف له. في هذه الحكاية انقلبت الحياة إلى قصاص ميلودرامي، الحكمة عنده يقولها بصوت جهير حتى لا تحتاج مني إلى توضيح ... ومع ذلك لو كنت أنا الذي ألفت هذه القصة لما نجوت منك، ولظللت تقول ما لهذا الكاتب أصبح ساذجا لا يعرف حتى كيف يروي قصته في فنية أو بعض إتقان! لهذا تركت الحياة تقدمها إليك، لم أتدخل أنا، وهل ترى أني أستطيع أن أتدخل؟
ليست حكاية وإنما ملحوظة
فاز الحزب الشيوعي الإيطالي بحوالي سبعين كرسيا في الانتخابات الجديدة، ولكن العجيبة أن الحزب الشيوعي نال هذه الكراسي لأنه قدم للناخبين برنامجا ضد الشيوعية.
وعلى الذي يعجب معي من هذه الملحوظة أن يرجع إلى الوعود التي قدمها الحزب الشيوعي إلى الناخبين.
الأدب في عصر العلوم
الأهرام - العدد 32718
1 يوليو 1976
عجيب أمر هذا الأدب، كيف استطاع أن يخترق هذه الأجيال جميعا ليصل إلينا، كيف استطاع التراث العربي أن يركب الأجيال إلى زماننا هذا، فنعرف ما قاله امرؤ القيس وعنترة والمنخل اليشكري، ثم يزيد التاريخ فيروي قصصهم بعد أن تناقلتها الأجيال أشياء مسموعة لم تسجل في ورق، حتى جاء عصر الكتابة فتمكنت قصصهم وتمكن شعرهم من التاريخ وتصدره، وراح ينفذ من جيل إلى جيل، حتى جاء عصرنا هذا ليروي الشعر الجاهلي وما بعده من أموي وعباسي، بل إن التاريخ حتى لم يسقط الشعر الهزيل الذي نظم أيام المماليك والذي يشبه المزحة السخيفة في تاريخ مصر.
ونفس هذه الدهشة تتولانا مما نقل إلينا من الأدب العربي الرفيع منه والهزيل، تحافظ عليه الأجيال وتتناقله كمعالم من خطى الحضارة في البشرية.
ولكن هذه الدهشة تنقلب إلى ذهول حين نجد أن الأدب ما يزال موضع إجلال وتكريم في هذا العصر الذي تعمق فيه العلم وبلغ ذروة العالم وتسيد الحياة في شموخ مخيف، ومشى الإنسان على القمر وطاول المريخ وداعب الزهرة.
ماذا أبقى على الأدب في عصر العلم الشامخ هذا؟ وكيف كتب له أن يعيش وأن يظل مزدهرا؟
بل الأعجب من ذلك، لماذا يحاول كثير من العلماء أن يكتبوا شعرا أو قصة أو ينتموا إلى دنيا الأدب من أي سبيل، مع أنهم أساتذة في علومهم ولا يحتاجون إلى شهرة، ولعل قائلا يقول: وأي عجيبة فيما ترى؟ إن عصر العلم لم يلغ الموسيقى ولا إقبال الناس عليها وعلى الغناء، ولكن الأمرين مختلفان كل الاختلاف، وأين الاسترخاء الذي تسلم نفسك إليه وأنت تستمع إلى الموسيقى من الجهد العقلي والنفسي الذي يلم بك إذا أنت قرأت أدبا حقيقا خليقا بأن يحمل اسم الأدب.
ما الذي يجعل القارئ يبحث عن رواية ويقرؤها، أو عن مجموعة قصص قصيرة أو مسرحية جادة ذات أعماق.
ترى هل لأن الأدب هو علم الإنسان، والإنسان مصاب دائما بنرجسية لا تبارحه يحب أن يرى نفسه، ويحب استطلاع ما لا يستطيع منه فكاكا، يحب أن يعرف أعماق غيره، بل لعله فيما يقرأ يرى أعماق نفسه ويخيل إليه أو يهيئ هو لنفسه أنها أعماق غيره.
ما كان أغناه عن هذا؛ فإن العلم أيضا لم يفلت هذه الناحية للأدب وطلع عليه بعلم النفس الخالص، وليس على من ينشد تعمق نفسه إلا أن يقرأ كتب علم النفس، وقد يقول قائل شتان، وأين العلم الجامد الصلب من الرواية أو القصة أو المسرحية، تتسلل إلى خوافي النفس وإلى خلجات المشاعر ونأمات الضمير لتكون أخلاق الناس وتريهم الكون جميعا في أحرف وكلمات.
ولكن هل يفكر القارئ كل هذا التفكير حين يشتري رواية أو مجموعة قصص أو مسرحية، أم إن الفن الأدبي طبيعة من طبائع النفس الإنسانية تحب أن تسمعه وأن ترويه وأن تنفعل به وأن تستثير به انفعال الآخرين؟ وإن لم تكن، فما سر بقاء الأدب حتى اليوم علما خفاقا من أعلام الثقافة العالمية يعتبره الكثيرون أسمى الأعلام وأرفعها شأنا؟ لأنه يقوم على عنصر الإبداع.
ولعل هذا العنصر هو الذي يجتذب إليه المشاهير من العلماء وغيرهم، محاولين أن ينتسبوا إلى عالم الأدب واجدين في ميدانه شرفا، لعله أكبر من شرف الميدان الذي ينتسبون إليه في نظرهم على الأقل.
ثروت أباظة
كتاب ... يكرهون الحب
الأهرام - العدد 32711
2 يوليو 1976
إن أي شعب يكره الحقد ولا يقبله، والمفروض في الكاتب أن يكون إنتاج شعبه، أي يكون ابنا شرعيا للشعب ولأخلاق الشعب، ولكن هناك كتابا فيهم لأخلاق الشعب عقوق، فهم يمثلون روحا كريهة مقيتة، ويتخلقون بغير ما يتخلق به أبناء شعبهم.
إنهم معذورون ...
لقد عاش هؤلاء الكتاب واشتد عودهم في أرض الكراهية، وفي أجواء الحقد، فهم لا يعرفون الحب ولا يحبون أن يعرفوه.
إن الدماء التي تجري في عروقهم حقد، والسائل الذي تمجه أقلامهم كراهية، لقد تغذوا فما تغذوا بغير الحقد والكراهية، ولقد شبعوا وأتخموا فما شبعوا ولا أتخموا إلا بالحقد والكراهية.
وهم منذ نشئوا يبذرون بذور الشقاق بين أبناء هذا الشعب، ويشعلون نيران المقت ويطفئون إشراقات المودة ويجففون رحيق الحب.
ولكن الشعب أصيل، رفض مقتهم وحقدهم وظل قلبه نقيا لا يعرف إلا الحب.
وزال زمان الحقد، وجاء عهد يقول إن الحقد هو شر ما يعانيه الإنسان، فطار صوابهم، فإنهم بغير هذا الحقد يموتون، إنه النار تشتعل بين جنباتهم ويريدون أن يشعلوها بين جنبات الشعب أجمعين، ولكن العهد يقول الحب، فإلى أي وجهة يتجهون بنار الحقد فيهم؟
أيحترقون وحدهم؟ وكيف؟ أين يفرغون النار اللاهبة في نفوسهم؟ لا حيلة لهم إلا أن يهتفوا بالحقد ويعظموه ويبذروه.
ولكنهم مساكين، لقد فشلوا أن يبذروا الحقد وينموه حين الأرض، أرض الكراهية والأجواء أجواء الحقد، فكيف بهم اليوم وهم يريدون أن يبذروا الكراهية في أرض الحب وفي أجواء المودة والتعاطف والتآخي والتآزر والحب؟ حبط سعيهم وخاب رجاؤهم وانتكس عليهم عملهم، وتحيا مصر الحبيبة لا ترعى إلا الحب ولا ينتشر في سمائها إلا الود والإخاء ... تحيا مصر.
القانون هو الحياة والحرية
الأهرام - العدد 32715
6 يوليو 1976
من القواعد القانونية الأساسية أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ومعنى ذلك أن القانون وحده هو الذي ينشئ العقوبات على الجرائم، وهذه العقوبات هي في الواقع التي تحدد الأعمال المجرمة والتي لا يجرمها المجتمع، وإذن فالنصوص وحدها هي التي تجعل الفعل جريمة أو غير جريمة.
والمجتمع بغير عقوبة مجتمع بلا قانون، والمجتمع بلا قانون فوضى، فتوقيع العقوبة وحده هو الذي ينقذ المجتمع ويجعله صالحا أن يعاش.
ولا حياة بغير قانون، إذا اختفى القانون اندحر الاقتصاد وسقطت الحياة جميعا.
وإننا نتكلم كل يوم عن العقاب والثواب، ثم لا نرى إلا الثواب دون العقاب، نسمع عن السرقات ولكن المحاكم تتراخى في إصدار الأحكام، ولا جناح عليها ولا تثريب، فإن القضايا تثقل كاهلها وتضطر تحت أثقال القضايا أن تتأخر في نظر قضايا المال العام فيزداد اللصوص جرأة عليه، ويزداد الصمت صمتا، والتستر تسترا، لا بد أن تنشأ محاكم خاصة، ومن قضائنا نفسه لا من غيره، وتتفرغ هذه المحاكم لقضايا الأموال العامة، وأرجو أن تكون أحكامها محاطة بكل الظروف المشددة والقانون لا يحتاج إلى تعديل.
فالعقوبة على السارق الذي كان مؤتمنا على الشيء المسروق أشد بطبيعتها من العقوبة على من لم يكن مؤتمنا عليه.
بهذه الأحكام سيرتدع المجرمون، وبشيء آخر لعله أكثر أهمية، أن يحاسب مجلس الشعب كل من يعرف عنه فسادا، ولكن ترى هل يستطيع أعضاء مجلس الشعب أن يحاسبوا على الفساد، أو على الأقل هل يستطيع الموظفون منهم أن يحاسبوا وزراءهم؟ فمن عجب ينبت صوت يقول إنه ليس من الحتم أن نأخذ بما تأخذ به الدساتير الأخرى من عدم السماح لعضو مجلس الشعب بالجمع بين الوظيفة وعضوية المجلس، ولو أنعم صاحب هذا الرأي النظر متجردا من كل الدوافع فيما عدا الحق الذي يعرفه ويحيد عنه، لوجد أننا لا ندعو هذه الدعوى لمجرد إجماع الدساتير عليها، وإنما لأن الموظف عند الوزير لا يستطيع مساءلة الوزير، والقوانين لا بد لها أن تراعي المشاعر البشرية الطبيعية.
أما القول بأن أعضاء مجلس الشعب سيلقون التشريد والهوان إذا هم لم يجمعوا بين عضوية المجلس وبين الوظيفة، فأمر يدعو إلى الدهشة، إن كان المقصود أنهم بعد انتهاء مدة عضويتهم سيلقون هذا التشريد وهذا الهوان، فما أيسر أن تهيئ الدولة لهم العودة إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها مع العلاوات المستحقة أيضا، أما إذا كان المقصود أن التشريد سيحيق بهم وهم أعضاء فهو أمر بعيد الاحتمال، فإن مرتب عضو مجلس الشعب أصبح في ذاته حصانة ضد التشريد والهوان، وخاصة إذا نظرنا إلى التسهيلات العديدة التي يحصل عليها أعضاء مجلس الشعب على أنه لا حرج على الدولة أن ترفع مكافأة عضو مجلس الشعب إلى ضعفها أو ثلاثة أضعافها، بشرط ألا يجمع بين الوظيفة والعضوية، إن الجمع بينهما إلغاء تام للديمقراطية وعدم الجمع تثبيت لركن من أهم أركان الديمقراطية التي تقوم على محاسبة السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية.
خطاب في البريد
سيدة لم تذكر اسمها، ولكني أقدم حالتها إلى وزير عرف بين الناس بالعدل المطلق وبالإنسانية، وهو الفريق الجمسي.
إنها زوجة تزوجت زوجها وهو معفى من التجنيد واطمأنت بهما الحياة وأنجبا ثلاثة أطفال، ولكن بعد ثلاث عشرة سنة فوجئا بقانون ظهر وطبق بأثر رجعي مؤداه أن يرتفع سن المطلوبين للجندية إلى الخامسة والثلاثين، وهكذا وجد الشاب الذي مضى على زواجه ثلاثة عشر عاما نفسه مطلوبا للجندية، ووجدت الأسرة نفسها ضائعة كهباءة هائمة، وسارعت زوجته تكتب مأساتها إلى مجلس الشعب وأرسلت صورة من خطابها إلي.
والسيدة ذات كرامة، فهي لم تذكر اسمها أو اسم زوجها جاعلة من الأزمة التي تعانيها مشكلة عامة جديرة بالاهتمام، دون نظر إلى أسماء، وإني واثق أن الفريق الوزير سيجد حلا لهذه المشكلة التي لا شك أن كثيرا من الأسر تعاني منها عناء شديدا.
رجال الفكر والتماثيل
يعتبر رجال الفكر في جميع أنحاء العالم المصابيح التي سارت البشرية على هداها، وكلما زادت الحضارة في دولة زاد اعتزازها برجال الفكر والأدب فيها.
وما من دولة زرتها في أوروبا الشرقية أو الغربية إلا وجدت تماثيل الأدباء ورجال الفكر ترصع ميادينها، شهادة على أنها دولة ذات سبق في ميادين الفكر والفن.
البلد الوحيد الذي تتخفى فيه تماثيل رجال الأدب والفن وراء الجدران هي مصر، تماثيل قليلة ومستورة أيضا، وكأنما نخجل أن بلادنا قد ولدت رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وطه حسين، وسيد درويش وغيرهم ممن تركوا بصمات فنهم على الفن العربي جميعه.
وقد ذكرني ما كتبه القصاص الرائد يوسف جوهر في مفكرته يوم الأحد الماضي بهذا التقصير الذي نصر أن تكافئ به مصابيح حياتنا الفكرية والفنية، والذين على مشرق هداهم سار الأدب والفن في مصر وفي البلاد العربية جميعا.
وفوجئت في مفكرة الأستاذ يوسف جوهر أن قاعدة تمثال ميدان التحرير خالية، وكأني لا أمر في ميدان التحرير عشرات المرات في اليوم الواحد، ولكن الفراغ دائما لا يوحي بشيء ... كانت القاعدة الخالية تتمثل لي وكأننا نبني تمثالا للفراغ أو للإجداب أو للاشيء، وعندنا العمالقة والرواد والشموس.
وإنني أتقدم باقتراح أن نقيم على هذه القاعدة الخالية تمثالا لآخر من تركنا من الخالدين! وهو الدكتور طه حسين.
لن نخلد طه حسين بتمثال في ميدان التحرير، وإنما سنخلد العبقرية المصرية التي تخرج الأدب العربي الحديث على يديها.
بمثله تشرف مصر ، ومثله في مصر ممن يستحقون التماثيل المعلنة كثيرون، علينا أن نجد لتماثيلهم الميادين في الأيام القادمة، وإنما المهم أن نبدأ.
لا تستوي الحسنة ولا السيئة
أمر السيد محافظ القاهرة ألا تسير لحوم الذبائح مكشوفة في الشوارع، وهو أمر جدير بأن يهنأ عليه السيد المحافظ، والحديث عن بشاعة هذا المنظر ومجافاته للذوق يجعل الموضوع وكأنه يحتاج إلى نقاش، أو كأنما يختلف فيه رأي ورأي.
والقائمون بالعمل التنفيذي بشر يضيقون بالهجوم ويسعدون بالمديح، وكان من الطبيعي أن تؤيد الصحافة هذا العمل من السيد المحافظ، ومن لا يريد أن يؤيد فلا جناح عليه إذا هو صمت، أما أن يتخذه بعض رسامي الكاريكاتير مادة للسخرية فهو أمر يدعو إلى الدهشة والألم في نفس الوقت.
لماذا تستوي الحسنات والسيئات، وكيف يقبل هؤلاء البشر من القائمين على السلطة التنفيذية على أعمالهم إذا هم وجدوا أعمالهم جميعا - الطيب منها وغير الطيب - محل نقد وسخرية؟
إني أهنئ السيد المحافظ على هذا الأمر الذي أصدره، وأتمنى لو زاد وأمر أن تغطى عربات القمامة التي نفتح عليها عيوننا في الصباح فتذكرنا بتأخرنا وتقدم العالم.
إن كان لا بد أن تكون القمامة في عربة صدئة يجرها حمار أكثر صدأ، فلا أقل من غطاء يذود عن العين والنفس والمشاعر ما تكره.
وبالمناسبة فهمت أنه لا سبيل إلى إلغاء عربات الكارو فجأة دون تمهيد، لأن التموين يعتمد عليها، وفهمت أنه لا بد من عام أو عامين حتى يمكن إلغاؤها.
ولكن أليس من المستطاع أن تحدد لها مواعيد سير أو مواعيد عدم سير، وهذه الدراجات غير البخارية التي تحمل فوقها سيارات نقل والتي تتسبب هي وأخواتها من عربات الكارو في اختناق المرور والناس جميعا.
ويكفي أن أقول إنني أقطع الطريق من بيتنا إلى الأهرام في عشر دقائق ماشيا وأقطعه في خمس وأربعين دقيقة بالسيارة، حتى نعرف فضل العربات الكارو وما يسمونها بالتريسكلات على أعصابنا، ولا حاجة بنا أن نقول أوقاتنا، فقد أصبح هذا الوقت سيفا يقطعنا دائما ولا نملك أن نقطعه.
ثروت أباظة
مقهى في عرض البحر الأبيض المتوسط
الأهرام - العدد 32722
13 يوليو 1976
الصيف عندي هو البحر، ولا شيء آخر، والرياضة كل الرياضة التي أقوم بها عوم عاجز على شاطئ من شواطئ الإسكندرية، وفي البحر الأبيض المتوسط أغرق متاعب عام بأكمله، وأنا في هذا العام أحتاج إلى محيط فما أحسب البحر يكفي متاعبي ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فبحسبي هذا الشاطئ الحبيب الذي أهفو إليه كل عام، أسعى إليه في عامي هذا وأنا لأول مرة في حياتي أعمل في مكان ثابت أحمل فيه مسئولية بعينها، ومن يدري؟ فربما يشاء القدر أن أغرق وظيفتي أيضا مع متاعبي في البحر الأبيض، وما يدفعني إلى هذا القول أي بوادر أو مقدمات، وإنما هي النفس التي عودت أن تكون بلا وظيفة مدة خمسة وعشرين عاما ولم تعود أن تثبت في مكان واحد.
تخرجت في كلية الحقوق وسعيت إلى الوظيفة سعيا حثيثا، ولكني لم أستطع منها نيلا، ولعل أطرف ما مر بي في هذا السعي ما كان بيني وبين عبد الملك بك حمزة رحمه الله، فقد كنت أعرف أنه صديق لأبي، وأن أبي تمرن في مكتبه عندما تخرج في كلية الحقوق، قصدت إليه وهو رئيس مجلس إدارة شركة الملح والصودا طالبا أن أعين بها، فكان في كل مرة يقول تعال بعد أسبوع، وفي أسبوع من هذه الأسابيع ظهر كتابي الأول ابن عمار، فحملته إليه لعله يكون شفيعا، وقال قولته الثابتة: تعال بعد أسبوع، وذهبت بعد أسبوع. - يا ابني أنا لن أعينك ... - شكرا. - أنت عبقري ... - عبقري؟! - ولا يمكن أن أدفن عبقريتك في الوظيفة!
وهكذا ظلت عبقريتي بلا وظيفة خمسا وعشرين سنة أبيع فيها أرضي وأنفق من ثمن البيع، وهكذا قدر لي ألا يأخذ مني الإصلاح الزراعي قيراطا واحدا، وطبعا يرجع الفضل في هذا إلى عبقريتي المزعومة وحدها التي رفض عبد الملك بك أن يدفنها بالوظيفة، ورفضت كل الجهات من بعده أيضا أن تدفنها بالوظيفة، سواء كانت هذه الوظيفة عملا في جريدة أو مجلة تؤهلني له عبقريتي هذه ذات النوع العجيب، أو كان العمل إداريا أو قانونيا تؤهلني له شهادة الحقوق التي بذلت في سبيل الحصول عليها ثلاثة وعشرين عاما.
وكنت قبل أن أذهب إلى عبد الملك بك قد طلبت من أبي عندما تخرجت أن يكلم الدكتور حافظ عفيفي أن يعينني كمحام في بنك مصر، فإذا أبي يقول في تعفف لم أعرفه في غيره: هل تتصور أن أرفع سماعة التليفون لأقول لأي شخص عين ابني؟
وخجلت من نفسي وأنا أقول: لا ... لا أتصور.
وهكذا ضعت أنا بين كبرياء أبي وعبقريتي، وظللت خمسا وعشرين سنة بلا وظيفة، وها أنا ذا أذهب إلى الإسكندرية لأول مرة موظفا، فهل تراني أستطيع التمتع بالإسكندرية كما تعودت أن أتمتع؟ تلك تجربة جديدة لا بد أن أمر بها حتى أستطيع الإجابة عن هذا التساؤل.
فقد تعودنا منذ سنوات طويلة أن نجلس على مقهى داخل الأمواج، وليس الجلوس على كراسي، وإنما هو تحريك الأرجل واليدين بالصورة التي تبقي على جسومنا طافية، وأعضاء المقهى هم الدكتور الدمرداش أحمد، وكيل وزارة الصحة السابق، وعضو مجلس النواب، ومجلس الأمة السابق أيضا، فقد خرج من مجلس الأمة إلى المعتقل، وأصيب فيه بأزمتين في القلب، وظل في المعتقل مع ذلك، وكل هذا لأنه تجرأ فناقش نقاشا جادا في أمر هو فيه متخصص، وهو الطب الوقائي.
وأما العضو الثالث فهو الدكتور إبراهيم الدمرداش - ولا قرابة بين الرجلين - والدكتور إبراهيم الدمرداش رجل ذو شهرة واسعة في عالم الهندسة، وقد كان عميدا لكلية الهندسة وهو واسع الثقافة بشكل يدعو إلى الذهول.
والحديث في الندوة شعر من محفوظ الدكتور الدمرداش أحمد، فهو من هواة الأدب الفطاحل، أو ذكريات من ذكرياته، فصلاته الاجتماعية متسعة تشمل العالم أجمع، لا أستثني منه قطرا.
ويروي الدكتور إبراهيم شعرا من شعره، فهو عضو في المجمع، ثم ينتقل بنا الحديث إلى الأزمة الاقتصادية، حتى إذا فرغنا منها وحللناها انتقلنا إلى حل أزمات البلاد الأخرى، مثل إنجلترا والأزمة الاقتصادية بها، وإيطالية والأزمة السياسية التي تعانيها، فإذا قضينا على هذه الأزمات جميعا وأصبحت محلولة في أمان الله ضربنا في الماء ذراعا أو ذراعين وخرجنا إلى ملابسنا على موعد لقاء في اليوم التالي.
وحين نلتقي نتبين أن هناك بعض الفروع من الأزمات لم نتعرض لها في أمسنا، فنتناولها بالتمحيص ثم بالتشخيص ثم بالدواء، فتنحل الأزمة بين أيدينا بقدرة قادر.
وهكذا نقضي صيفا هانئا على مقهى بين الأمواج ... أترى تتيح لي الصفحة الأدبية التي لا بد أن أعرف محتوياتها كلمة كلمة، والمفكرة التي لا مفر من كتابتها كل أسبوع، أن أقضي صيفا مثل الذي كنت أقضي، وإن لم، فمن إذن سيحل مشاكلنا الاقتصادية ومشكلة لندن وإيطاليا وما يستجد من مشكلات في أثناء الموسم؟ لا سبيل لنا إلا أن نترك الأمر بكامله لله الذي لا يغفل ولا ينام سبحانه على كل شيء قدير.
القرية وخطبة الجمعة
كنت أظن أن إخواننا الفلاحين سيعتمدون على الراديو الترانزستور الذي انتشر في القرى انتشارا هائلا في معرفة دينهم، ولكن العجيب أنهم ما زالوا يعتمدون على خطباء الجمعة في معرفة هذه الشئون، وبعض هؤلاء الخطباء علماء حقيقة، تلقوا علومهم في الأزهر الشريف وتمكنوا من أصول التشريع الإسلامي، ولكن بعضهم يخطب لأن أباه كان يخطب الجمعة، ولقد سمعت أحد هؤلاء يدعو أن يؤيد الله السلطان فؤاد ويعز ملكه وينصر جنده، وكان هذا في عام 1965.
لعل هؤلاء الخطباء في حاجة إلى كتب حديثة تكون في متناول اليد زهيدة الثمن، وما أعظم أن يؤلف هذه الكتب علماء من فقهاء الوعظ الأئمة.
ولا بأس حتى أن توزع مجانا دون أي إلزام بالقراءة منها في الخطبة، وإنما تترك لمن يريد أن يستعين بها.
إن هذه الكتب لو قام عليها الأزهر الشريف أو وزارة الأوقاف تجعل شرح القرآن الكريم وتعاليمه في أيد أمينة عليه، فإن الأمر أخطر مما نتصور إن هو ترك لمن لم يتعمق في الدين الحنيف والقرآن والسنة.
إنه لا بد للناس جميعا أن يكون الحرام عندهم واضحا والحلال بينا، ولا بد لهم أن يعرفوا رخصهم، وأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
ولقد اهتم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بأمر الذين يشرحون الدين اهتماما بالغا، ويكفي أن نذكر حديثه الشريف: «من أحل حراما أو حرم حلالا فليتبوأ مكانه من النار» لنعرف مدى اهتمامه بأن تعرف قواعد الدين على حقيقتها بلا تضييق يمسك بخناق الناس، ولا توسع يحلل الحرام ويهدم القيم.
هذا رجاء أضعه أمانة تحت أعين الأئمة، واثقا أنني ناديت مجيبا وأسمعت أمينا.
تحية وعتاب للإذاعة
من أحسن البرامج التي أعجب بها في الإذاعة برنامج ثقافي درامي يذاع في البرنامج العام اسمه من الأدب العالمي، يختارون فيه قصة لأديب عالمي ويقدمونها بعجالة موجزة عن حياة الكاتب، ثم يقدمون القصة وقد أعدت إعدادا دراميا أجده أنا في غاية الجمال والإتقان.
إذن، فالإذاعة تعرف كيف تكون الدراما رائعة، وهي لا شك تدرك جمال اللغة العربية في الأذن فهذه القصص تعد باللغة العربية.
العجيب أن البرنامج العام الذي يقدم هذا، نسمع له تمثيليات لا شك أن مؤلفيها يجهلون الفن الدرامي جهلا تاما، فالحوار مباشر دائما، والنصيحة تخبط النصيحة، والحكمة تصك الحكمة والذي كنا تعلمناه أن الدراما والقصة والرواية جميعا قد صنعت لتنقذ الناس من النصائح والحكم، فإذا ذكرت النصيحة أو الحكمة في العمل الفني سقط العمل الفني جميعا كأنه لم يكن، والمؤلم أننا كثيرا ما نجد هذا التهافت في المسلسلات التي تستمر شهرا ... وهذه المسلسلات تحظى باهتمام كبير من المستمعين وما أجمل أن ننتهز هذه الفرصة لنقدم للناس عملا فنيا مرتفعا يستطيع أن يرتقي بالذوق العام.
ولست أدري لماذا تقتصر التمثيليات الإذاعية على اللغة العامية فيما عدا برنامج من القصص العالمي، ألا نستطيع أن نقدم أيضا من القصص العربي، ونجعل الناس يسمعون لغة عربية بعد أن كادت تكون غريبة عليهم؟ إنه مجرد أمل، فهل إلى تحقيقه من سبيل!
ثروت أباظة
ويل للتاريخ من هؤلاء المؤرخين
الأهرام - العدد 32694
15 يوليو 1976
في زميلة صباحية كتب الدكتور عبد العظيم رمضان مقالا يقول فيه: إن ما نراه الآن من ابتذال وعنف وانحرافات، إنما تفرضه بقوة واقتدار أوضاع العلاقات الإنتاجية في المجتمع ... وإننا لا نستطيع أن نغير قيم المجتمع إلا بتغيير علاقاته الإنتاجية.
ثم راح يضرب المثل على ذلك أن قيم الامتلاك للمال أو العقار، خلقت مجتمع الجنس الجماعي وتبادل الزوجات.
أما النظام الاشتراكي الذي تسوده علاقات الملكية العامة للشعب، فمن الطبيعي أن تختفي منه قيم الامتلاك لحد بعيد، وأن تختفي معها الأمراض الاجتماعية الناشئة عنها ... ولا غرابة أن تختفي جرائم الجنس والرشوة والتلاعب بأقوات الشعب، وخلو الرجل، وتشتد القوانين في ذلك حتى تصل إلى الحكم بالإعدام ...
أما بالنسبة للنظام الاقتصادي الإسلامي، حيث المال مال الله ولكل إنسان حق فيه وليس لأحد أن يستأثر (هكذا يقول المؤرخ الأمين) وتختفي منه بالتالي العلاقات الرأسمالية المستغلة، فمن الطبيعي أن يفرز قيما أخرى يتضمنه قانونه الأعظم وهو القرآن الكريم.
ويسوق الأستاذ الجليل رأيا فريدا أن مصادرة الأموال حق على كل زيادة غير معقولة في الأموال، حتى ولو كانت لمجرد الشبهة كما فعل عمر مع سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأبي هريرة وعمرو بن العاص؛ إذ أخذ نصف أموالهم دون مقابل وضمها إلى بيت المال.
ثم يزداد الدكتور إيغالا فيما ذهب إليه قائلا بأن أصحاب الفضيلة في بلادنا يشنون غزوات دون كيشوتيه ضد الشيوعية غافلين - كما يرى - أن الشيوعية هي التي تحمل روح الإسلام وتعاليمه.
ذلك هو مجمل ما قال الأستاذ الدكتور المؤرخ، وأنا الآن حائر معه، بأي أسلوب أجيبه، هل آخذ كلامه مأخذ الجد وأفنده بما يعرفه، أم أضحك منه وأترك كل مسلم وغير مسلم يشاركني في الضحك.
فبناء على رأي الأستاذ أصبح حتما علينا أن نسميها روسيا الإسلامية لا روسيا السوفيتية، وحتما آخر علينا أن نولي وجوهنا نحن المسلمين شطر الكرملين ليكون قبلتنا بدلا من الكعبة التي يلتف حولها أولئك الذين يحاربون الشيوعية عن غفلة منهم بما تحمله تعاليم الكرملين من إسلام.
المجتمع الرأسمالي فاسد، وما شأن هذا بتعاليم الإسلام؟ ثم إننا نعرف فساده لأنه ينتقد نفسه حتى لنعرف كل خافية من أمره، أما المجتمع الشيوعي فيغلق، ومن يتنفس فيه بكلمة حق فمصيره الموت أو الطرد أو التشريد أو الهوان، ولو قلنا إن الكتاب مثل يسترناك وسلجستير ينشدون الحرية كل الحرية وأنهم ليسوا المقياس الذي يعتمد عليه، فماذا نحن قائلون عن ساخاروف أبي القنبلة الذرية الذي وصف المجتمع الروسي وصفا أقل ما يقال فيه أنه يتنافى أو يتجافى مع وصف مؤرخنا المصري الصميم.
وهل صحيح أن غريزة الامتلاك محيت من النظام الاشتراكي، فماذا عن حمام السباحة المغطى ذي الماء الدافئ الذي كان يملكه خروشوف؟ وماذا عن رئيسهم الآخر الذي يهوى جمع السيارات، وكأنها طوابع بريد؟ وماذا عن الامتيازات الطبقية التي ينعم بها أعضاء الحزب بصورة لا مثيل لها في أعتى الدول الرأسمالية.
وما حكاية عمر هذه؟ هل أنت مؤمن بها حقا أم هو تحطيم لكل شريف رفيع من مثلنا، إن ما طبقه عمر هو قانون: «من أين لك هذا؟» وطبقه على عماله وبالطريقة التي رأى عمر أنها عادلة، والتي لم يكن لها بديل في ذلك العهد، أما لو كانت الأموال تصادر لمجرد أنها زائدة لصادر عبد الرحمن بن عوف الذي ترك ذهبا كان يقسم بالفئوس ووزع على أولاده العشرة أو الأحد عشر - لا أذكر - فأصبحوا جميعا أغنى أغنياء العرب ولم يصادرهم عمر، وأنت مؤرخ وتعرف خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ...» وأنت مؤرخ ولا بد لك أن تكون قد قرأت وما بي حاجة أن أذكرك ...
هم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [سورة الزخرف: 32] ادع إلى الشيوعية أيها الأستاذ ما شاءت لك أمانتك العلمية أن تدعو، ولكني أستحلفك - ولا أدري بماذا، ولنقل بربك ماركس وبنبيك لينين - أن تدع الإسلام وتبحث لك عن طريق إن كان هناك لك طريق.
وقبل أن أنهي حديثي هذا إليك، لي سؤال:
إن كان الإسلام حافلا بتعاليم الشيوعية، ففيم أتعب ماركس نفسه، ومن بعده لينين؟ وفيم قتل ستالين أحد عشر مليونا من الكادحين من الشعب الروسي ليثبت دعائم الشيوعية؟ ألم يكن ماركس قد درس الإسلام فيما درس من شرائع ليضع نظريته التي تنفي الفرد عن الحياة نفيا تاما؟ وإن كان قد درسه ووجده - كما ترى - شيوعيا في روحه ومجتمعه، فلماذا احتاج إلى إنشاء نظرية جديدة؟ لماذا لم يدع إلى الإسلام فتحل المشكلة ونحقن الدماء؟ وعلى أية حال إن الوقت لم يفت، يستطيع الأستاذ المؤرخ أن يدعو إلى مجتمع إسلامي ويترك المجتمعات الملحدة دون أن يحتاج إلى هذا التعسف في استخلاص النظريات وتحميل الوقائع التاريخية لما لم يخطر على بال أنها ستحمله.
تحية إلى طالب أديب
جاءني خطاب من الطالب الأديب أحمد عبد المنعم القاضي، وكم أنا شاكر له أن أرسل هذا الخطاب، فإن مثل هذه اللغة وهذا الإلمام بالأدب العربي والثقافة عامة تجعل ظلام اليأس الذي يملأ نفوسنا ينعم بشعاع من الأمل أن بين الشباب من هو على وعي حقيقي بأدبه وبدينه وبثقافة بلاده وثقافة عصره.
وإني أريد أن أهمس في أذن أديبنا الشاب، ما إليك قصدت حين قلت إن الشباب يحتاج إلى من يبسط لهم دينهم عن طريق العلم الذي يقبلون عليه، فلو كان الشباب جميعا مثلك لوجدوا هم طريقهم دون تبسيط، إنما أنا أقصد تماما ذلك الشباب الذي جعل فيلما مثل «خلي بالك من زوزو» مستمرا في العرض لمدة تزيد على 13 شهرا، ذلك الشباب الذي لا يعرف أن ابن النفيس - كما ذكرت - هو مكتشف الدورة الدموية، والذي لا يعرف أيضا أن ابن حيان هو أول الباحثين في الكيمياء الحديثة، والذي لا يعرف الصلة بين الكرسي وآية الكرسي.
فأنت أيها الأخ الأديب لا تمثل جيلك، أستطيع أن أتبين هذا من معلوماتك ومن لغتك على السواء، ولعلك تتفق معي في الرأي إذا عرفت أن خطابك هو أول خطاب يصل إلي من طالب جامعي ليس فيه خطأ إملائي ولا خطأ نحوي، مما جعلني أقرأه عدة مرات فرحا به، باعثا في نفسي - كما قلت في أول حديثي - إليك شعاع أمل في ظلام يأس.
وكما كنت تريد أن تضحكني بأمثلتك دعني أضحكك بمثال من هذه الخطابات، فقد جاءني البريد منذ أيام بخطاب شديد اللهجة يهاجمني أنا ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، ويقول إننا جميعا نكتب ونظرنا إلى السينما، فهو لا يعجب بها، وأن هذا شأنه مع كتب نجيب ويوسف جميعا، ثم هو يتساءل في جدية: أين أيها الأساتذة القصص البوليسية ولماذا لا تكتبونها لو أنكم حقا جادون؟
واللغة طبعا من عندي، فلا شك أنك أدركت أنه لم يستطع أن يقيم سطرا واحدا دون خطأ إملائي أو لغوي.
هذا الشباب الذي لا يعرف قيمة الرواية البوليسية في أدب الرواية هو يا أخي النموذج الذي أتحدث عنه، ومرة أخرى أحييك.
لا بد للقانون أن يستقر ... قرأت خبرا هذا الأسبوع أن هناك اتجاها جديدا إلى تغيير قانون الجمارك بالنسبة للسيارات بعد أن تبين للمسئولين أن القانون الحالي يتيح فرصة لبعض الناس أن تشتري بغير سبب.
وقد يكون ما تبين للمسئولين صحيحا، ولكن لماذا لم يقدر المسئولون هذا حين وضعوا القانون بادئ ذي بدء، إن الشرط الأول في القانون أن يتمتع بالدوام والاستمرار، وكثرة تغيير القوانين معناها أننا نعيش في بلد بلا قانون على الإطلاق.
وإن بقاء القانون مع استغلال بعض الناس له خير ألف مرة من تغييره في كل شهر مرة.
إن مثل هذه القوانين تمثل اقتصاد البلاد والحالة القانونية فيها، ولا يمكن أن نتصور أموالا تأتي إلينا وهي تشعر أنها قادمة إلى بلد لا يستقر فيها القانون على حال.
إن المشرعين عندنا يعرفون تماما معنى أن يتغير القانون، ومهما يكن الضرر المتحقق من قانون ما، فإنه أقل أثرا من الاضطراب العام الذي يجعل المال الأجنبي مذعورا، فهونا ما، فليس الأمر بهذا القدر من السهولة، إنه مستقبل شعب بأكمله، ولا بد أن يعي المسئولون الذين يغيرون القوانين أي خطر يشيع من هذا التغيير الذي لا تبدو له نهاية.
عندما يلوي الناقد لسانه
الأهرام - العدد 32725
16 يوليو 1975
هناك
فئة من الناس تتعالى على أدبنا وموسيقانا وفنوننا التشكيلية، فالأدب متأخر ساذج، وأين القصة عندنا والرواية من القصة أو الرواية الأوروبية ... وأين الموسيقى العربية المتأخرة من السيمفونيات والموسيقى الغربية الرفيعة ... وأين الرسامون من أعلام الفنون التشكيلية في العالم المتحضر؟
هؤلاء الناس ضعاف، لا ثقة عندهم ببلادهم ولا بتراثهم، وهم حتى في تقديرهم للفنون الغربية مقلدون وليسوا أصلاء، فإننا نستطيع أن نعجب بالفنون الغربية، ولكن الذي لا شك فيه أننا لا نستطيع أن نصل من أعماق هذه الفنون إلى المدى الذي يصل إليه أبناء بيئتنا الذين تقدم لهم هذه الفنون.
فكل فنان هو في الحقيقة نبت البيئة التي ولد بها ولا يستطيع أن يعرف القيمة الحقيقية لفنه إلا أبناء بيئته.
وحين أقول البيئة لا أقصد دولة، وإنما أقصد البيئة العامة التي تسود المجتمع العربي من شرقه إلى غربه.
ولكن الكارثة الحقيقية التي مني بها أدبنا أن نجد بين نقادنا من يلوي لسانه باللغة الأجنبية وهو ينقد أعمالنا المصرية رافضا تماما ما نقدمه، عاقدا دائما المقارنة بين أدبنا وبين الأدب الغربي.
والأمر الذي لا شك فيه أن هذا الناقد لم يستطع أن يتعمق أسرار الفن الأدبي العربي ولا الفن الأدبي الغربي.
فهو يرفض تراثه ويرفض وطنه وينظر إلى تراث أجنبي ووطن غربي، ولكن التراث الأجنبي غريب عنا والوطن العربي هو الذي يرفضه في هذه المرة؛ لأنه ليس منه، ولا يستطيع أن يقبل حكمه على أدبه ولغته بنفس الثقة التي يقبل بها حكم الناقد الغربي على أدب بلاده ولغتها.
هذا الناقد مسكين، لا هو متمسك بأصوله وبيئته وعروبته، ولا هو استطاع أن يلحق نفسه بالأدب الذي يريد أن ينتمي إليه ويرتمي بين أحضانه.
إن القصة والرواية والمسرحية عندنا نظرت - على طول طريقها - إلى الأدب الغربي، وأفادت منه ولكن مع طول الممارسة أصبحت هناك قصة مصرية عربية ومسرحية مصرية عربية، ولو أن المسرحية المصرية هي الغالبية.
فحين كتب الدكتور محمد حسين هيكل رواية زينب، وحين كتب تيمور الكبير ولاشين القصة، وحين كتب أستاذنا توفيق الحكيم المسرحية (أطال الله عمره!) لم يكن هناك أصول ينظر إليها هذا الرعيل الأول إلا الأصول الغربية .
ولكن حين أخذت الرواية مسارها بعد ذلك على يد طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني، وجاء الجيل التالي من نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله والسباعي وعبد القدوس والشرقاوي، ومن محمود تيمور ومن بعده يوسف جوهر ومحمود البدوي وأمين يوسف غراب، أصبح للرواية والقصة المصرية العربية تراث، وإن كان الشأن في المسرح غير الشعري مختلفا، فالذين تأثروا بمسرح الحكيم الشاهق أنتجوا مسرحيات باللغة العامية، ولا نكاد نرى من سار حتى دربه من الجيل التالي له إلا علي أحمد باكثير.
إن الناقد المتفرنج يقف من الإنتاج الضخم الذي قدمه هؤلاء جميعا وغيرهم من جيلهم وممن تلاهم موقفا متعاليا مقارنا في لسان ملتو بلغة أهل الفرنجة رافضا، أو شبه رافض، دون حتى أن يكون عادلا في حيثيات رفضه.
ولهذا لم يكن غريبا أن يرفض القارئ مثل هذا الناقد، فالكتاب المصريون عرب، ويكتبون لمصريين عرب، واللغة بينهم واحدة، والمنبت واحد، والبيئة هي نفس البيئة، فمن يتعالى على بيئته لا بد أن يقبل الجزاء الطبيعي، وهو أن ترفضه بيئته.
عاشق الليل
الأهرام - العدد 32729
20 يوليو 1976
من مفكرة ثروت أباظة
سبحان الخالق العظيم! جعل كل فرد من الناس نمطا مستقلا بذاته، له مشاعره الخاصة وشكله الخاص وأفكاره التي تتخلج في أعماق نفسه، لا يعرف أسرارها إلا الخالق سبحانه، ثم جعل لكل إنسان بصماته الخاصة التي لا يتماثل فيها اثنان في العالم، كأن هذه البصمة هي توقيع لفنان انتهى من عمله الفني.
من هذا الشتات من الأفكار ومن المشاعر ومن التركيب الخلقي والخلقي تتكون الشعوب، ومن هذه الشعوب تتكون البشرية.
فكل نظرية لا تدخل في حسبانها أن للإنسان مشاعر ورغبات وآمال وآلام وعواطف تضطرب بين الحب الجارف بلا حدود، والكره القاتل لا يرده شيء، نظرية لم تخلق للإنسان، وقد تصدق على الآلة الصماء بلا مشاعر لها ولا آمال ولا آلام.
في قريتي أنماط الناس على كل صنف ولون، ولكن بعض أشخاص لا يستطيع النظر أن يعبرهم بغير إنعام وتمعن.
عبد الحليم حسون: عرفته أول ما عرفته خفيرا نظاميا في القرية، وكان عمدة القرية معجبا به أشد الإعجاب؛ فهو أول من يتسلم سلاحه في صفار الشمس، وهو آخر من يسلمه بعد أن يصلي الفجر.
ولا يأتي جزء من الليل على عبد الحليم إلا وهو يقظ لا ينام، فعبد الحليم يحب الليل ولا يطيق أن يفلت منه لحظة دون أن يعيشها بأكملها، بأعماقها جميعا، ويستمتع بكل ما في الليل، وهو يستمتع بالليل على أي صورة له، فهو يحبه أسود قاتم الظلمة معتما، وهو يحبه والنجوم على صدر سمائه، وهو يحبه والقمر يحيله إلى هذا اللون الأزرق الذي يشيع في النفوس، الحب للحب، والهوى للهوى، والشفافية الشاعرة الرقراقة، ويسعد بغلالة القمر نسجتها يد الفنان الأعظم، ويلقي عبد الحليم نفسه في هذه الغلالة سعيدا، لا يدري لسعادته سببا ولا يريد أن يدري، وكأنما أدرك بحسه البدائي الصادق أن التغلغل في أسباب السعادة يدمر السعادة، إنما هي لحظة إشراق تومض، فهو بها في نشوة ولا يعنيه من بعد من أين جاءت هذه الإشراقة، وكم ستمكث ومتى ستولي عنه؟ وإنما هو يلقي نفسه إليها، فالدنيا جميعا هي لحظته تلك، وليكن بعد ذلك ما يكون.
وما عرفت في حياتي شخصا يقدس الحرية مثلما يقدسها عبد الحليم.
أحب وتزوج وأنجب بنتا، وما إن جاءت البنت حتى تكشفت زوجة عبد الحليم على حقيقتها، لقد أرادت أن تفرض سيطرتها عليه، فلا يفلت إلا من يدها، ولا يخرج إلا بإذنها، ولا يصادق إلا بأمر منها.
واتخذ قراره الحاسم.
الوقت شتاء، ولكن لا يهمه، وهو يسهر الليل كله في درك الخفر، وللجسم حقوق لا بد أن تؤدى ... فإذا خرج من بيته فإلى أين يأوي؟
لم يفكر، كان قد اتخذ قراره.
لم يعد بعد ذلك إلى بيته، والتمس من حقل شجرة ونام، وأصبحت الشجرة بيته.
وحاولت الزوجة أن تسترده بكل الوسائل التي تعرفها المرأة فلم تفلح، فحاولت أن تسترده بالوسائل التي تعرفها القرية ففشلت. - إن ما بيني وبينك ورقة الزواج، أستطيع أن أجعلها في أي لحظة ورقة الطلاق، وأنا لا أريد أن أفعل هذا من تلقاء نفسي من أجل بنتنا، لن أطلقك إلا إذا طلبت هذا. - عد وافعل ما تشاء. - إن المرأة التي تحب أن تسيطر لا تصلح لي. - قلت افعل ما تشاء. - أنا لا أريد إلا أن أكون حرا. - فكن حرا. - لن أكون حرا إلا وأنا بعيد عنك ... - وبيتك؟ - ما دمت فيه فهو ليس بيتي. - وأنا كيف أعيش؟ - هذا شأنك، ما دمت تعرفين كيف تسيطرين فلا بد أنك تعرفين كيف تعيشين. - وبنتك؟! - لن ينقص ابنتي شيء إلا أن أكون أنا موجودا. - أنت تعرف كم تحبك. - أنا طول الليل في الدرك تستطيع أن تأتي إلي عندما تشاء، وهي تعرف كيف تجدني دائما. - أليس هناك أمل؟ - أما أنا فأملي كله أن أكون حرا، وقد صرت حرا.
وهكذا اتخذ عبد الحليم قراره، ونفذه، ولم يجد معه حديث زوجته، ولا شفاعة أصدقائه، ولم تجد زوجته سبيلا إلا أن تلجأ إلى العمدة تستعينه على زوجها. - ارجع يا ولدي إلى زوجتك. - وما دخل هذا في عملي يا حضرة العمدة؟ - إنني آمرك. - سعادتك تستطيع أن تأمرني بما شئت فيما يتصل بعملي، أما ما يتصل بزوجتي فلا يأمرني أحد. - حتى ولا أنا؟ - وما دخلك أنت يا حضرة العمدة فيما بين الزوج وزوجته. - أنا عمدة البلد يا ولد ... هل جننت؟ - يا حضرة العمدة، أبقى الله عليك العمودية، ولكن هل تستطيع بالعمودية أن تجعلني أقبل زوجتي ... وإذا كانت كريهة إلي؟ هل تستطيع أن تجعلها حبيبة يا حضرة العمدة؟ الله وحده هو الذي يملك القلوب ... والصلة بين الزوج والزوجة لا يعرف أسرارها إلا الزوج والزوجة، إنها صلة لا مثيل لها في العالم، ولا تكون بين اثنين آخرين أبدا، فلا هي نفس الصلة بين الابن وأبيه، ولا هي الصلة بين الابن وأمه، ولا بين البنت وأمها ... صلة عجيبة أنشأها سبحانه على نظام خاص فكيف تتصور أن تتدخل فيها بأوامرك يا حضرة العمدة؟ - الله ... الله ... الله ... ما كل هذه الفصاحة؟! - ولكني على حق. - إذن فأنت مرفوت. - سبحانه ... لا يترك أحدا جائعا .
لم يكن المرتب يعني عبد الحليم ... فهو يعرف أنه سيعيش، ولكنه حزين أنه حرم من الليل ... ولم يدم حزنه طويلا ... لقد كنت أسهر لأني خفير، فماذا بي لو سهرت لأني حر، سيضحك مني الناس، ولكن ما شأن الناس بي؟ لقد رفتني العمدة لأعود إلى بيتي، ولكن ما الحرية إذا أنا لم أغتصبها اغتصابا.
ومنذ ذلك اليوم وعبد الحليم لا ينام في البيت أبدا، في الشتاء العاصف والريح تعوي، فيختلط صوتها مع صوت الذئاب، والمطر ينهمر فيدق الأرض وكأنه عديد من الحصى الغليظة، وطرقات القرية وحقولها لا يبدو فيها أنس أو وميض من نور، تجد عبد الحليم في العراء، كل ما فعله لنفسه ليتقي لذعة البرد كيس فارغ من أكياس القطن مبطن بقش الأرز يغمر عبد الحليم نفسه في داخله وينظر إلى الليل، فهو يحبه أيضا حين يعصف وينهمر مطره وتعوي ذئابه ورياحه.
وتمر الأيام لتصبح سنوات، وتكبر ابنة عبد الحليم ويأتي لها من يريد الزواج بها، وتتزوج في بيت عبد الحليم مع زوجها حتى لا تترك أمها وحيدة.
وتمر أيام أخرى وتموت زوجة عبد الحليم.
وتقصد البنت إلى أبيها. - أبي قد كبرت ولم تعد تستطيع أن تظل على هذه الحال. - وما هذه الحال؟ - تحتاج إلى لقمة طيبة، وهدمة نظيفة، ونومة هادئة. - أما اللقمة فأنا كما تعلمين لا يغريني الطعام، وأما الهدمة ... - أعرف ... أعرف، إنك أنظف إنسان في القرية، ولكنك يا أبي أنت الذي تغسل جلبابك كل ليلة. - من يريد أن يكون حرا لا بد أن يكون نظيفا. - والنومة الهادئة. - أتحسبين يا ابنتي أنني أنا في العراء لأني لا أجد بيتا. - أتحب أن تنام في العراء؟ - قولي لي ... كيف أعيش منذ تركت الخدمة؟ - تؤدي الطلبات لأصدقائك في البلاد الأخرى وفي البندر مقابل أجر ضئيل. - يكفي لقمتي وسيجارتي. - وما شأن هذا بنومك في العراء؟ - هل أعدم سقفا عند أصدقائي هؤلاء، إنما أريد أن أرى الليل وأقيم فيه، إنه يخيل لي أن الليل نفسه لا ينام إلا إذا رآني أنام تحت سمائه ... أنا يا ابنتي مخلص لأصدقائي كما تعرفين ... الليل هو أحب أصدقائي إلي، وهو أيضا أوفى الأصدقاء لي.
ثروت أباظة
(الأدب الحديث والتراث)
الأهرام - العدد 32732
23 يوليو 1976
الرواية والقصة والمسرحية ألوان وافدة إلى الأدب العربي، واعتقادي أن واجب الأدباء المحدثين أن يثبتوا هذه الألوان الوافدة في الأدب العربي.
وقد قال الدكتور زكي نجيب محمود في حديث رائع له: إنه لا يكفي أن تنادي بتثبيت الألوان الوافدة، وإنما لا بد أن تعمل على ذلك بأدبك أنت الذي تنشئه.
فحين نظم شوقي مسرحياته الشعرية ضرب المثل لمن يشاء أن يتبعه في الوسيلة التي يمكن بها تثبيت المسرحية على أصول من تراث الشعر العربي.
وتطورت الفكرة عند عزيز أباظة، فبعد أن كان الشعر هو أهم ما يعنى شوقي به في المسرحية، وجدنا عزيز أباظة يمنح البناء المسرحي اهتماما يكاد يتساوى مع اهتمامه بالشعر، ثم جاء عبد الرحمن الشرقاوي فاعتمد على اللفظ العربي وعلى التفعيلة الواحدة فأصبح الشعر أكثر طواعية له، وتبعه في ذلك صلاح عبد الصبور، فأصبحت المسرحية الشعرية مطمئنة الأصول في الأدب العربي ... أو هي على الأقل أكثر اطمئنانا من المسرحية النثرية التي وضع أسسها أستاذنا توفيق الحكيم، ولم تجد من يسير في الطريق الذي أنشأه إلا علي أحمد باكثير في بعض مسرحياته.
ولكن أين هذا مما كان يؤلفه أستاذنا الرائد توفيق الحكيم؟
لقد وجد من يقلده في التمثيلية العامية، ولكنه لم يجد من يسير على نهجه وخطاه في التمثيلية العربية التي تجعلها تثبت في اللغة العربية وتعمق رواسيها وتشتد سواعدها.
أما في القصة والرواية، فإن الأمر مختلف، فإن أغلب الذين رادوا طريقها اختاروا اللغة العربية في السرد، ولو أن بعضهم آثر أن يكون الحوار عنده باللغة العامية.
وهم أيضا حين اختاروا السرد العربي لم يعتن كثير منهم بحلاوة اللغة ونغمتها الموسيقية، ولست أعني طبعا أن يكتبوا رواياتهم بلغة المنفلوطي، ولكن الذي أعنيه أن يكون اهتمامهم بجمال اللغة الجمال الذي يتواءم مع عصرنا وذوقه الأدبي.
وهذا لا يأتي إلا بالمعرفة الكاملة باللغة العربية وبحواسها، وموسيقاها ، وأثر كل لفظة من ألفاظها في الأذن والنفس.
ومن عدم الاهتمام باللغة نشأت طائفة من النقاد تنادي بإسقاط اللغة العربية واللفظ العربي والجمال الأسلوبي، مدعين أن جمال الأسلوب يقف حائلا بين القارئ وبين أعماق القصة، واللجوء إلى هذه النظريات الهلامية يجعل مناقشتها مخيفة لمن لا يعمل في الميدان، ولكن لعل أيسر وسيلة للنقاش هو ضرب الأمثلة، فمثلا نجد نجيب محفوظ يهتم باللغة ويبقي على الحوار عربيا دائما، ومع ذلك فالقارئ يفهم عنه ما يريد، وينفذ في يسر إلى أعماق أعماله الفنية.
فالقضية إذن عند هؤلاء النقاد لا تزيد على رغبة جامحة في تحطيم اللغة العربية لغرض في نفس اليعاقيب، إذا صح هذا الجمع لكلمة يعقوب ذي الغرض.
ومن ذلك، فهم يرهقون أنفسهم ويحملونها ما لا تطيق، فإن اللغة العربية باقية وإن رغمت منهم الأنوف، والعنصر الجمالي في الفن الأدبي سيظل عنصرا أساسيا مهما يرجف به المرجفون.
ثروت أباظة
لبنان ... دولة تنتحر!
الأهرام - العدد 32736
27 يوليو 1976
حين اغتصب أبناء صهيون أرض فلسطين العربية أنشئوا بذلك جريمة لم يعرفها العالم منذ اغتصب أبناء أمريكا أرض الهنود الحمر، مع فارق كبير، كان الهنود الحمر آنذاك شعبا متأخرا عن ركب الحياة، واستطاع الوافدون من طريدي الشعوب وسفاحيها ولصوصها أن يأخذوا منهم أرضهم غصبا وعنوة، ولكنهم مع ذلك لم يشردوهم في أقطار الأرض وسمحوا لهم بالبقاء، وإن كان بقاء مفزعا أسقطوا فيه كرامتهم وامتهنوا إنسانيتهم.
أما اليهود فقد استلبوا الأرض العربية بعون من الدول الكبرى، وبالخداع وبالسلاح وبكل وسيلة بعيدة عن كل معنى من معاني الشرف أو الخلق.
وشرد أبناء فلسطين في عرض الحياة وتكون شعب بلا مأوى.
ولكن لماذا ننتظر من اليهود غير ذلك وهم أعداء للعرب منذ ظهور الإسلام، كانوا طوال تاريخهم الأسود عونا على النبي ودينه، ثم حربا على أتباع النبي ودينه.
والغدر من العدو أمر منطقي لا يدعو للدهشة.
وليس أمر الدول الكبرى بمختلف عن أمر الصهاينة، فهم لم ينسوا عداءهم للعرب، وما زالت في نفوسهم منه غصة لا تنقضي أبد الدهر ، لعل الموقف الوحيد الذي يدعو إلى الدهشة هو تأييد دولة تلغي فكرة الدين من أساسها، ولكنها مع ذلك تقبل أن تقوم دولة العماد الأول فيها والأخير هو الدين اليهودي.
ولهذا فقد كان عجيبا أن تكون روسيا هي ثانية الدول التي تعترف بقيام دولة إسرائيل بعد أمريكا.
وعلى أية حال، فالغدر من العدو أمر طبيعي.
ولكن الأمر العجيب هو غدر الأخ بأخيه، واللبناني باللبناني، والعربي بالعربي.
كيف استطاعت نفوسهم أن تقبل هذا الإفناء لأهلهم وذويهم ودولتهم، من ينتقم من من؟ ومن ينتقم لمن؟
قومي همو قتلوا أميم أخي
فإذا رميت أصابني سهمي
هناك أيد خفية، وهي أيد ثقيلة تحركها أكبر دولتين في العصر الحديث، ولكن كيف استطاعت هاتان الدولتان أن تحرضا شعبا أن ينتحر.
من يستطيع أن يتصور أن تخطط أمريكا لتمزيق لبنان، وتقدم روسيا السلاح لينفذ به تخطيط أمريكا؟ الدولتان اللتان تقفان على طرفي النقيض من العالم تتفقان؟ ثم يتبلور اتفاقهما أول ما يتبلور على لبنان وشعب لبنان؟ ويدفعان الشعب السوري ليكون أداتهما معا، وهما - لا شك - قد أغرياه أن يأخذ جزءا من لبنان بدلا من الجولان، ويستطيع بذلك زعماء سوريا أن يقيموا الأفراح ويطلقوا الحناجر بالخطب التي يقوم عليها حكمهم أنهم قد انتصروا وكسبوا لسوريا أرضا جديدة، لعل الشعب ينسى أرضه القديمة.
ولعل الشعب يرضى، وهم يأملون ألا يفكر الشعب أن أرض لبنان لا يمكن أن تكون لسوريا، فالدولتان عربيتان، والإنسان لا يكسب شيئا إذا نقل مبلغا من المال من جيبه في اليمين إلى جيبه في الشمال، ولكن الأرض تكون كسبا إذا استولينا عليها من عدو اغتصبها، كأرض سيناء التي استرجعناها، وكقناة السويس التي استردتها الجيوش العربية.
لهفي على لبنان، يحيط به الظلم الفادح من الدولتين الكبيرتين، والطمع والجشع من الدولة الشقيقة، ولعب الأطفال ومجانين الزعامة ومخبولي الانقلابات ... لهفي على لبنان!
بيوت كالعتيق
رحم الله شوقي حين قال في قصيدته الخالدة «مصائر الأيام» يصف معاهد الدراسة:
وتكسر فيهم غرور الثراء
وزهو الولادة والمنصب
بيوت منزهة كالعتيق
وإن لم تستر ولم تحجب
يداني ثراها ثرى مكة
ويقرب في الطهر من يثرب
إذا ما رأيتهمو حولها
يموجون كالنحل عند الربي
رأيت لحضارة في حصنها
هناك وفي جندها الأغلب
فالمفروض إذن أن يكون الجميع في رحاب المعاهد الدراسية سواسية، فلا يزهو طالب على طالب بثراء أبيه، ولا تدل طالبة على الأخرى بغنى ذويها.
ولكن ما تقيمه المعاهد من مساواة يهدمه شارع الشواربي ليذهب الفتيان والفتيات وقد ارتدوا وارتدين من الملابس أغلاها وأفخرها، ويكلف الأبناء والبنات آباءهم وآباءهن عنتا من أمرهم، فكل شاب وكل فتاة خاصة لا يحب أو تحب أن يشعر بالمهانة عند المقارنة بالآخرين والأخريات.
ومن الآباء، بل أغلب الآباء لا يستطيعون أن يدخلوا هذه المنافسة فبحسبهم أن يوفروا لأبنائهم وبناتهم ما يستر، وبحسبهم أن يوفروا لهم المأكل والمسكن والمواصلات والكتب والدروس الخصوصية، وهيهات لهذه الأشياء أن تتوفر إلا بالجهد والاقتراض وإراقة ماء الوجه وغير ذلك مما يضطر له الآباء اضطرارا.
وحين يجد الأبناء والبنات أن الآباء لن يستطيعوا أن يواجهوا مطالبهم من الملبس الفاخر الذي يطاولون ويطاولن به الزملاء والزميلات يتولى الفتيان والفتيات الأمر.
ونسمع الكثير من القصص التي ينكسر لها القلب ونصبح كلنا شفقة على مصير الجيل الجديد الذي ينحرف، وما كلمة ينحرف إلا لفظة هزيلة ضامرة لا تمثل ما يتردى فيه الشباب من سرقات والفتيات من أعمال أخرى أعف عن ذكرها.
ماذا علينا لو وحدنا الزي في الجامعة، ولنجعل منه عدة نماذج تناسب مختلف الأشكال والأطوال والأحجام، لعلنا بهذا نحد من الإسراف المخجل الذي يضطر له الآباء ليرضوا به غرور البنات والأبناء، ولعل توحيد الزي هذا يجعل فتاة في الجامعة تشعر أنها ذاهبة إلى معهد، وليس إلى حفلة راقصة أو حفلة تنكرية، فلا تجعل من وجهها خشبة رسام تنسبك عليها الألوان عمياء زاعقة، ولا تبالغ في تصفيف شعرها مما يكلف الآباء عنتا آخر هم في غنى عنه بما تلقيه عليهم الحياة من إعنات وجهد ومشقة.
عامل في قطاع خاص
دخلت إلى محل نظارات مصري شهير بالإسكندرية، وانتقيت علبة أحتاجها لنظارتي، وأعطيته خمسة جنيهات ليعطيني الباقي، ووضعت العلبة في جيبي، وفي انتظار الباقي سألت البائع الشاب عن نوع آخر من العلب، فقال إنه سيكون لديه في الغد، فقلت: إذن أنتظر إلى الغد. - أمرك.
وأعطاني الجنيهات الخمسة وانصرفت.
وجلست أشرب قهوة في مقهى قريب من المحل، وبالصدفة المحضة وضعت يدي في جيبي، فإذا بي أجد العلبة.
وأدركت طبعا أن الشاب البائع نسي أن يطلبها، فقمت مسرعا إليه وفتحت باب المحل لتستقبلني ابتسامة عريضة على وجه الشاب البائع. - وفيم أتعبت نفسك؟ - إذن فأنت تعرف أن العلبة معي. - طبعا. - ولماذا لم تطلبها؟ - أترضى لي أن أذكرك بهذا؟
لقد فضل الشاب أن يسكت ولا يذكرني أنني وضعت العلبة في جيبي دون أن أدفع ثمنها حتى لا أشعر بالحرج.
هذا المحل من أنجح المحلات، وصاحبه شهير، وله زبائن كثيرون، ليس غريبا أن ينجح لأنه يختار بائعه بهذه الكياسة وهذا الأدب.
أفكر جديا، لو كان هذا حصل مع محل للقطاع العام، أتراني كنت الآن أكتب هذه المفكرة؟ أم كنت سأكتب مفكرة أخرى عن القبض علي وتسليمي للنيابة العامة بتهمة اختلاس علبة نظارة؟
الأدب والسياسة
الأهرام - العدد 32739
30 يوليو 1976
هل يستطيع الأدب أن ينأى عن السياسة ... كانت هناك نظرية الفن للفن ... ولكن هل الذين كتبوا في ظل هذه النظرية نفسها استطاعوا أن يبتعدوا عن السياسة ...؟ كيف ...؟
إن الأديب نتاج عصره ... وفنه هو روح جيله، ونبض شعبه في الفترة التي يعايش فيها هذا الشعب، والسياسة هي التي تشكل حياة الشعوب، وتشكل مصالح هذه الشعوب، فهي مؤثرة ومتأثرة بالشعب في وقت واحد معا ...
والأديب في كل عصر وفي كل زمان، هو كلمة هذا الشعب، ولذلك فأنا أرفض الرأي القائل بأن الأديب هو الرفض، وإن الفنان هو الثورة، وأن الكاتب هو المعارضة.
إنما الأديب والفنان والكاتب جميعا هم الشعب.
يعبرون عنه رفضا أو تأييدا، ثورة أو تدعيما، معارضة أو مساندة ... الشرط الوحيد الذي يجب أن يتوفر في الأدب أن يرفض لأنه يرى الرفض في مصلحة الشعب، ويؤيد حين يرى التأييد خيرا لقومه.
أما اصطناع الرفض ليمثل الأديب دور البطل الدرامي الأسطوري؟ أو اصطناع التأييد لينافق أهل السلطة ورجالها، فأمران كلاهما شر من أخيه، وموقفان كلاهما فيه خيانة لأمانة القلم وأمانة الإنسان جميعا.
إن الأديب ينال من قومه الاحترام والتوقير والإجلال، وذلك حقه ... وكل حق يقابله واجب، وواجبه الأوحد أن يكون أمينا في كلمته التي يوجهها لهؤلاء الذين يقدمون له الاحترام والتوقير والإجلال.
فإذا خان أمانته، خان قومه وخان نفسه، وأصبح أمره شرا من العدو وأكثر قبحا من الجاسوس.
وهكذا، فمن المحتم أن يرتبط الأدب بالسياسة ... وقد ارتبط بها على مر العصور ... والأدباء الذين لم يكن لهم رأي في الحياة السياسية التي عاشوها أدباء مروا بالحياة دون أن يؤثروا فيها، ومرت بهم الحياة دون أن تحس بهم.
فإذا نظر الأديب إلى الإنسان، وجعل عمله كله المجتمع، واضطرب الناس فيه يكون بذلك مرتبطا بالسياسة أشد الارتباط ... فإن السياسة نفسها موضوعها هو هذا الإنسان وهذا المجتمع ... ونظرة الأديب هنا تكون أكثر شمولا واتساعا من مجرد النقد التفصيلي للأعمال السياسية المفردة.
ولكن هناك نوعا من الأدب بعيد كل البعد عن حياة الناس ومضطربهم، لا يهدف إلى غير الجمال الفني ... هذا الأدب قد يعيش، ولكن قليلا ما يعيش ... فالجمال الفني يختلف من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، ويبقى الإنسان بعواطفه وآلامه وآماله ... ويبقى المجتمع وسعيه نحو الأعلى والأمثل ... والأدب هو مرقاه وهو نظريته وهو كلمته ... وهو هو دائما الإنسان والمجتمع.
ثروت أباظة
فرصة كافية للقدر
الأهرام - العدد 32743
3 أغسطس 1976
لم يكن مجرد النجاح في بكالوريوس الهندسة هو كل ما يصبو إليه، فقد كان يعلم أن البعثة إلى إنجلترا في ذلك العام مقصورة على الأول فقط، فإن لم يكن هو الأول فمعنى ذلك أنه لن يذهب إلى هذه البعثة، ومعنى ذلك أن تنهار آماله كلها، وبقلب واجف عنيف الوجيب انتظر النتيجة وظهرت.
لم يكن الأول، وإنما كان ثاني دفعته.
لم يحس أنه نجح، لقد تساوى هذا النجاح الرائع بالنسبة إليه مع السقوط، فما كان يبغي أن يكون مجرد مهندس، إنما هو يريد من الحياة أن يكون دائما على قمتها.
وقد تمثلت القمة عنده على شكل دكتوراه في الهندسة، واسم شامخ ضخم عملاق يمكنه أن يبني فلا يبني إلى الأبنية الشامخة العملاقة.
من أين له بهذا اليوم؟ والسبيل إلى البعثة مقطوع، وليس لدى أبيه أو ذويه وفرة من المال تتيح له ما تتيحه الحكومة للأول، وانهارت الحياة عنده وتصدع أمام ناظريه بنيان المستقبل.
كان شابا جميلا، حسن السمت، بهي الطلعة، وكانت له قبل النتيجة ابتسامة عذبة تأمر من يراه أن يعجب به، فحين ذوت منه هذه الابتسامة بقي له على رغم أنفه جمال الشباب وحسن السمت وبهاء الطلعة.
وتواثبت إلى أذنه همسة وشوشه بها صديق لأبيه: هل جربت كل الوسائل؟ - وهل هناك وسائل؟ لا بد أن أكون الأول، أو لا بعثة. - يا بني لكل هدف أبواب كثيرة. - إلا البعثة. - وفي مقدمة هذه الأهداف هذه البعثة. - كيف يا عمي ... كيف؟! بعثة قررت الوزارة أن تكون من الأول فقط نظرا لظروف الحرب العالمية، وأنا لست الأول، من أين تأتي الأبواب الأخرى؟ - قل لي ... من المشرف على البعثات؟ - فلان بك. - هل أنت متأكد أنه فلان بك؟ - نعم. - إنه صديقي. - وماذا يستطيع أن يفعل؟ - قل لي. - أقول لك. - ألم تتخرج؟ - أهذا ما تريدني أن أقوله؟ - ألا ترغب في الزواج؟ - يا نهار أسود من الحبر ... أي زواج يا عمي ... أقول لك بعثة وتقول لي زواج. - الزواج هو البعثة. - ماذا؟ - ما سمعت. - بعثة إلى أين؟ - إلى لندن طبعا. - أتزوج. - فلان بك عنده بنت ... غاية في الأدب ومتخرجة في كلية الآداب. - آداب حقوق لا يهم ... أراها. - لماذا؟ - أليس معنى كلامك أنني سأتزوجها؟ - طبعا. - ألا يرى الإنسان عروسه؟ - عادة من الطبيعي أن يرى الإنسان عروسه ليعرف إن كانت جميلة أم قبيحة، توافقه أو لا توافقه. - أنت تعرف إذن أنني لا بد أن أراها. - نعم وأعرف أيضا أنك تتزوج من أجل مسألة أخرى بالمرة. - بمعنى. - يعني لا لزوم أن تراها مطلقا. - عمياني؟! - بالعكس، على السكين ... أنت لا تتزوج زوجة تختارها بمحض إرادتك، أنت تتزوج بنت فلان بك لتذهب إلى البعثة، مقدمات ونتيجة، كل ما يهمك من أمرها أن تكون بنت فلان بك ولا شيء آخر، وأنا أضمن لك أنها بنته، وسأكلمه على أساس أنك رأيتها فعلا. - توكل على الله. - أنت متأكد؟ - تماما، لكن لا بد من احتياط بسيط. - مثل ماذا؟ - مثل أن تعرف فلان بك المقدمات والنتيجة. - ترى ذلك ضروريا؟ - لا بد وإلا تزوجت ولم أذهب إلى البعثة، فبدلا من أن نكحلها نعميها. - ليس من المحتم أن يعرف المسألة بكل هذه الصراحة. - هذا متروك للباقتك ... إنما لا بد أن يعرف على كل حال.
وتم الزواج ...
ولكن هل يترك القدر مسألة كهذه دون أن يتدخل بسخرية عنيفة. كانت الفتاة غير جميلة - وهذه حقيقة لم تكن تحتاج مني أن أذكرها، فلا شك أن كل قارئ عرفها، ولقد رآها الفتى عاشق البعثة أشد قبحا من حقيقتها، وليس في ذلك أيضا شيء غريب، فإنها ستلازمه ليله ونهاره بل وفي العصر وفي المغرب أيضا، ولكنه مع ذلك قبلها حبا في البعثة وإحياء للمستقبل الذي انهار أمام عينيه، وقد تمت الخطبة على أساس أنها سترافقه في البعثة وتدرس هي أيضا في لندن، ولكن الأمر العجيب الذي تفضل القدر فتدخل به قبل أن يتم الزواج كان له أعظم الأثر في حياة المهندس العظيم.
كان يوما في زيارة لخطيبته قبيل الزواج بأيام قلائل، فإذا فلان بك: مبروك يا باشمهندس. - الله يبارك فيك يا عمي ... خير.
كنت سأسعى سعيا عنيفا لأجعل البعثة من اثنين حتى تتمكن من الذهاب إلى لندن. - وهل نجح المسعى؟ - لم أعد في حاجة إليه. - لماذا ... ماذا حدث؟ - اعتذر الأول عن عدم الذهاب فأصبحت أنت المرشح الوحيد للبعثة بفضل مجهودك وحده دون أي سعي مني أو من غيري.
خرج المهندس في ذلك اليوم وقد أصابه دوار متلاطم أخاذ ... ماذا عليه لو كان انتظر ... وماذا لو فسخ الخطبة الآن، تلغى البعثة جميعا، وما ذنب الفتاة، وما ذنب فلان بك؟
إنهما الآن زوجان ، وأبناؤهما تخرجوا في الجامعة، ولكن الدكتور المهندس تعلم منذ ذلك اليوم أن يترك فرصة كافية للقدر قبل أن يتخذ أي قرار.
كلمة إلى السيد وزير الحربية
كنت قد توجهت إلى السيد نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية الفريق أول الجمسي بكلمة في مفكرة 6 يوليه، أرجوه فيها أن ينظر بعين العدل للشباب الذي يندب للخدمة بعد أن قارب الثلاثين وكون حياته على أنه معفي من الخدمة، وكان هذا الرجاء يبعثه خطاب من سيدة ذات أبناء ثلاثة لم تقل اسمها، ومنذ ذلك اليوم والخطابات تنهال على جريدة الأهرام تطلب مني أن أعيد تذكرة الوزير الإنسان، وإني على ثقة أن مثل هذا الأمر لا يحتاج إلى إعادة الكلام فيه، وعلى ثقة أيضا أن الوزير الإنسان لن يألو جهدا في سبيل تحقيق العدالة لهذه الأسر التي تبينت من كثرة الخطابات أنها كثيرة، وأنها تعاني أشد المعاناة من إبعاد عائلها عنها فترة التجنيد.
ضمير القلم
الأهرام - العدد 32746
6 أغسطس 1976
الأدب هو الحرية ... ويوم تقفل على الأديب منافذ الحرية يصبح ما ينتجه منشورات وفرمانات، وليس من عمل الأديب أن يصدر المنشور أو الفرمان.
ويوم توضع القضبان الحديدية حول فكر الأديب وعواطفه ورغباته وآماله يسقط الأدب ولا يبقى منه شيء.
الأديب هو انطلاقة شعبه، وأمله وألمه، وقلمه وحلمه، وابتكاره وتشوقه وسخطه وغضبه ورضاه وقلبه، ولسانه وعاطفته، وعقله ويومه، وأمسه وغده ... وهيهات أن تستطيع قوة في الأرض أن تجابه هذه الأمواج الضخام من المشاعر والأفكار.
قد يسكت القلم ولكن الأديب يتكلم ... وقد حاول الجبابرة عبر التاريخ أن يسكتوا الأديب ولكنه قال:
وعرف الجبابرة آخر الأمر خطر الأديب، فحاولوا أن يصطنعوه، وسقطت في الشباك نفوس صغيرة من الأدباء، واستعزت بكرامتها نفوس أخرى.
ونالت النفوس الساقطة المال، ونالت النفوس الأبية الإجلال.
وما هي إلا خفقة زمن، حتى ذهب المال وبقي الإجلال، وقد حاولت أقلام صغيرة أن تدعي العمق وتقدم عمقها للسلطان يركبه ... وما هي إلا خفقة زمن حتى زال السلطان وبقي رأي الناس، وبقيت نظرتهم ترمق صاحب القلم الصغير في احتقار، وراح هو ينظر إليها في تذلل.
ترى ألم يكن يعرف أصحاب الأقلام الصغيرة أنهم محاسبون، وأن مسئوليتهم الحقيقية إنما هي ضمائرهم لا أمام أفراد زائلين؟
فلماذا تسارعوا إلى الزائل وأغفلوا الباقي؟ ... ولماذا وتروا بالذل أقواس الظهور ولم يوتروا بالحق أقواس الشرف؟
إن جهلوا هم فمن يعرف؟ ... وإن زلوا فمن الذي تستقيم على العفة خطاه؟ ... وإن ذلوا فمن الذي يعتز ويمتلئ ثقة بنفسه، ما دام القارئ - وهو الناس - قد أولاهم ثقته ...؟
إن جهل الكاتب أفدح من جهل الجاهل، وزلة الأديب أبغض عند الضمير وعند الناس من زلة المتسلق من غير الأدباء ... وذل الأديب هوان عند الناس لكل من أولاه في يوم بعض إجلال.
ترى هل يعي الكاتب هذا، أم يظنون بالناس الغفلة ويهتبلون منهم السذاجة؟ وهموا، فإن للقراء عينا وفراسة وفهما، ولا يفجع القارئ في شيء قدر فجيعته في أديب احترمه يوما وأجله ووثق به.
فليتق الكاتب قارئه إذا لم يكن يريد أن يتقي ضمير القلم وشرف الكاتب.
ثروت أباظة
إنها باقية مع الخلود
الأهرام - العدد 32750
10 أغسطس 1976
ركبت الأجيال سبعة آلاف عام، وأشعت حضارتها إلى التاريخ، ومشت بالبشرية خطواتها الأولى، كانت البشرية تتعثر في بقايا العصر الحجري، توشك أن تجمدها آثار العصر الجليدي، وشقت مصر بهذه البشرية سدود الجهل، ونفذت بالعالم إلى مشارف النور، وأخذت بيده إلى أبواب العلم، فعرف منها الفلك والطب والفلسفة والتوحيد والموسيقى والأدب، لكل هذا نحن المنشئون والبانون ... حول نيلنا تخلجت أقدام الحضارة، ثم اشتدت ثم انتشرت إلى العالم أجمع، وأتاحت لشاعرنا شوقي أن يقول:
لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت
في ملكها الضخم عرشا مثل وادينا
وهذه الأرض من سهل ومن جبل
قبل القياصر دناها فراعينا
ولم يضع حجرا بان على حجر
في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام حائط نهضت به
يد الدهر لا بنيان فانينا
فحين زلزل التاريخ زلزالا، وحين تسنمت حضارات أخرى قمم العالم ... بقي المصري ابن العروق الضاربة في أغوار الزمن ثابتا كالطود يمر به الظلم والجور والإفلاس فيخرج آهته في ضحكة ، ويضرب بأقدامه في أرض أجداده، ويبقى وينزل الظلم عن عنفوانه وينكسر الجور وتنقضي أزمان وتأتي أزمان ... وتبقى مصر.
واليوم نشكو من النور والماء ... ومن التليفون ومن المواصلات ... ومن الغلاء والفقر ... ويقولون لا تذكروا التاريخ وإنما انظروا إلى الحاضر ... هراء ... إننا بهذا التاريخ نعيش هذا الحاضر.
لو أن آلات النور ومواسير الماء هذه في بلد آخر ما عملت على الإطلاق، ولو أن شبكات التليفون ووسائل المواصلات هذه في دولة أخرى لصمتت التليفونات جميعا كأنها أحجار، ولألقي بهذه السيارات وزميلاتها من وسائل النقل إلى أقرب بحر تصل إليه أو تحمل إليه، ولو أن هذا الغلاء مع هذا الفقر في بلد آخر لانتحر الناس، لقد كنت في إيطاليا واشتريت قطعة الجاتوه بخمسة وسبعين قرشا، وقطعة الشوكولاتة التي تشتري مثلها هنا بعشرة قروش بخمسة وسبعين قرشا أيضا، ولكنهم هناك يصيبون من الدخل ما يمكنهم من شراء مثل هذه الأشياء بهذه الأثمان الباهظة، ومع ذلك فهم في أزمة طاحنة، وتقدم لهم أمريكا بلايين من الدولارات.
إن القائمين عندنا على النور والماء وعلى التليفونات والمواصلات عباقرة، يندر أن يكون لهم مثيل في العالم ... فما زلنا نغمز زرا فيضيء نورا، وما زلنا بعد الجهد نسمع صوتا في التليفون على الطرف الآخر ... ولكن هذه الآلات التي يمكنون بها لنا أن نرى في الليل ونخاطب الآخرين في التليفون، إنما هي آلات عفا عليها الزمان وأصبحت جزءا من التاريخ، إن أكرمها مكرم وشاء أن يكون ذا وفاء، فعليه أن يضعها في متحف من متاحف القرن الماضي.
إن هؤلاء العباقرة الذين يشرفون في مصر على الماء والنور والكهرباء يستحقون كل إجلال وتكريم، لقد انتهبت حربنا من أجل العرب أموالنا، قدمناها غارقة في دمائنا وفي آمال شبابنا، وفي ترمل الزوجات في نضرة شبابهن، وفي يتم الأطفال في بواكير أعمارهم ... وقدمنا معها هناءنا في بلادنا، لا تستقيم لنا وسائل الحياة الضرورية من ماء وكهرباء وتليفون ومواصلات، وبهذا الذي قدمنا ارتفع سعر البترول أضعافا مضاعفة، وغرق أبناء الرمال في الماس، وأبناء البترول اليوم في نعيم لم تسمع به البشرية، وما كانت تشتهي أن تسمع ... ومع كل هذا فمصر باقية، ولتصمت التليفونات فلا تتكلم، وليظلم النور فلا يضيء، وما بهم ونحن نضيء للعرب أجمعين عقولهم وطريقهم، ولينقطع ماء البيوت ... إننا نستطيع أن نعيش بلا تليفون وبنور قلوبنا وبماء نيلنا ... ونبقى.
إن مصر الحديثة التي أشعت النور إلى جميع البلاد العربية والتي ما زالت حتى اليوم وهي في محنتها تعلم أبناء العرب في كل أنحاء العالم العربي ستبقى، وستثبت ركائزها في أركان التاريخ، وسواء عندنا شعر العالم العربي بواجبه نحونا أو لم يشعر، ستبقى مع الخلود ستبقى.
خطابان مع البريد
خطابان حملهما إلي البريد: أما أحدهما فقد أورثني الأسى والأسف والشعور بالذنب، فقد أحسست أننا نحن الذين نكتب بقسوة عن جهل الشباب وعدم معرفتهم بلغتهم، قوم نبتسر الأحكام ونتعجل الاتهام دون تقص للأسباب التي تعجز الشباب، وتقف عقبة دون بلوغهم إلى مناهل أدبهم ومصادره وموارده!
الخطاب من طالب في إسنا، ويمتاز الخطاب بأسلوب سلس، قريب المأخذ، يدل على أن صاحبه يستطيع أن يكتب ما بنفسه، وفي الخطاب بطبيعة الحال نصيب لا يستهان به من الأخطاء النحوية، بل والإملائية أيضا، ولكن الخطاب يحمل الاعتذار عن الأخطاء، وهو اعتذار قاطع لا تملك أمامه حيلة ولا تطيق له دفعا.
إنه يقول إنه مبعد تماما عن الوسائل التي يستطيع بها أن يحصل على كتاب، فالكتب مرتفعة الثمن ولا يستطيع أن يشتريها، ولا مكتبات هناك، لا في المدرسة ولا في البلد جميعا، ويتردد الطالب كثيرا قبل أن يقول إنه لم يقرأ في حياته إلا كتابا واحدا وجده عند صديق له، وحين أراد أن يعيد قراءته وجد زميله قد أعاره لآخر وتاه الكتاب في خضم الحاجة إلى الثقافة التي تغمر الشباب هناك.
أي شيطان جاهل قال للمشرفين على الشباب عندنا أنهم مسئولون عن الكرة والألعاب، وليسوا مسئولين عن الكتاب والثقافة؟ وأي شيطان جاهل قال لنظار المدارس أن عمل المدارس هو تعليم الطلبة المناهج فقط، إن الدولة لا تشتري من الكتب التي تصدر شيئا ... وإنما يفرض على الناشر أن يقدم خمس نسخ للمكتبة العامة ... فلماذا لا يفرض على المدارس أن تشتري نسختين من الكتب الهامة التي تصدر؟ وكيف يجوز أن نترك الشباب يضرب في هذا الليل من الحاجة إلى الكتب وعدم القدرة على شرائها؟
أما الخطاب الآخر فهو من طالب في الطب، وقد أرسله إلي كمشرف على الصفحة الأدبية، الخطاب نقيض للخطاب الأول ... فلقد فوجئت بنثر رفيع يقدم به لقصيدة رائعة من الشعر الأصيل ... وصاحب الخطاب اسمه ياسر الوزير ... بطب عين شمس ... لعل الأستاذ ياسر أو الدكتور ياسر قادر على أن يشتري الكتب، أو لعل وجوده بالقاهرة قد يسر له الحصول على ما يشتهي من الثقافة، أو لعل - وهذا هو الأقرب - إصراره على أن يتثقف هو الذي جعله يبلغ من الثقافة هذا القدر الذي أهنئه عليه، وإني أعده أن أنشر القصيدة، وإن كنت حرصت أن أشير إليها وإليه الآن، فما ذلك إلا عن حرص مني ألا يظن أن كتابه قد لقي ما لا يستحق من التقدير.
وخطاب ثالث إلى الأستاذ توفيق الحكيم
بكرت في الصباح إلى بترو، حيث أجتمع بأستاذنا توفيق الحكيم، والأستاذ الجليل إبراهيم فرج، والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، ورئيس النيابة سعيد العشماوي، وأستاذنا نجيب محفوظ حين يكون بالإسكندرية ...
ولكنني اليوم وجدت أستاذنا توفيق الحكيم وحده، وقبل أن أقول صباح الخير بادرني هو بقوله: الناس أصابها الجنون ولا شك (ومصمص بشفتيه على عادته).
قلت جازعا: خيرا ... ماذا حصل؟ - خذ يا سيدي ...
وأعطاني خطابا وقرأت: «باسم جمعية ... الخيرية بالشرقية أرسل هذه الرسالة إلى سيادتكم، ولنا أمل كبير في سيادتكم في التكرم بمد يد المساعدة إلى الجمعية والمساهمة بتبرع مالي من سيادتكم ...»
ولم أعد في حاجة طبعا أن أكمل الرسالة ... فكل ما سيأتي بعد هذا أقل جنونا بلا شك من هذا الجنون ... وأي جنون أكثر من طلب تبرع مالي من توفيق الحكيم.
وخجلت لأن المرسل من الشرقية، فقد أعاد هذا إلى ذهني ما نرمى به نحن أهل الشرقية من سذاجة ... وأي سذاجة أبعد من طلب تبرع مالي من توفيق الحكيم.
رددت الخطاب إليه واعتذرت عن ابن إقليمي، ولكن أي اعتذار يصلح لهذا الجرم الفادح، لقد رأى الخطاب كل أعضاء الندوة من أصلاء وزائرين وبقيت طوال الجلسة شاعرا بالحرج والأسف والأسى التي ألقاني إليها شرقاوي طيب يطلب تبرعا ماليا من توفيق الحكيم، وحسبي الله ونعم الوكيل ...
شعر المناسبات
الأهرام - العدد 32753
13 أغسطس 1976
جرى بعض النقاد أن يصدروا أحكاما جامعة مانعة بالرفض دون أن يضعوا لرفضهم هذا حيثيات تجعله مقبولا أو سائغا، ولما كان هواة الأدب ليسوا قضاة، فإنهم في أحيان كثيرة يقبلون هذه الأحكام قضية مسلمة لا يناقشونها بمنطق أو ينعمون فيها النظر.
من هذه الأحكام المتعجلة، وجدت صدى بعيدا لدى المتأدبين لرفض شعر المناسبات، ومعنى هذا الرفض أن تسقط الغالبية العظمى من شعر العرب.
المتنبي أقام مجده الأدبي جميعا على شعر المناسبات من مديح وهجاء.
وفي أبيات المديح هذه تجد شعرا نستطيع أن ننسبه في التحضر والذكاء إلى أذكى العصور وأكثرها تحضرا.
ولو كونكم في الناس كانوا
هراء كالكلام بلا معاني
كيف استطاع أن يقول إن الناس يصبحون هراء، وكيف تأتى له أن يشبه الناس بمعنى مجرد وفي وقت كان التشبيه فيه بالأسد والرئبال والحيدر إلى آخر مسميات الأسد.
وحين يمدح شعب بوان ويجري هذا الحديث الخالد بينه وبين حصانه:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
كيف استطاع المتنبي منذ ألف عام ونيف أن يذم الحرب وينسبها إلى المعاصي ومفارقة الجنان، ويصل بينها وبين الخطأ الأول في البشرية الذي أهداه إلينا جد الإنسانية فيما أهداه إلينا من متاعب وشرور، فمنذ البدء أعطى الله الحرية لآدم، فاختار وباشر ما اختار، لقد سن المعاصي وعلمنا مفارقة الجنان، وما زلنا على تعاليمه البشعة حتى الآن، وحسبك نظرة إلى لبنان، لقد تطور الأمر فيها، فبعد أن كان مفارقة للجنة أصبح اليوم تدميرا للجنة، ورحم الله المتنبي.
وحين يمدح البحتري المتوكل فيهديه فرسا يموت في اليوم التالي فيكتب إليه:
أهديتني أعجوبة
هي في العجائب نادرة
فرس كأن هبوبه
وشك الرياح الطائرة
في ليلة قطع المسا
فة من هنا للآخرة
من أين كنا نستطيع أن نحصل على مثل هذه اللفتة الرائعة دون شعر المناسبات.
هذا نثار من الأبيات مما تعيه الذاكرة، أحببت به أن أنفي هذه التهمة التي حاول النقاد أن يرموا بها شعر المناسبات من أنه شعر تافه لا يستحق التقدير أو الإجلال، ولو حاولت أن أرجع إلى الشعر العربي لنقلت منه آلاف الأبيات الرائعة التي قيلت في المناسبات.
ورأيي أن على الناقد أن يطرح عن نفسه الأحكام المسبقة وينظر إلى الشعر في ذاته دون البحث في الأسباب التي دعت إلى قوله، فأول شرط في الناقد أن يتحرر من كل الأحكام المسبقة حتى يزن الكلام بموازينه العادلة.
ثروت أباظة
اشتراكية التمليك لا التجريد
الأهرام - العدد 32757
17 أغسطس 1976
لقد اتضح في الخطاب التاريخي الذي قال فيه الرئيس السادات إن مصر ترفع لواء «اشتراكية التمليك لا التجريد» ... إن الرئيس يفهم - من واقع تراث أمته - معنى الاشتراكية فهما عميقا يرتكز على عدالة التوزيع والتقريب بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، الأمر الذي كرهه الإسلام فحض في آيات كثيرة له على إعطاء الفقراء إلى جانب ما فرضه من الزكاة، حتى لقد جعل منها ركنا من أركان الإسلام لا يتم الإسلام إلا به.
والزكاة بطبيعتها لا تكون إلا عن مال يغل، والحض على إعطاء الفقراء هو في ذاته يحمل معنى وجود الأغنياء، فالفقراء لا يعطون الفقراء، ولهذا أضحك ضحكا مريرا من الذين يرون الإسلام داعيا إلى الاستيلاء على الأموال، مرتئين في الآيات التي تقول بأن الله مالك كل شيء، وأنه يرث الأرض ومن عليها، وفي الحديث الذي ذكر أن الماء والكلأ ملك للجميع حجة يشهرونها أن المال جميعا مال الله، وهم يعلمون أن المال مال الله حين يرث الله الأرض ومن عليها، أما في هذه الحياة الدنيا فالناس أمناء على هذا المال يمتحنهم الله به ويحاسبهم على معاملتهم لهذا المال حين يحاسب الله الناس على ما قدمت أيديهم .
ولو كانت كلمة الماء والكلأ تعني أن الملكية للجميع، وأن كل النبات والماء ملك مشاع ما اشترى عثمان بئرا ووهبها للمسلمين، إنما الماء والكلأ في الصحراء هما في الحقيقة الثروات الطبيعية التي كان العرب يعرفونها ولا يعرفون غيرها كالبترول الآن، والكلأ بطبيعته هو الذي ينبت في الأرض دون أن يزرعه أحد، وكذلك كان الماء عند العرب يفيض من الآبار دون مجهود الناس.
أما لو كان المراد أن ما تنبته الأرض وما تفيض به من ماء مهما يكن الأمر فيه، وسواء كان الماء والزرع في أرض مملوكة لبعض الناس أو لم تكن ... لو كان المراد أن يصبح هذا قاعدة تستولي بها الدولة على الأرض الزراعية ووسائل الري الحديثة وغير الحديثة لانتفت الملكية الزراعية جميعا، وحينئذ تنتفي العدالة؛ لأن الدولة بهذا المفهوم العجيب ستستولي على الأرض الزراعية وتترك العقارات الأخرى من أبنية ومصانع، وهي أيضا ستترك التجارة، لأنه لم يرد عليها نص.
ولو لم يكن الإسلام حريصا غاية الحرص على الملكية الخاصة وطريقة انتقالها لما ذكر المواريث بهذا التفصيل الذي أوردها به في سورة النساء، وهو تفصيل لم نجده حتى في الصلاة، فالقرآن الكريم لم يذكر عدد ركعات الصلوات ونحن نصليها على أنها سنة مؤكدة.
وبعد، فالدين الحنيف قوي وعظيم ويستطيع أن يتحمل كل هؤلاء الذين يتواثبون حوله ويحاولون أن يحرفوا الكلام فيه عن مواضعه، فمهما تذهب بهم الضلالة ويذهب بهم التضليل، سيظل الدين القيم شامخا ثابتا نافذا إلى الأجيال، وحسبه قول العزيز القدير:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر: 9] صدق الله العظيم.
إلى العقلاء نسوق الحديث
وقع المال في يده فجن به الجنون، بدلا من أن ينفقه على تعليم دولته وتحضيرها راح يقذف بالأموال على قلب أنظمة الحكم وقتل الأبرياء، صارخا في نفس الوقت إنه مؤمن بالدين الإسلامي الذي يقضي بأن من يقتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، ولا عجب، فهكذا يكون مخلوط العقل، ومع المجانين يتعذر الكلام العاقل، فنحن لا نستطيع أن نقول لهذا القذافي الأحمق إن مصر وأبناءها لن تهزهم ألعاب الصغار التي يقوم بها هو وأعوانه، ولا نستطيع أن نقول له إن كنت مغيظا من مصر والقائمين على أمرها، فما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء يركبون قطارا إلى الصعيد مسلمين أنفسهم إلى يد الله فتتولاهم يدك أنت ويد أعوانك بالقتل والفتك والإصابة؟ ولا نستطيع أن نسأله أي فائدة يمكن أن تعود عليك من إصابة الأبرياء وقتل من لا شأن لك به، ومن لم يبد رأيا فيك، ولا نستطيع أن نقول له إلا أن مصر رميت بأبشع منك إجراما وشهدت من المصائب عبر تاريخها الطويل ما جعلها تثبت عند الشدة وتعلو على المحنة وترتفع على الضائقة.
فما ذلت ولن تذل ... وما هانت ولن تهون، وما مثلك من يجعلها تحيد عن أخلاق لها قديمة قدم الدهر، عالية حتى عنان السماء، أصيلة أصالة الحضارة في هذا العالم.
ولعل متعجبا يسأل: فيم حديثك إلى مجنون وما منطقك مع مخبول، ولكن هذا المجنون المخبول وجد أحيانا عقلاء يدافعون عنه ويركبون حصانه الأحمق، فلعلنا إلى هؤلاء المتعاقلين نسوق الحديث.
فإن كانت في نفوسهم المنهارة بقية من حب الكنانة أو أثارة من وطنية مصرية، فليكتبوا رأيهم وليظهروا الناس على ما يرون في قاتل يتخفى في قطار لركاب أبرياء، فيصيب المقتل من بعض، ويصيب بغير قتل بعضا آخرين.
وما رأيه في هذا القاتل نفسه فيما يقصد إلى مجمع حكومي يسعى إليه الناس يحملون على أكتافهم آلام حياتهم، وقلق ذي الحاجة، وترقب المتطلع إلى مطلب، بدلا من أن تطالعه حاجته وقد قضيت، أو رغبته وقد تحققت، أو آلامه وقد زالت، يطالعه الموت الآخر بيد القذافي، مستخدما فيه أحدث آلات الدمار اشتراها بأموال دولة عربية، أشد ما تكون لها حاجة إلى هذا المال لتشييد ما هدمه منها الاستعمار، وتعوض ما فوته عليها التخلف، وتسير طريقا طويلا إلى الحضارة بعد أن انقطعت عنها عهدا عهيدا وسنين عددا، ألا كلمة أيها المتعاقلون الذين حملتم لواء القذافي فإليكم وحدكم نسوق الحديث ...
خطاب هام
جاءني هذا الخطاب في البريد وإني سأثبته، ولم أعلق عليه، فالكاتب يعرف ما يقول، وأنا لا تعليق لي عليه إلا أنني أرجو أن يقع حديثه حيث يجب أن يقع من المسئولين. «بحكم علاقة الدرس والتدريس التي تربطني بالسادة أئمة المساجد، سعدت كل السعادة بكلمتكم بعنوان «القرية وخطبة الجمعة» في باب «من مفكرة ...»»
ذلك أنني كنت أشعر بشعور الأسى الذي يملأ حلوق السادة أئمة المساجد، وأنا أتولى تدريس «علم اجتماع الدعوة الدينية» لهم، وأطلب من كل منهم الاطلاع، ليس على المؤلفات الدينية فحسب، وإنما على المؤلفات الاجتماعية والنفسية والسياسية وغيرها؛ ليكون من الناحية الفكرية على مستوى الأحداث المعاصرة والماضية، وليكون في موقف القادر على التنبؤ بالغد في كل ما يتعلق بمكونات المجتمع وأحواله، وحتى تكون خطبة ودرس مشبعة للمصلين والسامعين في مسجده، وفي أي مكان آخر غير أن الرد الذي كنت أسمعه منهم هو: من أين؟ والمرتبات محدودة، وميزانية المساجد ليس فيها بند لتزويد مكتبات المساجد بمثل تلك المؤلفات، ولم أكن - برغم قدرتي - أستطيع الرد ... ولكن وقد فجرتم سيادتكم تلك القضية، لا أجد مناصا من الرد وأمري إلى الله في النتائج الوخيمة التي ستعود علي، وهذا الرد هو أن لدينا جهازا يدعى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وهذا الجهاز يتولى طبع مؤلفات «بعضهم» وبجوارها يتولى إعادة طبع بعض المؤلفات القيمة، مثل التفسير والتشريع والسيرة ... إلخ، وهذه المؤلفات تصرف بالثمن لمن هم أحق بها وأكثر استثمارا لها واستفادة بها، مثل أساتذة الجامعات وأئمة المساجد والباحثين، وتعطى بالمجان للطلاب المبعوثين من غير المصريين في الأزهر ممن لا يتقنون اللغة العربية، وبالرغم من أن ثمن الكتاب الواحد يزيد في بعض الأحيان على خمسة جنيهات، فإن هؤلاء المبعوثين يبيعون هذه المؤلفات القيمة التي تصرف لهم بالمجان، يبيعونها على سور الأزبكية بقروش لكي نشتريها نحن بنصف أو بثلاثة أرباع ثمنها باعتبارها قديمة، وبالرغم من أنها جديدة، وبجوار المبعوثين هناك إحدى الدوائر الانتخابية في مصر، تلك التي تشحن إليها - على حساب الجهاز - أطنان من هذه المؤلفات ومن المصاحف لكي توزع بالمجان على أبناء تلك الدائرة و90٪ منهم من الأميين، ولكنها الدعاية الانتخابية لأحد كبار المسئولين في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية على حساب الدولة.
ترى فيم كان إنشاء هذا الجهاز؟ وما هي وظيفته بجوار مجمع البحوث الإسلامية الذي يتألف من خيرة علماء الأزهر الشريف؟ ولماذا هو مثل نبات القرع الذي «يمد لبره»؟ وإلى متى يترك السادة أئمة المساجد دون أن يزودوا بالمؤلفات الدينية التي تساعدهم على أداء واجبات وظائفهم على أكمل وجه؟ ولماذا لا تتولى وزارة الأوقاف تعيين أئمة جدد من خريجي كلية أصول الدين لسائر المساجد التابعة لها، وكذلك المساجد الأهلية بدلا من تركها للأئمة المتطوعين، وكلهم - في الغالب - مثل الإمام الذي أشرت إليه في كلمتكم. وأنا هنا لا أعيب على مثل هذا الإمام، فهو أفضل من غيره، ففي قريتنا كثيرون من خريجي الأزهر، ومع ذلك يتركون المنبر يوم الجمعة لغير المتخرجين في الجامعة الأزهرية أو حتى في المعاهد الثانوية أو الإعدادية الأزهرية.
إنني أقترح أن يتولى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية تزويد كل مسجد في مصر - وليس في الفلبين - بمكتبة كاملة من مطبوعات هذا المجلس أو الاكتفاء بمجمع البحوث الإسلامية وتحويل ميزانية هذا الجهاز إليه، وإراحتنا من المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الذي لا يستفيد منه سوى بائعي كتب سور الأزبكية.
دكتور زيدان عبد الباقي - كلية البنات الإسلامية - جامعة الأزهر.
اللغة والثقافة
الأهرام - العدد 32760
20 أغسطس 1976
كنت حين أراجع بعض الدروس في اللغة العربية أو الدين مع ابني وابنتي، أجد لسانيهما يعوج عن اللغة الصحيحة عوجا لا قبل لأحد به، وكنت أصحح ما استطعت، ولكن كانت حجتهما قوية فهما دائما يقولان إننا لن نمتحن امتحانا شفويا، وإنما سنثبت هذا الكلام على ورقة الإجابة.
وكانا بطبيعة الحال يلحنان حتى في الآيات القرآنية، ويسوقان الحجة نفسها إذا قومت الخطأ، وكنت أقول لهما: إن اللحن في القرآن ليس مجرد خطأ لغوي، وإنما هو خطأ ديني أيضا، فكانا يخافان بعض الشيء، ولكنهما يعودان إلى اللحن أيضا.
وهكذا تبين لي مدى أهمية الامتحانات الشفوية التي لم نكن نعنى بها حين كنا تلامذة في المدارس أو بالجامعة ... فقد اتضح لي أن هذه الامتحانات تقوم اللسان العربي والأذن العربية أيضا.
واستقامة اللغة العربية ومعرفة النطق الصحيح، فيها يقوم اللسان في اللغات جميعا، لأنه يكون عند النشء الحاسة اللغوية، وإذا تكونت هذه الحاسة أفادت في اللغات جميعا لا اللغة العربية وحدها.
ولست أدري الحكمة التي دعت إلى إلغاء الامتحانات الشفوية من المدارس، ولو أن هذه الامتحانات في ذاتها لن تؤتي ثمارها إذا كان الممتحنون لا يجيدون اللغة العربية إجادة تامة، وكم يتردد القلم في يدي وأنا أفكر في القول: إن خريجي قسم اللغة العربية في كلية الآداب ليسوا جميعا ممن يتقنون لغتهم العربية.
وأعتقد أنه لا سبيل إلى إصلاح هذا إلا بأن يفرض على الطلبة فرضا منذ بواكير حياتهم الدراسية أن يحفظوا جزءا من القرآن يمتحنون فيه شفويا، ويمكن أن يفرض على أبنائنا من الطلبة المسيحيين أن يحفظوا نصيبا من الشعر العربي، بحيث لا يسمح للطلبة أن ينتسبوا إلى مدرسة إعدادية حكومية أو خاصة إلا إذا أدوا هذا الامتحان.
وإن نظرة واحدة إلى لغة آبائنا تؤكد مقدار الأثر العظيم الذي أفادوه من إجادة اللغة العربية، وقد استطاع هذ الأثر أن يجعلهم أقوياء أيضا في اللغات الأجنبية التي كانوا يدرسون بها معظم المواد في المدارس الحكومية، فرنسية كانت هذه اللغة أو إنجليزية.
وليست اللغة أداة للأدب وحده، بل إنها الخطوة الأولى التي لا بد منها لكي يتقن الطالب أي ثقافة يتجه إليها، فليس من الحتم أن يصبح خريجو الجامعات كلهم أدباء، ولكن من المحتم الذي لا محيد عنه أن يكونوا جميعا مثقفين.
ثروت أباظة
شيئا لله يا رئيسة الديوان!
الأهرام - العدد 32764
24 أغسطس 1976
فكري ... شاب موظف بإحدى الشركات، لا تلقاه إلا وابتسامة مشرقة تسبقه إليك، وترحيب يبين منه الحب والشوق للناس جميعا.
وفكري يحب أن يؤدي لك أي خدمة تقصده فيها، وهو يسعد بأداء هذه الخدمات سعادة لا توصف ولا يقبل في سبيل خدماته أي مقابل، إلا أن فكري يحب أن يتحدث فيروي لك أنباءه جميعا وأنباء الأصدقاء المشتركين الذين يسعى دائما إلى معرفة أخبارهم، فهو حريص على أن يطمئن على أصدقائه ما أمكنته الفرصة حرصا لا يبتعثه إلا الحب والوفاء والأخوة الصادقة.
ومتعة فكري في حياته هي صلته هذه بأصدقائه وحديثه إليهم، وتحس وهو يحادثك عنهم أنه يمارس هواية يعشقها بحبه كله وروحه كلها، تحس في وجهه وفي عينيه متعة الفنان يمارس فنه، وفنه هو حب الأصدقاء والحديث إلى الأصدقاء وعن الأصدقاء.
لقيت فكري يوما، فإذا عينان منطفئتان، ووجه قاتم لا بشر فيه، وحين تصافحنا وسألته كيف أنت؟ أجابتني منه دمعتان تصرخان بالألم الحبيس يعلو ضجيجه في صمت.
ماذا بك ... فكري ماذا بك؟ وأشار إلى لسانه وحركه في فمه حركة لا يستقيم معها لسان، ولا تصدر منه كلمة ... لماذا؟ أشار إلى السماء وضرب كفا بكف، ولم أجد شيئا أقوله فالحديث الصامت الذي ألقاه لا يسمح لي أن أجد شيئا أقوله.
وفي يوم وجدت فكري يدلف إلي في مكتبي بنادي القصة، وقد عاد إليه إشراقه وابتسامته، ولا غرو؛ فقد عاد إليه لسانه وروى وأفاض.
طلع عليه الصباح فإذا لسانه لا ينطق، لم يكن في ليلته السابقة تعرض لكدر أو إثارة، وإنما كانت ليلة مثل كل الليالي، صلى العشاء وقرأ في القرآن ونام، ثم أصبح وقد أمسك لسانه عن الحديث، مر بالأطباء جميعا من أعصاب إلى باطنة إلى شرايين ... لا شيء به ... أعصاب أضربت عن العمل دون طلبات ... وتوالت الأدوية، ومرت الأيام بلا فائدة ثم هو يقول إنه نام في ليلة وقد عصره الألم عصرا بعد أن صلى العشاء، وأفاض في الدعاء والرجاء، وتجلت له السيدة زينب في الحلم تدعوه إليها، فقام قبل الفجر وقصد مقام السيدة أم هاشم، وارتمى على عتبتها ونذر لله النذور، وقبل أن يكمل صلاة الفجر كان يقرأ سورة الفتح بصوت مرتفع، وعاد لسانه إلى انطلاق، انحبست الدموع من عينيه واتجه إلى مقام السيدة يقدم الشكر ويفي بالنذر.
ترى كم من المثقفين سيقرءون هذا الكلام ويسخرون، هؤلاء لم يحسنوا الثقافة، فعلوم الروحانيات معترف بها في أعظم الدول تقدما.
وقد شهدت في التليفزيون الأمريكي شخصا يشفي الناس بقوة دينية خارقة، وحسبت يومذاك أنه برنامج إعلاني، إلا أنني رأيته منذ قريب يعرض بالقاهرة، والبرامج الإعلانية لا تباع.
وقد يقول قائل إنها حالة نفسية وثقة من المريض أنه سيشفى، وما البأس؟ وفيما تضار الثقافة إذا اطمأن إنسان إلى معنى كريم هو وفاء لأهل بيت رسول الله وللعارفين بالله المتقربين إليه.
ولا شك أن المغالاة في هذا سخف، بل إن المتصوفة يرفضون تصوف المجاذيب لأن المجذوب لا يدرك، أما أن يؤمن إنسان بأن إنسانا آخر من الأتقياء يستحق أن يزار قبره وتقرأ له الفاتحة وتوزع الصدقات على الفقراء اللائذين بساحته، فإنه لا يمس الثقافة في شيء، فإن قائلا لم يقل إن هذا يغني عن العلم، بل إن صديقنا فكري مع إيمانه بمقام الأولياء لم يقصد إليهم بادئ ذي بدء، وإنما قصد إلى الأطباء ولكن السيدة زينب - رضي الله عنها - هي التي شفته وليحلل مدعي الثقافة هذا الشفاء بما يحلو له من التحليل.
كثيرا ما يكون إلى جانبي أستاذنا توفيق الحكيم - وهو من أعظم المثقفين في العصر الحاضر - ونمر على مقام سيدي بشر بالإسكندرية، فما ينسى الحكيم مرة أن يقرأ له الفاتحة، بل لقد نذر في مرة منذ سنوات أن يذبح له خروفا إذا شفي مريض عزيز من أهل بيته، وشفي المريض، وما زال الحكيم يذبح خروفا في كل عام ويوزعه على فقراء سيدي بشر، وقد مرت السنون الطوال على هذا النذر، وثمن الخروف في هذه السنوات وصل إلى مبلغ لا شك أن أستاذنا الحكيم يتأثر بدفعه تأثرا شديدا، ولكنه مع ذلك لا يتردد.
وإخواننا المسيحيون في مصر لهم أيضا من يتبركون به، مثل ماري جرجس، وسانت تريز، ودميانه، بل ما أظن الشموع في الكنائس العالمية إلا صورة من هذا التقرب.
ويبدو لي أن هذا الذي نشهده في مصر هو في أصله عادة مصرية قديمة لم تبارح المصريين من قبل ظهور الأديان، وأيا ما كان الأمر ، فإن كثيرا من الناس تجد في نفوسها طمأنينة وانشراحا في رحاب بيوت الله، وإلى جوار قوم أقل ما يقال فيهم أنهم كانوا في حياتهم يحسنون أن يعبدوا الله - جل جلاله - ولو لم يكرمهم الناس إلا لهذا لكان هذا حسبهم وحسب الناس.
متسولون على أرصفة الشهرة
بعض الشباب وجدوا في أيديهم أقلاما، ووجدوا أنفسهم في مجلات قبل أن ينضجهم الزمن وتتقدم بهم السن بعض الشيء، ونظروا إلى ما قدموه في ميدان الأدب فوجدوه هزيلا لا يقيم أديبا ولا شبهة أديب، ونظروا إلى داخل أنفسهم فلم يجدوا شيئا، فالماء الشحيح الذي قدموه في نهر الأدب هو كل ما كانوا يملكون، ولا يملكون غيره ليقدموه، وقد كانوا في بداية حياتهم يتوقون إلى الشهرة، وقد ظنوا أنهم بلغوها بكتاب يصدرونه أو كتابين، ولكن الشهرة أخلفت ظنهم وظلوا في بؤرة الجهل، الجهل منهم والجهل بهم، ونزلت عليهم أستار الضياع فلا هم كسبوا صنعة، ولا هم أصبحوا أدباء، ولا هم أصابوا شهرة - أي شهرة - مساكين هؤلاء الناس، لقد أقاموا دكاكينهم على أرصفة الشهرة، يشتمون كل شهير، ويحطمون كل التقاليد، ويحرقون كل كريم في حياتنا الأدبية، ويلهم لو أبصروا لوجدوا أنهم يشتمون أنفسهم لا المشاهير، ويحطمون كيانهم هم لا التقاليد، ويحرقون فلا يحرقون إلا البقية الباقية من إنسانيتهم!
مساكين هؤلاء الناس؛ سيظلون ينبحون على أمل أن يصبحوا كلابا شهيرة ما داموا قد فشلوا أن يصبحوا آدميين على شيء من المكانة، ومع ذلك، فالكلاب النابحة لا تصيب شهرة لأن كل الكلاب تستطيع أن تنبح.
خطاب من الدكتور وحيد رأفت
كتب الأستاذ الكبير الدكتور وحيد رأفت هذا الخطاب إلي، ويشرفني أن أضع الخطاب كما جاءني؛ فكاتبه أكبر من التعريف، وما يكتبه أكبر من التلخيص ومن التعليق أيضا.
3 أغسطس 1976
بعد التحية «استوقفت نظرتي في الأهرام، الثالث من أغسطس، كلمتكم المعادة إلى السيد وزير الحربية حول تجنيد الشباب بعد سن الثلاثين، وإشارتكم فيها إلى الرسائل التي انهالت على الأهرام من أسر مصرية عديدة تطالب بإعادة النظر في هذا الأمر، ولعلكم تذكرون أن قانون الخدمة العسكرية الإلزامية كان ينص في الأصل على انتهاء هذا الإلزام ببلوغ سن الثلاثين، ثم في تمديدها إلى الخامسة والثلاثين.
وهو تعديل غير حكيم وغير ضروري، أما عدم حكمته فلأن الشاب بعد الثلاثين وقد تقدمت به السن انشغل بمشاكل الحياة، فلن يكون أهلا لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية على وجه مرض كابن الثامنة عشر أو الخامسة والعشرين مثلا، وأما عدم ضرورة التعديل المذكور فلأن التجنيد ومعسكرات التدريب غير جادة، وترتب على ذلك أن جزءا كبيرا من هؤلاء المجندين إلزاميا أصبح لا يؤدي الخدمة إلا صوريا أو بصورة ناقصة لا تحقق الغرض المنشود من فرضها أصلا! كما توافقني على أن رفع سن التجنيد الإلزامي إلى الخامسة والثلاثين أدى إلى أن نفرا ليس بالقليل من أبنائنا ممن أتيحت لهم فرص السفر إلى الخارج قبل أداء الخدمة الإلزامية أصبحوا يتحرجون من العودة إلى الوطن قبل بلوغ الخامسة والثلاثين، حتى لا تلاحقهم الإدارات المعنية بتنظيم أعمال التجنيد، ومن بين هؤلاء المواطنين من أسعفه الحظ، أو ساعدته دراساته ومواهبه في العثور على عمل مجز يؤمن مستقبله، ومن بينهم من تزوج وأنجب، ولا يصح في الأذهان أن يرضى مثل هؤلاء عن طيب خاطر بالتضحية بوظائفهم وأعمالهم ومستقبلهم والانفصال عن زوجاتهم وأولادهم لغرض أداء الخدمة العسكرية والإلزامية في تلك السن، وربما لأجل غير مسمى قد يمتد لبضع سنين كما كان الحال فعلا في السنوات الأخيرة.
لذلك، فقد أحسنتم صنعا بتنبيه السيد وزير الحربية ومعاونيه إلى هذا الأمر الهام.»
انتهى ...
خطاب إلى وزير التعليم
الأهرام - العدد 32767
الجمعة 27 أغسطس 1976
كم كنت أشفق عليك وأنت تدير معركة الامتحانات، شاعرا بما أعرفه فيك من يقظة الضمير أنك تعتبر نفسك مسئولا عن كل خطأ قد يرتكب أثناء حلقات الامتحان جميعا، بادئة بالأسئلة، وهي سر لا بد له أن يستخفي حتى تتماثل الفرص منتهية بقبول الناجحين بالجامعات حسب ما حصلوا عليه من مجموع.
واليوم أوشكت المعركة على النهاية، ولا يستطيع منصف لك أو للحق إلا أن يعترف أنك أدرتها بما يرضي الله والضمير النزيه !
ولا أحب يا سيدي أن أنغص عليك لذة الانتصار، ولكن لا بد أن أناقش معك بعض الأمور.
لقد توفرت السرية في أوراق الإجابة، ولكن هل أنت مطمئن يا سيدي الوزير تماما أن المدرسين الذين صححوا أوراق اللغة العربية بالذات على علم كامل بالنحو علما وذوقا يتيح لهم أن يحكموا على من يجيد الإنشاء مثلا ومن لا يجيدها.
أنا أشك في ذلك، ولا علينا الآن من الماضي وإنما أريد أن نلقي نظرة إلى المستقبل.
ألا يمكن يا سيادة الوزير إعداد حلقات دراسية لهؤلاء المدرسين ليتقنوا النحو إتقانا يتيح لهم أن يدرسوه.
والآن ونحن على أبواب عام جديد، ماذا ستكون سياسة الوزارة في وضع البرامج لتعليم اللغات، فالعلوم حقائق ثابتة لا تحتاج إلى اجتهاد، أما الآداب التي تنتسب اللغات إليها فهي فن وعلم في وقت معا، من الذي سيختار النصوص في اللغة العربية؟ إن الطفل إذا بدأ دراسته في اللغة العربية بقول الشاعر:
المجد لا يرضى بأن ترضى بأن
يرضى المؤمل فيك إلا بالرضا
سينصرف عن الأدب العربي قديمه وحديثه.
والتلميذ إذا بدأ بدراسة أبيات شوقي بالطريقة التي تدرس له اليوم سيختلط عليه الأمر وتنماع في ذهنه ملامح الذوق الفني، ويصبح وهو لا يدري ما هو الشعر الجيد وما هو الشعر الساقط، ويترك الأدب وينصرف عنه وينصرف عن اللغة العربية كلها.
والتلميذ إذا قررت عليه رواية لا قيمة لها من الناحية الفنية، وإنما كل ما تمتاز به أنها تدعو إلى مكارم الأخلاق في أسلوب مقالي مباشر، أصبح وهو لا يدري الفارق بين العمل الفني الذي يتمثل في القصة والرواية المسرحية وبين المقالات وخطب الوعظ والحكم وغير ذلك من صنوف الكلام التي لا تتسم بالفن وبذلك ينأى عن القراءة الأدبية جميعا.
إن مهمة المدرسة ضخمة، فهي لا تقدم المعلومات فحسب وإنما هي تنشئ جيلا بأكمله تتعلق به آمال بلاده، ولست أغالي إن قلت إن آمال العرب جميعا تتعلق بهذا الجيل، فإن مصر ستظل زعيمة العالم العربي في الآداب والفنون.
ولهذا أقترح يا سيادة الوزير أن تختار لجنة من كبار الأساتذة في الجامعة وغير الجامعة لتشترك في وضع المقررات والبرامج في اللغة العربية، وإنني لعلى ثقة أنك تدرك خطورة المهمة التي تضطلع بها هذه اللجنة، وما يجب أن يتوفر لها من علم راسخ وذوق رفيع، وفقك الله!
ثروت أباظة
شريعة الحضارة هي شريعة الغاب
الأهرام - العدد 32771
31 أغسطس 1976
شريعة الغاب فيما تعرف هي التي تكون الغلبة فيها للأقوى، وهي التي كانت سائدة حين كان الإنسان غريزة بلا حس، ومطالب جسمانية بلا مشاعر، وحيوانا يوشك أن يكون أعجميا بلا روحانية أو فن أو بعض سمو.
وكان الإنسان في هذه الفترة لا يدرك معنى إلا أن يأكل ويتوالد، فإذا تزعم منهم زعيم فبالقوة وحدها يتزعم، حتى إذا علت به السن وأنهكته الأيام غلبه على أمره زعيم آخر، وقد يكون هذا الزعيم ابنه، فأرفق ما يصنعه بأبيه أن يرمي به إلى عقر الدار كمية من الهمل يلقى إليه بالطعام إلقاء، فإذا حدثت مجاعة وقل الصيد فأول من يحرم من الطعام هو ذلك الأب وليلقفه الموت ما دام ضعيفا ولا يستطيع أن يحصل على قوته.
القوة وحدها هي السيد ولا سيد غيرها، والعقل لا عمل له، والمعاني الأخرى التي عرفتها البشرية فيما بعد غيب محجب لا يدري أحد من الناس عنه شيئا، بل قد نعرف عن الغيب خبرا أما هذه المعاني فقد كانت شيئا غير معروف على إطلاقه.
ومرت الأزمان، وادعى الإنسان أنه تحضر وعرف الرقي والسمو والرفعة، وأشرق العلم بأضوائه الساطعة، وتسابقت الفنون على ألوانها وأشكالها المختلفة من موسيقى إلى أدب إلى فن تشكيلي إلى تمثيل، وادعى الإنسان أنه أصبح ذا مشاعر رفيعة يعرف الحب ويعرف الوفاء ويعرف طاعة الآباء والبر بهم ويعرف الصداقة ويعرف أسمى ما بلغته البشرية من التضحية من أجل الوطن أو الصديق أو الأب أو الابن.
ولعل هذه المعاني تكون حقيقة في حياة أفراد، وصلات بعض البشرية ببعض، ولكن أين هذه المعاني من صلات الدول بعضها ببعض؟
لم تستطع هذه المعاني أن تمنع الحروب ، فشملت عهود التاريخ جميعا مستمرة متلاحقة حتى لا يستطيع الإنسان أن يذكر فترة من التاريخ مرت دون حروب مستطيلة متلاحقة سنوات عددا، أو تنكمش لتنتهي في فترة وجيزة لتتبعها حروب أخرى، وتأخذ حرب برقاب حرب أخرى.
حتى كانت الحرب العالمية الأخيرة، وانفجرت القنبلة الذرية لتمحق مدينتين في اليابان إن وجد مفجرهما عذرا هشا للقنبلة الأولى مدعيا أنه ينهي بها حربا عالمية، استحال عليه أن يجد العذر للقنبلة الثانية، التي كان عنها في غناء شديد، إلا أن يكون ميراثه من عهد الغاب هو الذي سيطر عليه وهو يلقيها، بل لعله كان أكثر همجية من عهد الغاب، لأن الإنسان الأول كان يقتل ليأكل ولم يكن يقتل لمجرد القتل.
واستطاعت هذه القنبلة حين استقرت آمنة عند الدولتين الكبريين أن توقف الحروب العالمية، ولكن هل توقفت الحروب العالمية بسبب السمو الإنساني أم بسبب خوف كل دولة من الاثنتين، مما قد تلحقه به الأخرى؟ المؤكد أن المعاني السامية لا شأن لها بتوقف الحروب الكبرى، ولو أن إحدى الدولتين أصابت القنبلة الذرية دون الأخرى لسيطرت على العالم أبشع ما تكون السيطرة.
وحين ضمنت الدولتان الكبريان ألا حرب بينهما، قسمتا العالم بينهما، فأما إحداهما فتجتذب أنصارها من الدول بسكب المال عليها، وإشعارها دائما أنها تحتاج إليها.
وأما الأخرى فقد سلكت طريقا مختلفا كل الاختلاف، فهي تسلب الدول الواقعة في حوزتها مالها، وتفرض عليها نظامها فرضا لا رحمة فيه ولا شفقة، حتى إذا حاولت دولة كالمجر أن تثور انطلقت إليها الدبابات الروسية تدوس الأطفال وتفعصهم كالهوام والحشرات، وإذا حاولت دولة أخرى أن تغير بعض الأنظمة فيها تهطل عليها خمس دول تتزعمهم روسيا بالسلاح وتسحق محاولة التغيير.
وتنتشر الحروب الصغيرة لتعوض العالم عن الحروب الكبرى، فهو عالم دموي قوي الأواصر بأجداده من عصر الغاب فهو بذلك أصبح لا يستطيع العيش إلا على الدماء ... وويل للمغلوب!
تسرق إسرائيل فلسطين، وتتوالى الحروب بين مصر وإسرائيل، ونهزم هزيمة 67، فإذا العالم المتحضر جميعا يشيح عنا بوجهه، ويبدأ التعايش السلمي على أشلاء الجثث المصرية في سيناء، وتتفق الدولتان الكبريان أول اتفاق لهما على أن يتركا المنطقة في حالة استرخاء عسكري. ولم لا وقد غلبت دولة أخرى غلبة ساحقة، وأصبح من المؤكد أن مصر لن تستطيع أن ترفع رأسها إلى أبد الآبدين، فلا خوف إذن من المنطقة، وخير ما يصلح لها هو الاسترخاء العسكري، فما دمت لا تستطيع أن تغلب مت، هذا هو منطق الحضارة الرفيعة في قمة مجدها لا تختلف في شيء عن منطق الغاب السحيق البعد في غياهب التاريخ ... اغلب أو مت ... وما الاسترخاء على الهزيمة؟ أليس هو الموت؟ وما البأس بك أن تموت ما دمت لا تستطيع أن تنتصر، على هذا تتفق الدولتان ... الدولة التي تكتب على عملتها «بالله نحن نؤمن» والأخرى التي ترفع شعار المادية وتعتمد فلسفتها على الشعار الذي رفعوه «بالله نحن نلحد» أقصى الروحانية وأقصى المادية ... كلاهما اتفق على أن الاسترخاء هو الأخلق بالمنطقة والأجمل بها والأحرى.
وتشمخ علينا الأنوف أننا هزمنا، وتتعالى نغمات الاحتقار من الصديق قبل العدو، ونرتكس في الذل والمهانة والإحباط، ونمشي في البلاد العربية التي استمدت ثقافتها وحضارتها من ثقافتنا وحضارتنا منكسي الرءوس، انكسرت منا العيون وذلت الرقاب وانهزمت نفوسنا داخل نفوسنا، فكان كل فرد منا يحس أنه هو نفسه هزيمة 67، لا يحملها وإنما يمثلها، فهي هو، وهو هي.
وننتفض لنحقق أول نصر عربي في العصر الحديث، فإن الدولة التي تمثل قمة الحضارة تلتفت إلينا في دهشة، إكبارا، ويصبح العجب إعجابا، والتعجب إجلالا، وتنتصر نفوسنا داخل نفوسنا، ويمثل كل منا انتصار 73 وكأنه هو الانتصار، ألم تستطع الدول المتحضرة أن تذكر حضارتنا حين كان العالم في جهل ومجاهل؟
ولم تستطع أن تذكر تزعمنا الثقافي للمنطقة جميعا حتى ونحن في أشد أوقات الهزيمة والاندحار.
ولم تستطع أن تذكر أننا مهد النبوات، وأرض الرسالات، ومشرق الفكر الديني، وأغنى بلاد العالم بالآثار، ففيم إذن يكتبون على عملتهم «بالله نحن نؤمن»؟
إنها شريعة الغاب، لم تترك نفس الإنسان حتى وهو في أرقى عهود حضارته وسموقه ... أينسون كل هذا ولا يلفتهم إلينا إلا أننا حققنا النصر الأخير؟ ألم يكن تاريخنا جميعا نصرا لنا وللإنسانية؟
ويل للإنسان من الإنسان!
توعية الجماهير
لا أعرف شعارا أسخف من شعار توعية الجماهير هذا، ولعل جمعية تنظيم الأسرة هي أعظم دليل على ما أذهب إليه، فهذه الجمعية - فيما أعتقد - قامت لتبث الوعي بين الجماهير أن يحددوا النسل حتى لا ينوء رب الأسرة بعدد كبير من الأولاد، ويصبح وهو لا يستطيع الإنفاق عليهم، وحتى لا ينوء الوطن بأبنائه فيصبح وهو غير قادر على القيام بشأنهم.
ومنذ قامت هذه الجمعية والأطفال ينسلون إلى الحياة زرافات، ولا أقول وحدانا.
وتنظر حواليك فتجد الأسرات، كلما كانت جاهلة كثر فيها النسل، وكلما ازدادت بها الثقافة قل فيها الأطفال.
والأسر المثقفة لا صلة لها بجمعية تنظيم الأسرة ولا بالشعارات التي ترفعها، ومن عجب أن تحاول هذه الجمعية بث دعايتها عن طريق التليفزيون، بينما المقصودون بهذه الدعاية لا يكادون يجدون طعام يومهم، فما خطبك بالتليفزيون؟
وكنا ظننا أن انتشار الراديو في القرى سيجعل الفلاح يجد ملهاة أخرى غير إنجاب الأطفال، فإذا بالأمر يزداد سوءا، ويلازم داره مع الراديو ويزداد الإنجاب.
وجمعية تنظيم الأسرة - فيما أعتقد - ذات ميزانية، وإلا فمن أين تنفق على رعايتها وعلى مرتبات الموظفين بها.
ترى أيعتقد القائمون بأمر هذه الجمعية أنهم حققوا أي نجاح بدعايتهم وبتوعيتهم للجماهير، وإن كان هذا ظنهم فأين أثره؟
الحقيقة أن الوعي يأتي من داخل الإنسان، وهو لا يأتي من فراغ، وإنما يأتي من تفكير، والتفكير لا يكون إلا مع شيء - ولو يسير - من الثقافة، والثقافة لا تكون إلا مع شيء - ولو قليل - من العلم، والعلم لا يكون إلا بتعلم القراءة والكتابة، فلو شاءت هذه الجمعية أن تكون ذات نفع فلتنس ولو إلى حين مشكلة تحديد النسل، ولتنفق جهدها ومالها في مشكلة تحديد الجهل.
فإذا قرأ الأمي فكر، وإذا فكر سيعرف هو من تلقاء نفسه كيف يحدد نسله وتصل الجمعية إلى ما تنشده.
ثروت أباظة
Unknown page