[المائدة: ١١٢]، فإن قيل: كان (عيسى) (١) سياحًا جَوَّابًا جَوّالًا في البراري وسواحل البحار، قلنا: قد أشرنا قبلُ إلى سياحة نبينا ﷺ وأمّته وأنّ منها الجهاد برًّا وبحرًا وقد كان منهم ما أشرنا إليه وأضعاف ذلك، فكانت سياحة محمد ﷺ وبارك أفضل وأكمل، ونفعها أعم وأحسن وأجمل، لأنه حصل في سياحته فتح البلاد وقتل الكفار الذين أظهروا في الأرض الفساد حتى استنفَد عشر سنين في إقامة الدين فتابَعه مالم يُتابِع نبيًا قبله في أضعاف تلك المدّة ولا يقاربه، فإن نوحًا لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عامًا فما بلغ من كان معه من المؤمنين في السفينة مائة نفس (٢)، فكان محمد ﷺ في مدّة نبوّته إمّا مجاهدًا وإمّا مجهّزًا جيشًا أو سريةً أو باعِثًا بَعْثًا في إقامة الدين وإعلاء الكلمة وإبلاغ الرسالة وإسماع الدعوة حتى طبّق الأرض دينُه وذكْرُه وعَمّ البسيطةَ ظُهوره وقهرُه.
فإن قيل: إن عيسى عليه [الصلاة و] (٣) السلام كان زاهدًا في الدنيا يُقنِعه اليسيرُ منها ويجتزي بالطفيف من البلغة حتى خرج من الدنيا كفافًا فلا له ولا عليه، قلنا: كذلك كان محمد ﷺ كان يطوي اليومين والثلاثة لايجد من الدقل (٤) ما يملأ به بطنه (٥)
(١) "عيسى" ليس في ب.
(٢) قال الثعلبي في تفسيره ص ١١٢٧: " اختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي: لم يكن في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث إخوة كنعان وزوجاتهم ورحلهم فجميعهم ثمانية ...، وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له، وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعًا، وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفسًا، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء، قال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانًا"، قال الطبري: " والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: من الآية ٤٠]، يصفهم بأنهم كانوا قليلًا ولم يحُدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله ﷺ صحيح، فلا ينبغي أن يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدٌّ من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله ﷺ ". تفسير الطبري (١٥/ ٣٢٧)، ولعل هذا هو سبب عدم تحديد السرمري لعددهم بمقدار معين، وإنما ذكر أنهم دون المائة جمعًا بين الأقوال كلها.
(٣) "الصلاة و" زيادة من ب.
(٤) الدقل: هو رديء التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص، فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثورًا. النهاية في غريب الأثر (٢/ ٢٩٩).
(٥) أخرجه مسلم (٤/ ٢٢٨٤)، كتاب الزهد والرقائق، ح ٢٢٩٧، من طريق النعمان بن بشير، بلفظ: "ألستم في طعم وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم ﷺ وما يجد من الدقل، ما يملأ به بطنه".