بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين قبل أن يهبط آدم (عليه السلام) إلى الأرض، احتدم الصراع - بنحو ما - بين آدم المناقب والفضائل، وإبليس المثالب والرذائل، وكانت نتيجة الصراع أن هبط آدم وعدوه إلى الأرض <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/20/123" target="_blank" title="طه: 123">﴿قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو﴾</a> (1)، وحكم على إبليس بالطرد والخلود في جهنم، وإن كان من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، وحكم على آدم (عليه السلام) وذريته أن يجاهدوا في الله ليهدينهم سبله، ثم ليعودوا إلى جنات الخلود.
فهبط آدم وانطلق التاريخ يلاحق خطوات «هابيل» و «قابيل» ليسجل لنا أحداث معركة ملأت الحياة.. معركة الحق والباطل.. معركة الفضيلة والرذيلة..
معركة المناقب والمثالب.. معركة المثل والقيم وأضدادها.. معركة كان لها في كل يوم من يمثلها ويرفع رايتها في خطي الهدى والضلال، فكان رافعوا راية الهدى الأنبياء
Page 3
والأوصياء وأتباعهم، وكان رافعوا راية الضلال الطواغيت والظلمة وعبيد الشيطان وزبانيتهم..
بيد أن المأساة التي شهدها التاريخ تعمقت حتى بلغت الأعماق منذ أن ارتفعت راية النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان الحق - قبلها - صريحا، كما كان الضلال صريحا، وليس لحركة النفاق دور مؤثر غاية الأثر كما كان له دور في تاريخ الإسلام، فخلطوا - والنبي بين ظهرانيهم - بين الحق والباطل، واستفادوا من تجارب أسلافهم فخافوا أن تكتسحهم جيوش الهدى، وتأكل رؤوسهم سيوف رجال التوحيد، فلم يولوا أدبارهم صوب معسكر الإسلام; لئلا يبادوا، وإنما هربوا باتجاه الدين، ودخلوا صفوف الموحدين، ورفعوا رايات بيض ركزوها في أرض هيأوها لتغرق بدماء أبناء الأنبياء والمرسلين، وجنود الحق من ذرية «هابيل»; فوضعوا ودلسوا وأخذوا ينضرون الدين من الداخل، ويغيروا معانيه، ويفرغوا مصطلحاته من محتوياتها، ويصوغوا لها محتويات جديدة مع الإحتفاظ بصورة المصطلح ظاهريا.
فالبغي مصطلح مقرر في القرآن، والبغاة هم من خرجوا على الإمام العادل; إلا أنهم استفرغوه ثم جعلوه مصطلحا يطبقوه على «الحسين بن علي (عليهما السلام)» وجعلوا «الغنائم» رحل رسول الله!!، والسلب «ما أخذ من عقائله وبناته»، والامتناع عن مساعدة الظالم الغاصب وعدم الإعتراف به والتحرز عن دفع الزكاة إليه «ردة»!!
تجب محاربتها واستئصال من اعتقدها!!..
وهكذا دلسوا ودسوا الباطل في الحق، والرذيلة في الفضيلة، والمثالب في المناقب.. فصار التمييز على غير ذي البصيرة صعبا، وصارت الفتنة عمياء ظلماء،
Page 4
لا ينجو فيها إلا من طاب مولده، وأخذ الله بيده..
فالمعركة ليست جديدة، وإن كانت بعد النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر تعقيدا وأعمق جذورا.
ولعل من أهم أسباب هذه المعركة، بل لربما كان هو السبب الرئيسي أن الإنسان يغفل أو يطبع على قلبه فيعمى عن إدراك مسيرته، فيظنها تبتدأ بالولادة وتنتهي حينما يرتطم رأسه بأحجار اللحد، وهو لا يدري أنه مخلوق «كرمه الله» فنفخ فيه من روحه، وعاش ما شاء الله في عالم الأنوار قبل أن يقحم في هذه الدار، حيث كان في عامل «ألست» ثم جاء إلى حيث ادخر فيه الله نوره، وهو راجع إلى ربه عبر هذه الدنيا، وليست هي إلا «مكدحا» يوصله إلى ذلك الكمال المطلق (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)..
غير أنه إذا غفل عن هذا خلد إلى التراب، وغرق في طينه النتن المسنون، وحصر عقله بين جدران هذه النشأة العنصرية الضيقة، فلا يرقى إلى ما قبلها، ولا ينال فهم ما بعدها، ومن ثم يقيس كل شئ إلى عقله المحصور المحدود «والدين لا يقاس بالعقول» و «لو قيست السنة محقت»، وكيف يمكن أن يحيط هذا العقل الذي أنهكته قيود الزمان والمكان والمادة والتراب والشهوات والنزوات و... بالدين والشريعة التي جعلها من «أحاط بكل شئ» لكل شئ؟!
ولنا أن نتساءل: لماذا نقيس الدين ومقدساته وشرائعه بالعقل المحدود - فنحددها بالضرورة - ولا ننطلق بالعقل ليجتاز حدود الزمان والمكان، ويرتفع إلى آفاق الدين، ونحثه على التدبر وفق المنهج المشروع ليمشي قدما في طريق الكمال فيدرك تلك الحقائق التي يعجز عن إدراكها وهو في حضيض «الطين».
Page 5
وقد ذكر القرآن الكريم في مواضع عديدة معاناة الأنبياء والصالحين مع اممهم لأنهم «لا يفقهون».. «لا يعقلون» أو أنهم لا يريدون ذلك.
وكم وكم حذرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من تحكيم العقل المحدود في قضايا الدين، وكم عانى الأنبياء والأوصياء من الناس.. من ذوي العقول الغاطسة في الطين، لأنهم كلما أرادوا أن ينطلقوا بعقولهم ليخلصوها من الأوحال والقيود لتتجاوز التراب وتصل إلى رب الأرباب رفض الناس إلا الخلود إلى الثقل والاستسلام إلى اللذات.
ولا زالت هذه المعاناة تتعب الإنسان في جميع شؤونه، وتحرمه من استشراف عالم الأنوار، واستطلاع الآفاق، ولو أنه صعد بعقله - بدلا من تحجيم المطلق - لما استكثر ولا استكبر ولا استنكر الكثير مما روي في فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومناقبهم، بل لوجدها قليلة ضئيلة في حقهم، ولأدرك جيدا كيف كان أهل البيت (عليهم السلام) يخفون الكثير من «حقيقتهم» عن عقول العباد المحجوبة المقيدة.
وأما ما نسمعه أحيانا من تشكيك قد يلقى قبولا متهافتا، أو حتى ترويجا خاويا من هنا أو هناك لربما عاد إلى هذه المأساة التي يعاني منها الإنسان منذ انطلاقة تاريخه حيث إنه يريد أن ينزل بكل شئ إلى مستواه، ويأبى أن يصعد بعقله إلى أعلى عليين، ويريد لكل شئ أن يدخل دائرة «التحجيم» التي صنعها لنفسه، ولربما احتج لذلك بضعف السند، وعدم سلامة الطريق، وارتباك النص، وما شابه ذلك، وهو يتخبط ويخلط بين ما قد يكون محققا عنده - كما يزعم - للوصول إلى نتائج في حقل خاص من حقول العلم فيسريه إلى حقل آخر.
وهكذا هو الإنسان كان وسيبقى «ظلوما جهولا».
Page 6
فالأحرى بنا - إذن - أن نسلم بما لا تحيط به عقولنا، لأنها أكبر من عقولنا، ولا نردها لهذا السبب محضا، وندعو الله أن يفتح علينا بما يجعلنا أوسع من قيودنا لندرك الحقائق مهما كانت عالية <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/50/22" target="_blank" title="ق: 22">﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾</a> (1)، فتستقبلها القلوب مفعمة بالإيمان، وتدركها العقول المتسعة باتساع النور، وقد قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «لو علم الناس متى سمي عليا «أمير المؤمنين» ما أنكروا فضله.. سمي وآدم بين الروح والجسد» (2).
وليس ثمة من يشك في أن للسيدة فاطمة نشأة خاصة ميزتها - كسائر أهل البيت (عليهم السلام) - عمن سواها، قبل دخولها هذه الدنيا وفيها وبعدها، ولا نريد الدخول في التفاصيل لأن الكتاب تولى ذلك.
فإذا كانت لها نشأة خاصة جعلتها «حوراء إنسية» في آن واحد، فلماذا لا تكون لها مناقب خاصة، وفضائل خاصة، وكرامة خاصة، وعبادة خاصة، وأب خاص، وزوج خاص، وذرية خاصة، وحقوق خاصة، ومواقف خاصة؟
ولماذا نستكبر أو نستكثر أو نستنكر - والعياذ بالله - منقبة لمجرد أن عقولنا - المحدودة - لا تتسع لها؟!! ثم نرمي من اعتقد بها بل حتى من رواها بالغلو!!
غلو.. مغالي.. لقد لعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المغالين وتبرؤوا منهم.. لا شك في ذلك، وأي مؤمن موالي لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولفاطمة سيدة نساء العالمين وذريتها المعصومين (عليهم السلام) ثم لا يتبرء ممن تبرؤوا منه، ولا يلعن من لعنوا؟ وهل ديننا إلا البراءة والموالاة؟
Page 7