المجلد الاول
المقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل القديم، وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتخبين ١. وعليه وعليهم السلام أجمعين.
هذا -أطال الله بقاء مولانا السيد المنصور "المؤيد"٢ بهاء الدولة وضياء الملة وغياث الأمة، وأدام ملكه ونصره، وسلطانه ومجده وتأييده وسموه، وكبت شانئه وعدوه- كتاب لم أزل على فارط الحال وتقادم الوقت ملاحظًا له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه وادًّا أن أجد مهملًا٣ أصله به أو خللًا أرتقه٤ بعمله والوقت يزداد بنواديه٥ ضيقًا ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقًا. هذا مع إعظامي له وإعصامي٦ بالأسباب المنتاطة به واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب وأذهبه في طريق القياس والنظر وأعوده عليه بالحيطة والصون وآخذه له من حصة التوقير٧ والأون، وأجمعه٨ للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة،
_________
١ في ب: "المنتجبين"، والمنتجب والمنتخب بمعنى واحد.
٢ زيادة في ج.
٣ في ج: "موصلا".
٤ في ج: "أربقه بعلمه"، أي أقيده.
٥ نوادي الكلام: ما يخرج منه وقتًا بعد وقت، ونوادي الإبل: شواردها" فالمعنى أن الوقت لا يتسع لشوارد هذا الكتاب ولا يسمح بجمعها وإبلاغها.
٦ في المطبوعة، د: "اعتصامي". وما أثبته موافق للأصول الأخرى، وهو يجانس "إعظامي".
٧ التوقير مصدر وقر الدابة سكنها، ويراد به الإراحة؛ فالمراد حصة الراحة والتخفيف من حركة العمل. والأون: الدعة والسكون؛ والتوقير هو كذا في ش، ج، هـ. وفي أ، ب "التوفير". ويعبر في هذا العصر عن هذا المعنى بأوقات الفراغ.
٨ في ج بدل "وأجمعه للأدلة على": "وأجله على".
1 / 1
فكانت مسافر وجوهه ومحاسر أذرعه وسوقه تصف لي ما اشتملت عليه مشاعره وتحي١ إلي بما خيطت عليه أقرابه٢ وشواكله وتريني أن تعريد٣ كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه وتحاميهم طريق الإلمام به والخوض في أدنى أوشاله وخُلُجه فضلًا عن اقتحام غماره ولُجَجه إنما كان لامتناع جانبه، وانتشار شعاعه، وبادي تهاجر قوانينه وأوضاعه. وذلك أنا لم نر أحدًا من علماء البلدين٤ تعرض لعمل أصول النحو، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأما كتاب أصول أبي بكر٥ فلم يلمم فيه بما نحن عليه، إلا حرفًا أو حرفين في أولهن وقد تعلق عليه به. وسنقول في معناه.
على أن أبا الحسن٦ قد كان صنف في شيء من المقاييس كتيبا، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه٧، وكفيناه كلفة التعب به، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا، المفيضة ماء البشر٨ والبشاشة٩ علينا، حتى
_________
١ مضارع وحى، وهو كأرحى. يقال: رحى إليه بكذا: أشار إليه به وأومأ. وهو كذلك "تحي" في أ، ب، ج، وفي ش، د، هـ: "تجيء".
٢- الأقراب جمع قرب كقفل وهي من الفرس خاصرته، والشواكل واحدها شاكلة وهي من الفرس الجلد بين عرض الخاصرة والثفنة، وهي الركبة.
٣ التعريد: الهرب والفرار.
٤ البلدان: البصرة والكوفة.
٥ هو ابن السراج محمد بن السري. كانت وفاته سنة ٣١٦هـ وهو المعني بأبي بكر حيث أطلق. وكتاب الأصول له يقول فيه صاحب كشف الظنون: "كتاب مرجوع إليه عند اضطراب النقل". وينقل عنه صاحب الخزانة كثيرًا.
٦ هو الأخفش سعيد بن مسعدة مات سنة ٢١٠هـ. وهو الأخفش الأوسط، وحيث أطلق أبو الحسن في هذا الكتاب فهو الأخفش هذا. ويزعم ابن الطيب في شرح الاقتراح أن هذه الكنية خاصة بالأصفر علي بن سليمان؛ وهو وهم.
٧ سقط في ألفظ "فيه".
٨ تبعت في هذا نسخة ج، وفي المطبوع وأ، ب "البر".
٩ في ج: "البشارة". والظاهر أن يقرأ بفتح الباء وهي الحال.
1 / 2
دعا ذلك أقوامًا نُزرت من معرفة حقائق هذا العلم حظوظهم، وتأخرت عن إدراكه أقدامهم، إلى الطعن عليه، والقدح في احتياجاته وعلله. وسترى ذلك مشروحًا في الفصول بإذن الله تعالى.
"ثم إن بعض من يعتادني١، ويُلم لقراءة هذا العلم بي، ممن آنس بصحبته لي، وأرتضي حالى أخذه عني، سأل فأطال المسألة، وأكثر الحفاوة والملاينة، أن أمضي الرأي في إنشاء هذا الكتاب، وأوليه طرفًا من العناية والانصباب٢. فجمعت بين ما أعتقده: من وجوب ذلك علي، إلى ما أوثره٣ من إجابة هذا السائل٤لي. فبدأت به، ووضعت يدي فيه، واستعنت الله على عمله، واستمددته سبحانه من إرشاده وتوفيقه"، وهو -عز اسمه- مؤتِي ذاك بقدرته، وطَوله ومشيئته.
_________
١ اتبعنا في إثبات هذا النص المكنوف بالقوسين ما في ج. وليس في باقي النسخ إلا النص الآتي "وأنا بادئ به، ومستعين الله على عمله، ومستمده سبحانه إرشاده وتوفيقه".
٢ أي الاجتهاد فيه، من قولهم: انصب البازي على الصيد.
٣ الواجب في العربية أن يقال: وما إلخ. ولكنه راعى في الجمع معنى الضم.
٤ كذا ولو كان "إليّ" لكان أرفق بالسجع، ولكن هذا يحتاج إلى تضمين السائل معنى الطالب.
1 / 3
هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول:
"ولنقدم أمام القول على فرق١ بينهما طرفًا من ذكر أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلب حروفهما فإن هذا وضع يتجاوز قدر الاشتقاق ويعلوه إلى ما فوقه. وستراه فتجده طريقًا غريبًا ومسلكًا من هذه اللغة الشريفة عجيبًا "٢.
فأقول: إن معنى " ق ول " أين وجدت وكيف وقعت٣، من تقدم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه، إنما هو للخفوف والحركة ٤، وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها لم يهمل شيء منها، وهي: " ق ول"، "ق ل و"، " وق ل "، "ول ق "، " ل ق و"، "ل وق ".
الأصل الأول "ق ول " وهو القول. وذلك أن الفم واللسان يخفان له ويقلقان ويمذلان به٥. وهو بضد السكوت الذي هو داعية إلى السكون ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذًا في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركًا ولما كان الانتهاء أخذًا في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكنًا.
الأصل الثاني "ق ل و" منه القلو: حمار الوحش وذلك لخفته وإسراعه قال العجاج:
_________
١ في ش: "الفرق" وهنا تقرأ بإضافة فرق إلى "بينهما" والبين هنا الوصل والاجتماع، وهو اسم متمكن وقرئ لقد "تقطع بينكم" بالرفع.
٢ سقط ما بين القوسين في ج.
٣ في ج: "تصرفت".
٤ كذا في النسخ. والأنسب بالسياق: "الخفوف". وهو معرفة قولهم: خف القوم إذا ارتحلوا مسرعين.
٥ من قولهم: مذل المريض من باب فرح إذا لم يتقاتر من الضجر، ويقال أيضًا: مذل: فتن.
1 / 5
#تواضخ التقريب قلوا مغلجا١:#
ومنه قولهم: "قلوت البسر والسويق، فهما مقلوان "، وذلك لأن الشيء إذا قلي جفّ وخفّ، وكان أسرع إلى الحركة وألطف ومنه قولهم: "اقلوليت يا رجل " قال٢:
قد عجبت مني ومن بعيليا ... لما رأتني خلقا مقلوليا
أي خفيفا للكبر٣، "و" طائشا، "و"٥ قال ٦:
وسرب كعين الرمل عوج إلى الصبا ... رواعف بالجادي حور المدامع٧
سمعن غناء بعد ما نمن نومة ... من الليل فاقلولين فوق المضاجع٨
أي خففن لذكره وقلقن فزال عنهن نومهن واستثقالهن على الأرض. وبهذا يعلم أن لام اقلوليت واو لا ياء. فأما لام اذلوليت٩ فمشكوك فيها.
_________
١ بعده:
#جأبا ترى تليله مسحجا#
وهذا في وصف أتان الوحش. وقوله تواضخ التقريب أي تجتهد مع فحلها في الجري، وأصل المواضخة المباراة في الاستقاء بالدلاء، والمفلج: الشديد المدمج أو هر الذي يطرد أنه، يعني الفحل. والجأب: الغليظ. والتليل: العنق، ومسحج أي معضوض من طراده الحمر، والسحج: القشر. وانظر الأرجوزة بتمامها في ديوان العجاج ص٩.
٢ نسب الرجز: "قد عجبت مني ومن بعيليا" إلى الفرزدق وقد أورد السيرافي في "باب ما يحتمل الشعر من الضرورة" بيت الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجرته ... ولكن عبد الله مولى مواليا
ثم قال: وقال آخر: "قد عجبت مني ومن بعيليا" ويقضي هذا أن قائل الرجز ليس للفرزدق.
٣ في أ: "للكيرة" وانظر في هذا الرجز الأعلم في ذيل سيبويه ص٥٩ ج٢، وهو للفرزدق.
٤ زيادة ب، د.
٥ زيادة في ج.
٦ البيتان من مقطوعة تنسب إلى يزيد بن معاوية في صدر ذيل ثمرات الأوراق، وورد البيتان في حماسة ابن الشجري ص١٨٧ غير منسوبين.
٧ يصف نساء حسانًا، وقوله: كعين الرمل يريد كبقر الوحش، وعوج: ميل، والجادي -بالجيم وكتب خطأ في المطبوعة بالحاء: الزعفران، يريد أن الزعفران يظهر في أنوفهن، فكأنما هو أثر الرعاف، وهو خروج الدم من الأنف.
٨ في الأساس في فلو: "غنائي" في مكان "غناء".
٩ اذلولى: ذل وانقاد.
1 / 6
ومن هذا الأصل أيضًا قوله:
#أقب كمقلاء الوليد خميص١#
فهو مفعال٢ من قلوت بالقلة، ومذكرها القال؛ قال الراجز:
#وأنا في الضراب قيلان القلة#
فكأن القال مقلوب قلوت وياء القيلان مقلوبة عن واو وهي لام قلوت ومثال٣ الكلمة فلعان. ونحوها عندي في القلب قولهم "باز " ومثاله فلع واللام منه واو لقولهم في تكسيره: ثلاثة أبواز ومثالها أفلاع. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه: من قلب هذه الكلمة قولهم فيها "البازي"، وقالوا في تكسيرها "بُزاة" و"بوازٍ " أنشدنا أبو علي٤ لذي الرمة:
كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك٥
_________
١ قائله امرؤ القيس، وصدره:
#فأصدرها تعلو النجاد عشية#
وأقب أي ضامر البطن، وكذلك خميص. وهذا البيت في أبيات في وصف الحمار الوحشي يطارد أتنه، منها قوله:
أذلك أم جاب يطارد آتنا ... حملن فأدنى حملهن دروص
فالضمير "ها" في "فأصدرها" للأتن، وأقب خميص من وصف الحمار، انظر اللسان في "د ر ص".
٢ المقلاء: القال، وهي لعبة للصبيان: يأخذون عودين، أحدهما نحو ذراع والآخر قصير فيضربون الأصغر بالأكبر، فالمقلاء. والقال: العود الكبير الذي يضرب به، والقلة: الصغير. وهذه اللعبة تعرف عند العوام بالعقلة. وانظر شفاء الغليل في حرف القاف.
٣ يريد ميزانها الصرفي.
٤ هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، الإمام في العربية؛ أخذ من الزجاج وابن السراج؛ وهو أستاذ ابن جني ومخرجه، وله الآثار الجليلة. توفي ببغداد سنة ٣٧٧هـ. انظر البغية ٢١٦.
٥ السدفة: الظلمة. واللوائك يريد المواضع من الأسنان، وهو في وصف إبل. والبيت في أسرار البلاغة ص٧٢ وفيه: سحرة مكان سدفة، وهو أيضًا في الكامل ١٩/ ٧ طبعة المرصفي. ويقول المرصفي: إن الصواب: "أنيابه" إذ هو في وصف بعير. وكذلك هو في الديوان طبعة أوروبا ٤١٨.
1 / 7
وقال جرير:
إذا اجتمعوا عليّ فخل عنهم ... وعن باز يصك حباريات١
فهذا فاعل؛ لاطراد الإمالة في ألفه، وهي في فاعل أكثر منها في نحو مال وباب.
وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين٢ قال: قال أبو سعيد٣ الحسن بن الحسين "بازٌ " وثلاثة "أبواز " فإن كثرت فهي "البيزان" فهذا فلع وثلاثة أفلاع وهي الفلعان.
ويدل على أن تركيب هذه الكلمة من "ب ز و" أن الفعل منها عليه تصرف، وهو قولهم " بزا يبزو " إذا غلب وعلا ومنه البازي -وهو في الأصل اسم الفاعل ثم استعمل استعمال الأسماء كصاحب ووالد- وبُزاة وبواز يؤكد ذلك وعليه بقية الباب من أبزى وبزواء وقوله:
#فتبازت فتبازختُ لها٤#
_________
١ حباريات واحده حبارى، وهو طائر يصيده البازي، كني بالبازي عن نفسه وبالحباريات عن بني نمير المذكورين في قوله قبل:
أنا البازي المطل على ثمير ... على رغم الأنوف الراغمات
وهذا من إحدى نقائض جرير مع الفرزدق. وانظر النقائض ٧٧٥ طبعة أوروبا.
٢ أي بعد الثلاثمائة. وكانت وفاة أبي علي سنة ٣٧٧هـ.
٣ هو السكري الإمام في النحو واللغة، الراوية المكثر الثقة. كانت وفاته سنة ٢٧٥، وانظر البغية ٢١٩، وقد أورد المؤلف هذا الحديث في المحتسب في الكلام على سورة الفاتحة.
٤ هذا صدر بيت لعبد الرحمن بن حسان وتمامه:
#جلسة الجازر يستنجي الوتر#
وقبله:
سائلا مية هل نبهتها ... آخر الليل بعرد ذي عجر
والعرد: الذكر المنتشر وقوله: تبازت أي رفعت مؤخرها، وتبازخ: مشى مشية العجوز أقامت صلبها فأخر كاهلها، وقوله يستنجي الوتر أي يقطعه، ويروى: جلسة الأعسر. وانظر اللسان في بخا وبزا.
1 / 8
والبزا١ لأن ذلك كله شدة ومقاولة٢ فاعرفه.
فمقلاء من قلوت وذلك أن القال -وهو المقلاء- هو العصا التي يضرب بها القلة وهي الصغيرة، وذلك لاستعمالها في الضرب بها.
"الثالث" "وق ل " منه الوقل٣ للوعل، وذلك لحركته، وقالوا: توقل في الجبل: إذا صعد فيه، وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال. قال ابن مقبل:
عودا أحم القرا إزمولة وقلا ... يأتي تراث أبيه يتبع القُذَفا٤
"الرابع" "ول ق " قالوا: ولق يلق: إذا أسرع.
قال:
#جاءت به عنس من الشام تلق٥#
أي تخِف وتسرع. وقرئ٦ "إذ تِلقونه بألسنتكم " أي تخفون٧ وتسرعون. وعلى
_________
١ البزا: أن يستقدم الظهر ويتأخر العجز. والوصف أبزى وبزواء؛ وكان الأنسب قرنه بهما.
٢ كذا في الأصول. ويبدو لي أن هذا تحريف مصاولة.
٣ الوقل كضرب وسبب وكنف.
٤ العود: المسن وفيه بقية، و"أحم القرا": أسود الظهر، و"إزمولة": خفيفًا، وقوله: "يأتي تراث أبيه" أي يفعل فعل أبيه في التصعيد في الجبال، و"القذف" واحده قذفة كغرفة وغرف وهي ما أشرف من الجبال. وانظر كتابة الأعلم على شواهد سيبويه ص٣١٦ ج٢.
٥ قائله القلاخ بن حزن المنقري يهجو جليدًا الكلابي، وقبله:
إن الجليد زالق وزملق ... كذنب العقرب شوال غلق
هذا ما في اللسان في زلق، وفي المخصص ٩/ ٧: "عيس" في مكان "عنس". وفي اللسان في أنق:
إن الزبير زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشام تلق
لا أمن جليسه ولا أنق
٦ نسب هذه القراءة أبو حيان في البحر، ٤٣٨/ ٦ إلى عائشة وابن عباس وعيسى بن عمر وزيد بن علي.
٧ وكأن الأصل: تخفون فيه فحذف الجار والمجرور، وفي ج "تخفونه".
1 / 9
هذا فقد يمكن أن يكون الأولق١ فوعلا من هذا اللفظ وأن يكون أيضا أفعل منه. فإذا كان أفعل فأمره ظاهر وإن سميت به لم تصرفه معرفة وإن كان فوعلا فأصله وولق فلما التقت الواوان في أول الكلمة أبدلت الأولى همزة لاستثقالها أولا كقولك في تحقير واصل: أويصل. ولو سميت بأولق على هذا لصرفته. والذي حملته الجماعة عليه أنه فوعل من تألق البرق إذا خفق وذلك لأن الخفوق مما يصحبه الانزعاج والاضطراب. على أن أبا إسحاق٢ قد كان يجيز فيه أن يكون أفعل من ولق يلق. والوجه فيه ما عليه الكافة: من كونه فوعلا من " أل ق " وهو قولهم "ألق الرجل فهو مألوق " ألا ترى إلى إنشاد أبي زيد فيه:
تراقب عيناها القطيع كأنما ... يخالطها من مسه مس أولق٣
وقد قالوا منه ٤: ناقة مسعورة أي مجنونة وقيل٥ في قول الله سبحانه ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾: إن السعر هو الجنون وشاهد هذا القول قول القطامي ٦:
_________
١ هو الجنون.
٢ يريد الزجاج، وكانت وفاته سنة ٣١٥هـ. وانظر في أولق الكتاب ٣٤٤/ ٢.
٣ روى "يخامرها" بدل "يخالطها" والقطيع: السوط.
٤ أي من معنى هذا البيت، وهو وصف الناقة بالأولق الذي هو الجنون.
٥ قائله كما في اللسان في "سعر" الفارسي. ويرى غيره أن "سعرا" جمع سعير النار.
٦ هو عمير بن شييم -بالتصغير فيها- الشاعر التغلبي الأموي، والقطامي -بضم القاف وفتحها- في الأصل الصقر.
1 / 10
يتبعن سامية العينين تحسبها ... مسعورة أو ترى ما لا ترى الإبل١
"الخامس" "ل وق " جاء في الحديث٢: "لا آكل من الطعام إلا ما لوّق لي "، أي ما خُدِم وأعملت اليد في تحريكه وتلبِيقه٣، حتى يطمئن وتتضامّ جهاته. ومنه اللوقة للزُبْدة وذلك لخفتها وإسراع حركتها وأنها ليست لها مسكة الجبن وثقل المصل ونحوهما. وتوهم قوم أن الألوقة -لما كانت هي اللوقة في المعنى، وتقاربت حروفهما- من لفظها٤ وذلك باطل؛ لأنه لو كانت من هذا اللفظ لوجب تصحيح عينها إذ كانت الزيادة في أولها من زيادة الفعل والمثال مثاله فكان يجب على هذا أن تكون ألوقة كما قالوا في٥ أثوب وأسوق وأعين وأنيب بالصحة ليفرق بذلك بين الاسم والفعل وهذا واضح. وإنما الألوقة فعولة من تألق البرق إذا لمع وبرق واضطرب وذلك لبريق الزبدة واضطرابها.
"السادس" "ل ق و" منه اللقوة للعقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها قال٦:
كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... دفوف من العقبان طأطأت شملال٧
_________
١ "مسعورة" روي مجنونة، وسامية العينين: رافعتهما، أو ترى ما لا ترى الإبل فهي تفزع منه لنشاطها. يصف ناقة يتبعها الإبل في السير، وهو في لاميته:
#إنا محبوك فأسلم أيها الطلل#
٢ يريد حديث عبادة بن الصامت ﵁. وقد خرج هذا الحديث أبو عيد. وانظر البلوى ٧٧/ ٢.
٣ يقال: لبق الزبد إذا خلطه بالسمن ولينه.
٤ هذا خير "أن الألوقة"، والضمير في "لفظها" بعود إلى "اللوقة".
٥ يريد: في باب أثوب وما بعده. ولو حذفت "في" لكان أعذب في الأسلوب.
٦ هو امرؤ القيس بصف فوسا. انظر اللسان في "دف".
٧ يروي صيود، وفتخاء الجناحين لينتهما، ودفوف أي تدنو من الأرض في طيرانها، وشملال: خفيفة. وهذا في وصف فرس من قصيدته التي مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
1 / 11
ومنه اللقوة١ في الوجه. والتقاؤهما أن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش منه، وليست له مسكة الصحيح، ووفور المستقيم. ومنه قوله:
#وكانت لقوة لاقت قبيسا٢#
واللقوة: الناقة السريعة اللقاح وذلك أنها أسرعت إلى ماء الفحل فقبلته ولم تنب عنه نبو العاقر.
فهذه الطرائق التي نحن فيها حزنة المذاهب، والتورد لها وعر المسلك، ولا يجب مع هذا أن تستنكر، ولا تستبعد فقد كان أبو علي ﵀ يراها ويأخذ بها ألا تراه غلب كون لام أثفية٣ -فيمن جعلها أفعولة- واوا على كونها ياء -وإن كانوا قد قالوا: "جاء يثفوه ويثفيه "٤ - بقولهم: " جاء يثفه "، قال: فيثفه لا يكون إلا من الواو، ولم يحفل بالحرف الشاذ من هذا وهو قولهم "يئس " مثل يعس٥؛ لقلته. فلما وجد فاء وثف واوا قوي عنده في أثفية كون لامها واوا فتأنس للام بموضع الفاء على بعد بينهما ٦.
وشاهدته غير مرة إذا أشكل عليه الحرف: الفاء، أو العين، أو اللام، استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذ
_________
١ هي عرض يعرض الوجه فيميله إلى أحد جانبيه.
٢ هذا مثل يضرب للرجلين يكونان متفقين على رأي ومذهب فلا يلبثان أن يصطحبا ويتصافيا. واللقوة -كما فسر الكتاب- السريعة اللقاح، والقبيس الفحل السريع الإلقاح أي لا إبطاء عندهما في الإنتاج. وانظر اللسان في "لقو".
٣ هي الحجرة تنصب ويجعل عليها القدر، وهن ثلاث أثافي.
٤ أي يتبعه ويأتي على أثره.
٥ لما كانت الهمزة في بعض وجوه الرسم لا صورة فها ظاهرة جروا على أن يقابلوها بالعين كما هنا، ويئس هنا مضارع يئس بحذف فاء الكلمة وهي ياء، وهذا شاذ، وإنما ينقاس ذلك في الواوي. وانظر الكتاب ٣٣٣/ ٢.
٦ في ج: "بعد ما بينهما".
1 / 12
أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق؛ لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرْج١ واحد من تتالي الحروف، من غير تقليب لها ولا تحريف. وقد كان الناس: أبو بكر ﵀ وغيره من تلك الطبقة، استسرفوا٢ أبا إسحاق ﵀، فيما تجشمه من قوة حشده، وضمه شعاع ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله. فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه٣ موضع صاحبه فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته. وقد قال أبو بكر: "من عرف أنس ومن جهل استوحش " وإذا قام الشاهد والدليل وضح المنهج والسبيل.
وبعد فقد ترى ما قدمنا في هذا أنفًا٤ وفيه كاف من غيره؛ علي أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل، فالعذر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد من غير تقليب لشيء من حروفه فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه ولامه أسهل والمعذرة فيه أوضح.
وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته وتركت الضجر وتحاميته، لم تكد تعدم قرب بعض من بعض وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله.
_________
١ الشرح: الضرب، يقال، هما شرج واحد وعلى شرج واحد أي ضرب واحد. وفي المطبوعة والأصول: "شرح" ولا معنى له هنا.
٢ أي عدوه مسرفا، وهو كذلك بالسين في أ. وفي المطبوعة: "استشرفوا" ولا معنى له. وانظر في استشراف النحويين للزجاج في طرده الاشتقاق ترجمته في معجم الأدباء ١٤٤/ ١ طبعة الحلبي.
٣ أحناء الأمور: أطرافها ونواحيها، واحدها حنو كعلم، وأحناء الأصل اللغوي: تصاريفه، فإن كل تصريف طرف له وناحية منه وأظهر من هذا أن أحناء الأصل اللغوي حروفه.
٤ أنفا كعنق أي لم يسبق به، من قولهم: روضة أنف: لم ترع، وقد ضبط في المطبوعة وبعض الأصول: "آنفا"، وهذا غير مناسب.
1 / 13
وأما "ك ل م " فهذه أيضًا حالها، وذلك أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة، وهي: "ك ل م " "ك م ل " "ل ك م " "م ك ل " "م ل ك "، وأهملت١ منه٢ "ل م ك "، فلم تأت في ثبت.
فمن ذلك الأصل الأول "ك ل م " منه الكلم للجرح. وذلك للشدة التي فيه وقالوا في قول الله سبحانه: ﴿دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ قولين: أحدهما من الكَلام والآخر من الكِلام أي تجرحهم وتأكلهم وقالوا: الكُلام: ما غلظ من الأرض وذلك لشدته وقوته وقالوا: رجل كليم أي مجروح وجريح قال:
عليها الشيخ كالأسد الكليم٣
ويجوز الكليم بالجر والرفع، فالرفع على قولك: عليها الشيخ الكليم كالأسد والجر على قولك: عليها الشيخ كالأسد "الكليم"٤، إذا جرح فحمي أنفًا وغضب فلا يقوم له شيء، كما قال:
_________
١ كأنه لم يصح عنده ما رواه المفضل: أن التلمك تحرك اللحيين بالكلام أو الطعام، وقالوا: ما ذقت لماكا أي شيئًا. وانظر اللسان.
٢ مقتضى السياق أن يقول: "منها" وهو يعود على "ك ل م" باعتبارها مادة وقد راعى في التذكير أنها أصل.
٣ هذا عجز بيت للكلحية اليربوعي يصف فرسه العرادة. وصدره:
هي الفرس التي كرت عليهم
وقبله مطلع القصيدة وهو:
تسائلني بنو جشم بن بكر ... أغراء العرادة أم بهيم
ويتبين هذا أن القصيدة مرفوعة الروي، فتجويز الجر في الكليم من أبي الفتح لأنه لم يطلع على عمود القصيدة. وانظرها في المفضليات.
٤ زيادة من ش ومن اللسان، خلت منها سائر الأصول.
1 / 14
كأن محربا من أسد ترج ... ينازلهم لنابيه قبيب١
ومنه الكلام وذلك أنه سبب لكل شر "وشدة"٢ في أكثر الأمر؛ ألا ترى إلى قول٣ رسول الله ﷺ: "من كفي مئونة لقلقه وقبقبه وذبذبه دخل الجنة"، فاللقلق: اللسان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج. ومنه قول٤ أبي بكر ﵁ في لسانه: "هذا أوردني الموارد".
وقال:
وجرح اللسان كجرح اليد٥
وقال طرفة:
فإن القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر٦
_________
١ قائله أبو ذؤيب الهذلي. والمحرب: المغضب، وترج: جبل بالحجاز كثير الأسد، وقيل قرية بين مكة واليمن مأسدة، وقبيب: تصويت وقعقعة، وهذا من قصيدة يرثي بها حبيبا الهذلي. وانظر ديوان الهذليين ٩٨/ ١ طبعة الدار.
٢ زيادة من ج.
٣ رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بلفظ: "من وقي شر لقلقه ... "، وانظر الجامع الصغير في حرف الميم.
٤ رواه مالك وبن أبي الدنيا والبيهقي. انظر الترغيب والترهيب في "باب الترغيب في الصمت إلا عن خير، والترهيب من كثرة الكلام".
٥ قبله -وفيه مطلع القصيدة:
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلى ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ... له يؤثر عني يد المسند
وهذه القصيدة يختلف الرواة فيها فينسبها بعضهم إلى امرئ القيس بن حجر وهي في ديوانه، وينسبها آخرون إلى امرئ القيس بن عابس، وانظر معاهد التنصيص.
٦ رواية ديوانه طبعة فازان ص٥: "رأيت القوافي".
1 / 15
وامتثله الأخطل وأبر عليه، فقال:
حتى اتقوني وهم مني على حذر ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر١
وجاء به الطائي٢ الصغير، فقال:
عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المنكعر
وهو باب واسع.
فلما كان الكلام أكثره إلى الشر، اشتق له من هذا الموضع. فهذا أصل.
الثاني "ك م ل " من ذلك كمَل الشيء وكمُل وكمِل فهو كامل وكميل. وعليه بقية تصرفه. والتقاؤهما أن الشيء إذا تم وكمل كان حينئذ أقوى وأشد منه إذا كان ناقصًا غير كامل.
الثالث "ل ك م " منه اللكم إذا وجأت الرجل ونحوه، ولا شك في شدة ما هذه سبيله؛ أنشد الأصمعي:
_________
١ من قصيدته الطويلة التي يمدح فيها بني أمية، ومطلعها:
خف القطين فراجوا منك وابتكروا ... وأزعجتهم نوى في صرفها غِر
وقبل البيت من المن على بني أمية بهجو من لم يكن من حزبهم من الأنصار:
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معد وكانوا طالما هذروا
ورواية الديوان بدل "اتقوني": "استكانوا" وانظر الديوان ١٠٥ طبعة بيروت.
٢ هو أبو عبادة البحتري. والطائي الكبير هو أبو تمام. والبيت من قصيدة في إبراهيم بن الحسن بن سهل، وكان قد اشترى غلام البحتري نسيمًا ثم رده إليه، وانظر الديوان ١٨١.
1 / 16
كان صوت جرعها تساجل ... هاتيك هاتا حتنى تكايل١
لدم العجى تلكمها الجنادل
وقال:
وخفان لكامان للقلع الكبد٢
الرابع "م ك ل " منه بئر مكول، إذا قل ماؤها، قال القطامي:
كأنها قلب عادية مكل٣
والتقاؤهما أن البئر موضوعة الأمر على جمتها بالماء، فإذا قل ماؤها٤ كره موردها، وجفا جانبها. وتلك شدة ظاهرة.
_________
١ في لسان العرب: ضرعها تشاجل، "حتنى" أي مستوية، فعلى من الحتن، وهو المثل والنظير، ولدم العجى: ضربها، والعجى: أعصاب قوائم الإبل والخيل. وعلى رواية اللسان يصف صوت ضرع الإبل وقت الحلب، وقوله: تساجل أي تتبارى، وكذلك تكايل، وأصل المكايلة المباراة في السير. يقول: كأن صوت ضرعها حين تباري هذه تلك وهن متقاربات أو متماثلات صوت ضرب قوائم الإبل حين تلكمها الجنادل. وقد ورد وصف الضرع وقت الحلب في قوله:
كأن صوت شخبها المحتان ... تحت الصقيع جرش أفعوان
فأما على ما هنا فهو وصف لجرعها حين تشرب.
٢ صدره:
ستأتيك منها إن عمرت عصابة
وقائل هذا لص يهزأ بمسروقه، والقلع: الحجارة الضخمة، والكبد جمع أكبد وكبداء من الكبد وهو عظم الوسط. وانظر اللسان في "لكم".
٣ هذا عجز بيت من قصيدة له مطلعها:
إنا محبوك وسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
وصدره:
لراغب الطرف منقوبا محاجرها
وقبله في وصف الإبل:
خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما أغرورق المقل
فقوله: كأنها قلب يريد محاجر العين يصفها بغثور العين وسعة موضعها، والمحاجر جمع محجر، وهو ما دار بالعين، والقلب جمع قليب وهو البئر، والعادية: القديمة منسوبة إلى عاد، والمكل جمع مكول. وانظر جمهرة العرب للقرشي، وديوان القطامي المطبوع في ليدن.
٤ جمة البئر: ما اجتمع من مائها وارتفع.
1 / 17
الخامس "م ل ك " من ذلك ملكت العجين، إذا أنعمت عجنه فاشتد وقوي. ومنه ملك الإنسان ألا تراهم يقولون: قد اشتملت عليه يدي، وذلك قوة وقدرة من المالك على ملكه ومنه الملك، لما يعطى١ صاحبه من القوة والغلبة، وأملكت الجارية؛ لأن يد بعلها تقتدر عليها. فكذلك بقية الباب كله.
فهذه أحكام هذين الأصلين على تصرفهما وتقلب حروفهما.
فهذا أمر قدمناه أمام القول على الفرق بين الكلام والقول؛ ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، ويعجب من وسيع مذاهبها، وبديع ما أمد به واضعها ومبتدئها. وهذا أوان القول على الفصل.
أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه. وهو الذي٢ يسميه النحويين الجمل، نحو زيد أخوك، وقام محمد وضرب سعيد، وفي الدار أبوك، وصه، ومه، ورويد، وحاء وعاء في الأصوات، وحس، ولب٣، وأف، وأوه، فكل لفظ استقل بنفسه، وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام.
وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان، تامًّا كان أو ناقصًا. فالتام هو المفيد، أعني الجملة وما كان في معناها، من نحو صهٍ وإيهٍ. والناقص ما كان بضد ذلك، نحو زيد، ومحمد، وإن، وكان أخوك، إذا كانت الزمانية لا الحدثية ٤. فكل كلام قول، وليس كل قول كلامًا. هذا أصله. ثم يتسع فيه؛ فيوضع
_________
١ كذا في ب، ش. وفي أ: "يعطيه" وفي ج: "أعطى".
٢ نسخة بحذف "وهو".
٣ لب: في معنى لبيك في لغة بعض العرب، وهو في هذه الحالة يجري مجرى أمس وغاق. انظر اللسان.
٤ يريد بالزمانية الناقصة، وبالحدثية التامة.
1 / 18
القول على الاعتقادات والآراء؛ وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك ونحو ذلك، أي يعتقد ما كانا يريانه، ويقولان به، لا أنه يحكي لفظهما عينه، من غير تغيير لشيء من حروفه؛ ألا ترى أنك لو سألت رجلًا عن علة رفع زيد، من نحو قولنا: زيد قام أخوه فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره١ لقلت: هذا قول الكوفيين، أي هذا رأي هؤلاء، وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقول: كلام البصريين، ولا كلام الكوفيين، إلا أن تضع الكلام موضع القول، متجوزًا بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائدًا من بعده، أو ارتفع لأن عائدًا عاد عليه أو لعود ما عاد من ذكره، أو لأن ذكره أعيد عليه أو لأن ذكرًا له عاد من بعده، أو نحو ذلك، لقلت في جميعه: هذا قول الكوفيين، ولم تحفل باختلاف ألفاظه؛ لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبي الحسن في هذه المسئلة قول حسن، أو قول قبيح، وهو كذا، غير أني لا أضبط كلامه بعينه.
ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله، ولا يقال: القرآن قول الله؛ وذلك أن هذا موضع ضيق متحجر، لا يمكن تحريفه، ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتًا تامة مفيدة، وعدل به عن القول الذي قد يكون أصواتًا غير مفيدة، وآراء معتقدة. قال سيبويه ٢: " واعلم أن "قلت " في كلام العرب إنما وقعت على أن
_________
١ يراد بالذكر الضمير العائد على المبتدأ، كأنه سبب في تذكره واستحضاره. وما ذكر من مذهب الكوفيين رأي لهم، ومنهم من يرى أن المبتدأ والخبر يترافعان في نحو: زيد منطلق. وانظرالإنصاف ٢١ وشرح الرضى على الكافية ٨٨/ ١.
٢ انظر الكتاب ص٦٢ ج١.
1 / 19
يحكى بها، وإنما يحكى بعد القول ما كان كلامًا لا قولًا". ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقر في النفوس، وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال في التمثيل: "نحو قلت زيد منطلق، ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق" فتمثيله بهذا يعلم منه أن الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائمًا برأسه مستقلًا معناه وأن القول عنده بخلاف ذلك إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدم الفصل بينهما ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلة بأنفسها الغانية عن غيرها وأن القول لا يستحق هذه الصفة من حيث كانت الكلمة الواحدة قولًا وإن لم تكن كلامًا ومن حيث كان الاعتقاد والرأي قولًا وإن لم يكن كلامًا. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلامًا فإن قلت شارطًا: إن قام زيد، فزدت عليه "إن " رجع بالزيادة إلى النقصان فصار قولًا لا كلامًا ألا تراه ناقصًا ومنتظرًا للتمام بجواب الشرط. وكذلك لو قلت في حكاية القسم: حلفت بالله أي كان قسمي هذا لكان كلامًا لكونه مستقلًا ولو أردت به صريح القسم لكان قولًا من حيث كان ناقصًا لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه.
فأما تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات والآراء قولًا؛ فلأن الاعتقاد يخفى، فلا يعرف إلا بالقول، أو بما يقوم مقام القول: من شاهد الحال فلما كانت لا تظهر إلا بالقول سميت قولًا إذ كانت سببًا له، وكان القول دليلًا عليها كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابسًا له. ومثله في الملابسة قول الله سبحانه: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ ومعناه -والله أعلم- أسباب الموت؛
1 / 20
إذ لو جاءه الموت نفسه لمات به لا محالة. ومنه تسمية المزادة١ الراوية١ والنجو٢ نفسه الغائط، وهو كثير.
فإن قيل: فكيف عبروا عن الاعتقادات والآراء بالقول، ولم يعبروا عنها بالكلام، ولو سووا بينهما أو قلبوا الاستعمال، كان ماذا؟ ٣.
فالجواب أنهم إنما فعلوا ذلك من حيث كان القول بالاعتقاد أشبه منه بالكلام وذلك أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره، وهو العبارة عنه كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره ألا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله؛ لأنه إنما وضع على أن يفاد معناه مقترنًا بما يسند إليه من الفاعل، وقام هذه نفسها قول، وهي ناقصة محتاجة إلى الفاعل كاحتياج الاعتقاد إلى العبارة عنه. فلما اشتبها من هنا عبر عن أحدهما بصاحبه. وليس كذلك الكلام؛ لأنه وضع على الاستقلال، والاستغناء عما سواه. والقول قد يكون من الفقر٤ إلى غيره على ما قدمناه فكان إلى الاعتقاد المحتاج إلى البيان أقرب وبأن يعبر به عنه أليق. فاعرف ذلك.
_________
١ المزادة: وعاء الماء كالقربة، والراوية في الأصل: البعير يستقى عليه ويحمل المزادة، وتقال الراوية للمزادة نفمها لأن الراوية -وهو البعير- يحملها، فكانت بسبب منه.
٢ النجو: البراز الخارج من الدبر. والغائط في الأصل: المنخفض من الأرض، وكانت العادة عندهم قضاء الحاجة في الغائط، إذ هو أستر لصاحبها، فسمى النجو بالغائط لهذه الملابسة.
٣ ترى أنه أخرج "ماذا" عن الصدر؛ إذ أعمل فيها "كان" وهذا لا شيء فيه. وكلام العرب على ذلك. وقد ذكر ابن مالك هذا في توضيحه الموضوع على مشكلات الجامع الصحيح، وقد طبع في الهند، واستشهد على هذا الحكم بقول عائشة ﵂ في حديث الإفك: أقول ماذا؟ أفعل ماذا؟ وانظر حاشية الشيخ يس على التصريح في مبحث الموصول.
٤ في عبارة اللسان: "المفتقر".
1 / 21