Kharitat Macrifa
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
وبرغم صحة هذه العبارة، فإنها تعطي انطباعا متفائلا تفاؤلا مضللا عن حال ذلك التعليم. ففي هذه المرحلة، كانت مجموعة النصوص الطبية عبارة عن صورة باهتة، من ناحية الجودة وكذلك الكم، للثروة الهائلة من النظريات والمحاورات التي سادت في العالم القديم. كان الصخب المذهل من الآراء والإنجازات الذي اتسم به البحث الطبي الهلينستي قد تبدل متراجعا إلى هيئة مختزلة جامدة، أقحمت بلا هوادة في إطار المعتقد المسيحي. فتحورت كتابات جالينوس متخذة شكل مذهب «الجالينوسية»؛ مما قضى على كل مدرسة طبية بديلة وأعطى أفضلية لتأويل النشرات الجالينوسية على أي شيء آخر. كان لهذا التركيز على الجانب النظري أثر مؤسف تمثل في حجب الجوانب الأكثر إبداعا وفائدة لإنجازات الطبيب العظيم؛ كوسائله، وملاحظته، وأسلوبه التجريبي، وبحثه العملي (مثل التشريح، على سبيل المثال) التي جعلته يقطع شوطا كبيرا جدا على درب التقدم العلمي. وكانت النتيجة أن النقاش الفكري، والبحث المفصل وأي نوع من التقدم الطبي في الغرب قد ظل على حاله لقرون عديدة. قدم أجنيلوس رافينا وزملاؤه إسهامات مهمة في سبيل الحفاظ على المعرفة الطبية، ولكن ينبغي النظر إلى إنجازاتهم في سياقها.
ربما ازدهرت رافينا في أوائل العصور الوسطى، ولكنها كانت استثناء. فقد كان الواقع الأشمل يتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار. فمثل جانب كبير من جنوب إيطاليا، كانت مدينة ساليرنو بيدقا في الحروب بين القوط الشرقيين والبيزنطيين في القرنين الخامس والسادس، وعندما جاء اللومبارديون في القرن السابع، عانت المدينة من الطاعون والمجاعة. في عام 774، غزا شارلمان مملكة اللومبارديين وخلع ملكهم. من هذه اللحظة، بدأت حظوظ مدينة ساليرنو في التحسن. فبوصفها المدينة الثانية في دوقية بينيفنتو، حصنت المدينة في أواخر القرن الثامن وأصبحت عاصمة النصف الغربي من الدوقية. امتدت أسوار المدينة لتحيط بالقصر الجديد ومنطقة سكنية ضخمة بها منازل وحقول وبساتين، بينما وفرت قلعة دفاعية خلف المدينة، على جبل مونت ستيلا مركز مراقبة حيويا وملجأ في أوقات الهجوم. شجع ملاك الأراضي المستأجرين لديهم على زراعة محاصيل طويلة الأمد، مثل أشجار الكروم والبندق والكستناء؛ التي وفرت النبيذ والأخشاب الصلبة الثمينة للتجارة واللحاء للدباغة ودقيق الكستناء لتحويله إلى خبز أو عصيدة من الدقيق. من الناحيتين الثقافية واللغوية، استمرت مدينة ساليرنو في امتلاك صلات مع الإمبراطورية البيزنطية الناطقة باليونانية، ليس فقط عبر التجارة، وإنما أيضا عبر الأديرة الأرثوذكسية التي كانت مكتباتها مقرا للكتب المرسلة من القسطنطينية، ومصدرا محتملا لبعض النصوص الطبية التي شقت طريقها إلى المدرسة الطبية. إضافة إلى هذا، تشارك العرب الذين كانوا يعيشون في صقلية وجنوب إيطاليا الأفكار والوسائل الطبية مع جيرانهم المسيحيين.
شكل 6-1: مشهد لمدينة ساليرنو يعود للقرن التاسع عشر.
نتيجة لذلك، نشأ وتطور تقليد من البحث العلمي الطبي مواكبا الثراء والنجاح بوجه عام لمدينة كانت، بحلول عام 900، المدينة الأهم والأكثر ازدهارا في جنوب إيطاليا قاطبة. كانت الصلات الوثيقة مع مدينة أمالفي، أول قوة بحرية أوروبية عظيمة منذ العصور القديمة، قد جلبت الثراء لهذه المنطقة من الساحل الإيطالي. سافر التجار الأمالفيون في طول منطقة البحر المتوسط وعرضها، واشتروا وباعوا البضائع؛ إذ إن صلاتهم المميزة مع بيزنطة والبلدان العربية، وبخاصة مصر، جعلتهم مستوردين رئيسيين للسلع الكمالية من الشرق، وموردين للخشب والكتان والمنتجات الزراعية إلى شمال أفريقيا. كان ميناء أمالفي نفسه عبارة عن ميناء صغير تفصله عن بقية البلاد جبال عالية شديدة الانحدار كثيفة الغابات؛ لذا لم يكن يستورد مباشرة إلا أثمن البضائع، مثل المنسوجات النادرة والجواهر والذهب. وبحسب الكاتب والرحالة بنيامين التطيلي، الذي زار المنطقة في القرن الثاني عشر، كان الأمالفيون «تجارا انخرطوا في التجارة، ولا يزرعون ولا يحصدون؛ لأنهم يسكنون فوق تلال عالية وصخور شاهقة، وإنما يشترون كل شيء مقابل المال».
6
مثل أولاد عمومتهم الفينيسيين في الشمال، دفع موطن الأمالفيين ذو الطبيعة الجبلية الوعرة سكانه إلى أن يكونوا واسعي الخيال، وإلى أن يتطلعوا إلى الخارج نحو البحر لتحقيق الثراء.
3
نتيجة لذلك، أسس هؤلاء القوم المغامرون جاليات في كل ميناء رئيسي من روما إلى القسطنطينية، وفي ذلك دير على جبل آثوس ومستوطنات داخل مدينة بيت المقدس المقدسة، قبل عقود من مجيء أول الصليبيين في عام 1095. كان القرب الشديد لساليرنو من أمالفي، ومرفؤها الطبيعي الواسع وطرق الربط البري مع بقية إيطاليا بمثابة ضمانة لها بأنها أهم مركز للتجارة الأمالفية؛ فازدهرت كلتا المدينتين نتيجة للأرباح. وكما أورد الإدريسي، العالم المسلم الذي عاش في القرن الثاني عشر: كانت ساليرنو «مدينة رائعة، ذات أسواق عامرة وبها كل أصناف البضائع، وخاصة القمح وغير ذلك من الحبوب».
7
من كل أنواع البضائع التي يجري المتاجرة فيها ونقلها، كانت التوابل من أكثرها ربحا، وكانت من أكثرها أهمية فيما يتعلق بهذا السياق. كانت مجموعة كبيرة من الجذور وثمار التوت والمستخلصات النباتية؛ كالفلفل، والزنجبيل، والقرنفل، والزعفران، والحبهان تستورد من بلاد بعيدة. بالطبع، كانت هذه التوابل تستخدم في الطبخ، ولكنها كانت تستخدم أيضا في إعداد العلاجات الدوائية. في ذلك الوقت، كان الطب الساليرني يعتمد في المقام الأول على العلاج العملي للمرضى، وليس على الخبرة النظرية. وكانت الصيدلة مجالا مهما من مجالات الطب الساليرني، لا سيما أنه كان بمقدور الممارسين صنع العقاقير ودراستها باستخدام النباتات المحلية وكذلك الأجنبية التي كان يوفرها التجار الأمالفيون؛ مما كان يزيد من ذخيرتهم من العلاجات. استخدم الممارسون وصفات من كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية»، الذي كانت تتداول منه نسخ في بينيفنتو بأشكال متنوعة منذ العصور القديمة، ويكمله وصفات محلية أخرى أضيفت عبر السنين. استخدم هذه المجموعة من العلاجات كل أنواع الممارسين الطبيين، ومما لا شك فيه أن الأطباء في ساليرنو استخدموها عندما كانوا يعالجون المرضى الكثيرين الذين كانوا يصلون إلى هناك بحثا عن العلاج والمساعدة.
Unknown page