وما عسى أن يكون تأثير هذه الأمور على جهان يا ترى؟ أولا يمكن أن تصده وتجافيه؟ بل ألا يجعلها من أخصامه؟
تأمل الجنرال مليا بهذا الأمر، والحق أنه لم ينو شرا للباشا، ولكن الغيظ زين له هذه الطريقة، فهو لا يطلب حياة غريمه، ولكنه يحب إذلاله، وكسر شوكته، ثم يحفظه تحت أمره رهنا لجهان، فيجعله لها هدية الخطبة، بل هدية العرس.
اعتمد الجنرال فون والنستين على خطته المنكرة الذميمة كما يعتمد التركي على معونة الله، بل معونة الشيطان، فقال في نفسه رغم إرادته: «سأتظاهر بالدفاع عن أبيها، وأنقذه من مخالب أعدائه، ومن مكائد أبناء وطنه.» ومع أن رضا باشا وابنته وحدهما علما بالفضيحة التي نالها الجنرال في منزلهما، فهما على الأقل سيجلان عمله، ويقدران شرف النفس الألمانية قدرها. «أجل هذه سانحة سأظهر فيها بما عندي من المزايا الشريفة.»
قال هذا مساء ذلك اليوم العصيب متمددا على الديوان، مشعلا سيكاره الكبير، ثم قال: «نعم، إن الفرص لتأتي طوع إرادة الألماني، فيظهر فيها لعالم أعمى أصم مروءته الشماء، وما يكنه صدره من إباءة النفس وعزتها، وإنما هذه فرصتي، خادمة قصدي، سأنقذ رضا باشا من الموت، فيصبح وابنته في ذمتي، وتحت جميلي، إن هؤلاء الأتراك ...»
قال هذا وانقطع عن الكلام فجأة، والقارئ اللبيب يدرك ما لم يفه به من الكلام إذا تصور حالة الجنرال النفسية التي كان فيها، فإن الاضطراب الداخلي الذي كان سائدا في تلك الساعة لمما يدفعه إلى شر الإساءة «بهؤلاء الأتراك» لو لم يقاطعه الياور إذ ظهر واقفا في الباب: شكري بك يا صاحب السعادة. - وما شأنه في مثل هذه الساعة؟ - قال إنه قادم لأمر خطير.
تململ الجنرال وتردد قليلا، ثم قال: حسن، دعه يدخل.
أدى شكري بك واجب السلام في الباب بشيء من اللجاجة، ثم تقدم وعلى وجهه آثار الاضطراب إلى مقام الجنرال الذي ظل جالسا على الديوان. - ماذا جرى يا حضرة القولغاسي؟
فدفع شكري بك إلى يد الجنرال ورقة إحضار تلقاها من المجلس العسكري. - وما هذا؟ ألعلك نسيت أني لا أقرأ التركية؟
فاستعادها شكري بك، وشرح له مضمونها. - ولماذا أتيت إلي بها؟ - لأن لي رجاء عظيما بكرم أخلاقك. - لعلك مبالغ بما ترجو. - ألجأ إلى شرفك وعدلك. - أنت مذنب، وذنبك أنك عصيت الأوامر العسكرية، وشأنك الآن وأولي الأمر. - أنت أحدهم أيها الجنرال. - لا أتداخل في صغائر الأمور. - ليست مسألتي من صغائر الأمور أيها الجنرال، بل هي مما يهمك. - يلوح لي أنك عالم بشئوني أكثر مني.
قال هذا الجنرال ونهض ماشيا نحو الطاولة في منتصف القاعة، أما شكري بك فأجابه: نعم بعض شئونك لا كلها. - وما هذه الجسارة؟ - سامحني إذا كنت جسورا، ولا تكلف نفسك عناء برن الجرس أنا ذاهب عنك إذا شئت، ولكني أخالك تؤثر استماع حديثي، فلدي شواهد على مكيدة مدبرة لاغتيالك.
Unknown page