فقال أحمد راشد: الظاهر أنك تجهل حقيقة روسيا، روسيا الاشتراكية غير روسيا القيصرية، الشعب الاشتراكي كتلة من الصلب والإيمان والعزيمة، وهو ربما تقهقر ريثما يأخذ أنفاسه، ولكنه لن يلقي السلاح أبدا، ولن يسلم لدواعي الهزيمة. - والمخزن رقم 13؟!
فقال المعلم نونو وهو يفرك كفيه: هذا مخزن الأقراص التي تريدها؟
وسأله أحمد عاكف: لماذا لا يستعمل هذا المخزن إن صح ما يقال عنه؟ - رحمة بالإنسانية، الفوهرر لن يلجأ إلى استعمال مخزنه المخيف إلا إذا يئس من النصر بالفن الحربي المعتاد لا قدر الله!
وهنا صفق المعلم نونو للنادل وأمره أن يحضر الدومينو وهو يقول كمن ضاق صدره بالحديث: ملعون أبو هؤلاء وهؤلاء، فلا الألمان أمنا ولا الإنجليز أبونا، وليذهب بهم الشيطان جميعا إلى الجحيم.
وفصل المعلم نونو بصيحته بين السمر واللعب، وما لبث أحمد عاكف أن وجد نفسه - كالعادة - منفردا بالمحامي ، ورغب عن الحديث، وحدثته نفسه بالرجوع إلى البيت حيث توجد الآن نوال وأمها .. ولكن ما عسى أن يفعل هناك إلا أن يحبس نفسه في حجرته؟ .. وإنه لفي حديثه مع نفسه؛ إذ سمع المحامي يقول للغلام محمد بلهجة الأمر: يا محمد آن لك أن ترجع إلى البيت لتذاكر!
ونهض الغلام قائما، وقد علت شفتيه ابتسامة دلت على ارتباكه، وغادر المقهى وثبا! وعجب أحمد عاكف للهجة الشاب الآمرة وإذعان الغلام لها، فلم تكن لهجة الناصح ولا المتودد إلى الأب.
وأحس الشاب بعجب الرجل فقال: البنات يتفوقن على الصبيان بدرجة تدعو للدهشة، فشقيقة الغلام مجتهدة مطيعة، أما هو فيتجرع دروسه كالعلقم ويعتل على التهرب منها بالعلل!
كيف يتكلم الأعور عن الفتاة بهذه الحرية؟! وخطر له خاطر انقبض له صدره فسأله: هل تعطيهما دروسا خصوصية؟
فحني الشاب رأسه بالإيجاب! وامتعض الآخر امتعاضا شديدا جعله يتكلف الابتسام حتى لا يبدو على وجهه أثر من إحساسه، أيجلس هذا «الأعور» من فتاته مجلس الأستاذ المعلم؟ أيلقنها الدرس ويأمرها بحفظه وربما تصنع الجد فانتهرها؟ .. ألا ينفرد بها أحيانا؟ .. ألم ينظر إليها مرة بغير عين الأستاذ؟ وكيف تراه هي؟ .. إنه شاب مثقف ذو مستقبل حسن، ولن يضره شكله المتجهم ولا عينه الزجاجية، بل لن يعد - أي عاكف - خيرا منه بحال إن لم يعد أسوأ درجات - على الأقل في نظر العوام والأميين - فهل يولي الأدبار ولما تبدأ المعركة؟! وما كان في مثل هذه المعركة ممن تتملكهم روح الأقدام والمنافسة، وعلى العكس من ذلك تراه ينكمش ويسلم ساقيه للريح حياء واستكبارا وجبنا .. ولن يزال في كل شدة يلتمس التدلل الذي نشأ في أحضانه، فإذا أخطأه - ولا بد أن يخطئه - انطوى على نفسه دامي القلب مجترا آلامه مكيلا التهم لسوء الحظ الذي يلاحقه! ولو كان دور الذكر في الغزل أن يطارد لا أن يطارد، وأن يطلب لا أن يطلب لهان الأمر وطاب له الغرام، أما والأمر غير ذلك أو عكس ذلك، أما والأمر يستوجب رجولة ولباقة وجسارة فكيف يطمع في الظفر؟ ولو أن السجايا رهن مشيئة الإنسان لنزل عن ثقافته ومواهبه العقلية - المزعومة - لقاء أن يصير غزلا ماهرا ورجلا جذابا! ولكن هيهات أن يبلغ ما يشاء، وليس أمامه إلا أن يحتقر الغزل ويمقت المرأة ويستمرئ العزلة الوحشية!
وتجنب أن يشتبك في حديث مع الشاب البغيض، وتصنع الإنصات للراديو ليصرفه عن محادثته، فمضى الوقت وهما صامتان، والسكون قائم إلا أن يمزقه احتداد سليمان بك عتة إذا استشاره سيد عارف، وأوردته أفكاره المحمومة - في صمته - مناهل سامة استقى منها خياله المحزون، فاستسلم لأماني شيطانية مرعبة، تمنى في صمته غارة جنونية تقذف القاهرة بالحمم فتدك مبانيها وتهلك بنيها فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيان لا غير، هو وهي! هنالك تصفو له بلا خوف ولا يأس ولا غيرة ولا جهد! .. وتمثلت لعينيه المظلمتين القاهرة المهدمة المحطمة، والشخصان الشريدان، يفزع أحدهما إلى الآخر لائذا بجناحه ساكنا إلى ذراعيه، والآخر سعيد - على ما يكتنفه من الخراب - يصاحبه متلذذا بانفراده به، انبعثت هذه الأمنية الغريبة من صدره وهو يفور بشعور طاغ بالاضطهاد والقهر والعذاب.
Unknown page