فابتسم أحمد راشد ابتسامته الغامضة، وكأن لا يحفظ الشعر ويحتقر الاستشهاد به فتساءل في رفق: أأنت يا أستاذ عاكف من الذين يستشهدون بالشعر؟
فتساءل عاكف بإنكار: وماذا ترى في ذلك؟! - لا شيء البتة إلا أنني أعلم أن الناس عادة لا يعدلون بالشعر القديم شعرا حديثا، مما يوجب أن يكثر استشهادهم - إذا أرادوا أن يستشهدوا بشعر - بالقديم، وأنا أكره النظر إلى الماضي! - لا أكاد أفهم. - أريد أن أقول إنني أكره الاستشهاد بالشعر لأنني أكره الرجوع إلى الماضي، أريد أن أعيش في الحال وللمستقبل وحسبي ما في عصرنا من حكماء هم أهل للإرشاد والتوجيه!
وكان أحمد عاكف على عكس صاحبه يحسب أن الماضي انطوى على العظمة الحقيقية، أو أنه لم يعرف غير بعض نماذج العظمة الماضية ولا يدري شيئا عن عظماء «عصرنا» فثارت ثائرته وقال منكرا: وفيم إنكار عظمة الغابرين وفيهم الأنبياء والرسل! - لعصرنا رسله كذلك!
وأوشك الرجل أن يعلن دهشته ولكنه كان أحرص من أن يبدي - في حديث - دهشته إلا إذا أوجب ذلك جهل محدثه - لا علمه طبعا - فتساءل في هدوء: ومن رسل العصر الحاضر؟! - أضرب مثلا بهذين العبقريين: فرويد وكارل ماركس!
وشعر بيد تضغط على عنقه فتكتم أنفاسه! بل شعر بجرح عميق في كرامته، لأنه لم يسمع قبل الآن بهذين الاسمين! وأضمر لصاحبه غضبا جنونيا، ولكن لم يسعه إظهار جهله فهز رأسه هزة العارف العالم وتساءل: أتراهما يضارعان العباقرة الأولين؟!
وكان سرور المحامي الشاب بعثوره على إنسان مثقف لا يعادله سرور فرغب في المناظرة رغبة قوية، وأدنى كرسيه إلى كرسي صاحبه حتى لم يعد يفصل بينهما شيء وقال بصوت لا يسمعه سواه: لقد هيأت فلسفة فرويد للفرد فرص النجاة من أمراض الحياة الجنسية التي تلعب في حياتنا الدور الجوهري. ونهج له كارل ماركس سبل التحرر من الشقاء الاجتماعي، أليس كذلك؟
وخفق فؤاد الكهل الحاقد الغاضب، ولم يدر هذه المرة كيف يعارض فضلا عن أن ينتصر، فراغ عن مواجهته إلى التحايل عليه فقال بهدوء وصدره يغلي: مهلا .. مهلا يا أستاذ، لقد كنا مثلك متحمسين، ولكن تقدم العمر ومداومة الفكر حقيقان بإلزام الإنسان حدا من الاعتدال.
فقال أحمد راشد بلهجة لم تخل من حدة: ولكني أحسن التفكير فيما أطلع عليه؟ - بغير شك إلا أنك شاب وستكتسب بالعمر حكمة حقيقية، ألم تسمعهم يقولون: «أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة»؟ - مثل قديم أيضا! - وحكيم! - لا حكمة في الماضي! - رباه! - لو وجدت في الماضي حكمة حقيقية لما صار ماضيا قط! - وديننا؟
فرفع الشاب حاجبيه دهشة، ولو استطاع عاكف أن يستشف ما وراء النظارة السوداء لرأى نظرة احتقار تورث الجنون. وغمغم الشاب: يا للسذاجة!
وكان عاكف قرأ فلسفة إخوان الصفاء الدينية فرغب أن يلخصها في كلمات لمحدثه البغيض ليدفع عن نفسه تهمة الأخذ برأي العوام في الدين من ناحية، وليغمض على صاحبه كما غمض عليه، فقال: إن في الدين ظاهرا حسيا للعوام وجوهرا عقليا للمفكرين، فهناك حقائق لا يضيق المثقف بالإيمان بها مثل الله والناموس الإلهي والعقل الفعال!
Unknown page