فعاد يقول: أنت خائف.
فغضبت، فقال: يجب على أي حال أن نلعب!
ووقفنا في المكان الذي ألف أن يلعب فيه، ومربعات الحجلة ما تزال مرسومة على سطح الأرض، وشيء جعلني أرفع رأسي، فرأيت زينب في النافذة، تطل بوجه غير باسم، وتلاقت عينانا ولكنها لم تبتسم، وحولت عني وجهها. تمنيت أن أجري إليها لأبكي بين يديها، وأقول لها إني حزين يا حبيبتي!
ولكن الصحاب كانوا كثيرين، كانوا عصابة تملأ الحارة، لكنهم ضاعوا من الذاكرة فلم يعد لهم وجود، ولم يعد من المهم أن أسأل عن مصائرهم، ولا أدري إن كنت ما أزال حيا في بعضهم، أم أنني ميت أكثر مما أتصور. على أي حال عشنا في الحارة حياة الحضور الكامل، وهي أقصى ما نستطيع أن نمارس من الخلود؛ حياة حاضرة تبدو عادة راسخة ممتدة ممتنعة عن التغيير أو الاضمحلال فضلا عن الزوال، ولم تخل من مقومات الحياة الجوهرية بين طرفي العبث والغيبيات. وامتلأت بالحب ولكني آمنت بأنه بلا ثمرة .. وعرفت الموت كفراق مروع فظيع لا يخفف من بلواه شيء، ولا الإيمان نفسه، ولم أشعر بما بين أبعاد دنياي من تناقضات، ولكنني عشت السرور بلا حدود ، كما عشت الحزن بلا عزاء. •••
وتثاءب.
ولفت الأنظار مرة أخرى بتثاؤبه.
وخلع النظارة الذهبية فجلاها ببفرتين ثم لبسها. وغامت السماء فحجبت شمس الظهيرة عن أرض الحارة، وتمتم صاحب القهوة: «لا إله إلا الله.» والرحلة، وإن تكن عبثا، إلا أنها أيقظت القلب دقائق، وقرر - فيما يشبه نشوة الانتصار - أن يزور الحي القديم من حين لآخر، ولكنه عندما غادر الحارة، ومضت به السيارة إلى المدينة، استيقظ من غفوته، من سطوة الماضي، وتذكر مواعيده، واسترد اهتماماته اليومية.
تحرر تماما، وتمتم: بعيد أن تتكرر.
وتثاءب للمرة الثانية، ثم تمتم مرة أخرى: النافذة لم تكد تتغير.
المسطول والقنبلة
Unknown page