وساد صمت واسترجع نفسه، لقد أيقن أنها لم تعرف شريكته، وكان هذا وحده كافيا أن يهدأ. - يا ليتك كنت دخلت. - تستطيع الآن أن تقول ما تشاء. - لو كنت دخلت لزالت كل الوساوس من ذهنك. - دري، نحمد الله أن علاقتنا لم تنكشف حتى الآن، وأنا طبعا كنت مقدرة أنها لا بد أن تنتهي، لا بد لنا الآن أن نرعى أولادنا. - لا أحب هذه العلاقة أن تنتهي بالصورة التي صنعتها. - تصور أنك قلت لي ما أعددته لتقوله طوال الليلة الماضية، وتصور أنني صدقته، ولكني مع هذا أريد أن أنهي هذه العلاقة، لقد استمرت أكثر مما يجب. - اسمعيني. - لا يجدي أن أسمعك، وأعتقد أنك أنت يجب أن تنهي كل علاقاتك الخارجية، مجرد نصيحة تستطيع أن تأخذ بها أو لا تأخذ. - ليس لي علاقات خارجية. - إن كان لك؟ - أنت غاضبة. - دري أرجوك، الموقف لا يحتمل أي إطالة. - لهذه الدرجة؟ - ليست هناك درجة، لقد كان ما رأيته أمس هاما جدا لكي أفيق، أنت لا تعرف، أو لعلك تعرف - لا أدري - ما دار في ذهني، هذا المعطف الكريه الذي رأيته، أشياء كثيرة طافت بذهني، أنا لن أتعرض لهذا مرة أخرى مهما تكن العلاقة بيننا هامة، لن أسمح لك ولا لنفسي أن أتعرض لهذا مرة أخرى. - لن تتعرض. - لا يكون هذا إلا بقطع علاقاتنا، وإذا تكلمت في الموضع مرة أخرى سأقطع المكالمة. - أمرك. - كيف سمحت لإلهام أن تساعد أسامة على السفر؟ - أسامة ليس صغيرا يا سهام. - إنه ابني. - هذا لا يجعله صغيرا. - أنا الذي وهبته الحياة. - لا يعني هذا أن تسترديها منه. - أتشجعه أنت أيضا. - ما الذي يجعلني أمنعه؟ - بنتك. - إنها زوجته. - أتسافر معه؟ - عندما يستقر ستسافر إليه. - إذن فقد دبرتم كل شيء. - أي بأس في ذلك؟ - أهذا تأثير إلهام عليك؟ - أنا مقتنع بهذا الرأي. - رغم ما تعرفه عن رغبتي! - لقد طلب مني أسامة أن أقنعك. - ولماذا اختارك أنت؟ - يعلم مكانتي عندك. - ولكن أنا لا مكانة لي عندك. - كيف تقولين هذا؟ - لو كانت لي مكانة عندك لمنعت أسامة من السفر. - سهام، اسمعي ما سأقوله لك، اسمعيه جيدا، أسامة سيسافر سواء وافقت أو اعترضت، ومن الخير لك أن تجعليه يسافر وهو ابنك بدلا من أن يسافر وهو لا يهمه أن يكون ابنك أو لا يكون. - أنا أعرف ابني وأعرف كيف أمنعه من السفر، ولا شأن لأحد. - افهميني. - لا أريد أن أفهم شيئا أو أسمع شيئا، مع السلامة.
حين ذهبت فريدة إلى شقة دري وجدته منتظرا في البهو، خلعت معطفها وجلست وهي تقول: ما لك؟ - ما لي؟ - منذ الأمس وأنت إنسان آخر. - تفكير معين يلح علي. - ما هو؟ - إنك قاربت سن الزواج. - عجيبة؟ - ما العجيبة؟ - لقد خطبني اليوم هشام زكي. - هشام زكي. - شاب في النادي . - ماذا يعمل؟ - متخرج من الهندسة هذا العام. - وما صلته بك؟ - أهي غيرة؟ - أريد أن أطمئن عليك. - ليست هناك صلة خاصة مجرد واحد من الشلة. - وماذا قلت له؟ - وهل تعقل أن أقول له شيئا قبل أن أسألك؟ - وأنت ما رأيك؟ - الزواج أمر لا بد منه على كل حال. - لا شك. - هو شاب لا بأس به. - أعطيني فرصة أسأل عنه. - وهو كذلك. - وأخبري سهام، أقصد والدتك، واطلبي إليها أن تجعلني أسأل عنه. - لماذا أطلب منها هذا؟ أليس من الطبيعي أن الذي يسأل عنه يكون أبي؟ - طبعا هذا ما كان يجب أن يحصل، إلا أن أباك لا يرى أحدا، ولا يذهب إلى النادي؛ فالطبيعي أن أسأل أنا، أقرب صديق للأسرة. - معقول. - إذن ستتزوجين. - لقد كنت تقدر هذا كما قلت لي. - المسألة تحتاج إلى إجراءات. - نعم. - وقد أعددت كل شيء. - هذا ما كنت أتوقعه. - ليس هذا غريبا على ذكائك. - موعدي مع الدكتور مجيد فؤاد باكر الساعة الثانية عشرة ظهرا. - هل سأتألم؟ - لا ألم مطلقا في ظرف ساعة تعودين عذراء كما كنت، وتذهبين إلى البيت كأن شيئا لم يحدث. - وهو كذلك.
12
إذن فتلك هي الحرية، إذن فهذا ما كنت أسعى له حياتي كلها، ولم أصل إليه إلا اليوم، كانت أمي ترد عني الحرية كلما تنسمت منها نسمة، كانت تذكرني دائما أنها ولدتني لتكون هي إرادتي ورغبتي وأملي وتحقيق هذا الأمل، فإن لم يكن أملي هو رغبتها عدلته وأصلحت من شأنه، حتى أصبح أنا جميعا رغبة من رغباتها، وأمنية من أمانيها، وهمسة من نفسها، وهاجسا من هواجسها. تخلصت اليوم من كل سيطرتها، بل تخلصت من مصر جميعا لأنشئ حياتي هنا، ويل نفسي من حب مصر! إنها هي التي لم أستطع التخلص منها؛ حنايا الذكريات، وخفقات الجنون، ونجاحي وفشلي، وحبي وبغضائي، ودمائي وأفكاري، وأمسي ويومي وغدي وغد أطفالي، كل عرق من عروقي معجون بترابها، أحبها كما هي وكما أشتهي أن تكون، بكل ما فيها من متاعب، وبكل ما أرجو لها من رفعة وسمو، أحب التليفون فيها لا يجيب ولا يبدأ حديثا، وشوارعها بما صارت إليه، وأتوبيسها مليئا بالبشر متهالكا، وقطارها وقد علاه الآدميون حتى لا يبين. وأحبها وقد زالت عنها آثار الحروب هذه وعادت مرة أخرى عروس الشرق ومنارته.
لقد استطاعت الحروب أن تخرب التليفونات فيها والشوارع والحافلات والقطارات، بل وحطمت مستوى التعليم أيضا، ولكن مصر هذه الخالدة تظل منارة الثقافة العربية لا ينازعها في ذلك منازع، ليطبعوا الكتب حيث شاءوا أن يطبعوا، وليترجموا من الأدب الغربي ما شاءوا أن يترجموا، وإنما ستظل الثقافة المصرية والفن المصري مصدر الثقافة والفن العربيين في المشرق أجمع.
حريتي من حب مصر لم أستطع نزعها من نفسي، وكيف لي بهذا؟ إن نزعت من نفسي ارتباطي بمصر سأنزع نفسي كلها لا أبقي منها شيئا، إنها تسيطر علي هنا أكثر مما تسيطر علي هناك، إن لهم شعورا نحوها عجيبا هنا، إنهم يكبرونها ينفقون عليها، يحبونها ويبغضون أبناءها؛ فقد خيل إليهم أننا نبحث عن المال عندهم، وما يتخيلون حق؛ فإن الحروب التي خضناها أنضبت جيوبنا من المال، ولكن لم تنضب رءوسنا من ثقافة السبعة آلاف عام، ولم تنضب تاريخنا من الجلال، ولم تنضب مستقبلنا من الأمل إن يكن مر بها زمان أحمق مأفون أجدب الخير منها، فإن هذا العهد لم يستطع أن يجدب تاريخها من الشموخ ومستقبلها من الأمل، من أنا حتى أحب مصر؟ ما أنا إلا طفل عابث على هامش الحياة تحرك أمي خطواتي بإطاعتي لها، أو بعصياني لرغباتها، ألهو فأحطم حياة البنات، أحب هذه وأتركها، وأتزوج تلك وأطلقها، وأنجب من زوجتي وقبل أن أرى الطفل أترك الأم! عابث أنا حقير، ولكنني لا أحس أنني شيء يستحق الوجود إلا حين أذكر أنني مصري، إنني أعبد بلدي من بعد الله.
إنها الحب الذي لا يخون، وإن طلبت الفداء فلنفسي تطلبه ولأولادي ولأهلي. وتقبلني غنيا وفقيرا، متعلما وجاهلا، كريما وحقيرا. تقبلني كما أنا، كما هيأني الله أن أكون.
إنها هي التي لم أستطع أن أحرر منها، وأنا أسعد الناس بعبوديتي لها، أما أمي فقد تحررت منها تماما، ولكن هل نلت حريتي حقا؟ ألا يستعبدني هنا صاحب المال؟ هراء! أنه يعطي مالا مقابل عمل، وأنا أتقاضى مالا مقابل جهد، ويوم أضيق به أستطيع أن أتركه لغيره، وتلك هي الحرية.
لقد أصبحت حرا، تحررت حتى من آثار أمي وطلقت عبير، طلقتها وهي حامل، لا أريدها، ولا أريد حتى أن أحب الطفل الذي أنجبته رغبات أمي.
خالتي إلهام كانت تريد طفلا، ما البأس أن تتولى شأن الطفل؟ فالطفل مني ومن ابنة زوجها، فما هو عنها ببعيد.
Unknown page