وبؤرة الأدب العربي اللامعة في وقتنا هي القاهرة، ولكن هناك بؤرا صغيرة أخرى في بغداد أو بيروت أو دمشق، وبعض هذه البؤر يمتاز بالتجدد أكثر من القاهرة؛ فإن بيروت تعالج مشكلات العالم بحرية فكرية ليس لها نظير في مصر، وكذلك تفعل أحيانا بغداد، أما دمشق فلا تزال تجعل همها الأول دراسة العرب القدماء والتزام التقاليد العربية.
وميزة بيروت أنها كانت منذ أكثر من ثمانين سنة مقر جامعتين عصريتين، هما الجامعة الفرنسية والجامعة الأمريكية، وهذا غير عشرات المدارس التبشيرية في المدن والقرى الصغيرة؛ لأن اللبنانيين لم يعارضوا التبشير، فانتفعوا بهذه المدارس وتعلموا العلوم العالية قبلنا، وقد مرت علينا سنوات كنا نجلب الأطباء للجيش المصري والموظفين للسودان من جامعتي بيروت، وبالطبع هناك أسباب أخرى لهذا العمل، ولكن مما لا شك فيه أن اللبنانيين انتفعوا كثيرا بمدارس المبشرين، وبهاتين الجامعتين، حتى يمكن أن نقول إن الأمية قد محيت من لبنان منذ أكثر من ثلاثين سنة في حين هي لا تزال متفشية بيننا.
والمدارس التبشيرية، على الرغم مما قد تحدث من مخالفة للعقائد، تخدم الأمة التي ترضى بتعليم أبنائها فيها، ونهضة الصين تعزى إلى حد عظيم إلى هذه المدارس، ولكن الهند لم تنتفع مع الأسف بهذه المدارس؛ لأن الحكومة المتسلطة أيام الإنجليز كانت تمنع المبشرين المسيحيين من تجاوز الشواطئ إلا على مسافة لا تزيد على خمسة أميال، ولست في حاجة هنا إلى إيضاح مسهب لهذا العمل؛ فإن المستعمرين الإنجليز كانوا يخشون المدارس التبشيرية لأنها تعلم وهم يطلبون الجهل.
وما فعلته حكومة الهند (الإنجليزية) من منع المبشرين، قد فعلناه نحن شعبا وحكومة، ولو أننا تسامحنا، كما فعل اللبنانيون، لكان في أنحاء بلادنا الآن نحو ألف مدرسة راقية ينفق عليها الأبرار من الغربيين وغيرهم؛ وعندئذ كنا نكون أمة متعلمة مئة في المئة مثل اللبنانيين، ولكنا آثرنا خطة الحكومة «الهندية» أي الإمبراطورية البريطانية على الخطة اللبنانية، وأصبحنا ونحن والهنود سواء في تفشي الأمية.
وسوريا - بعكس لبنان - رجعية التفكير لهذا السبب أيضا، ونحن نعرف في مصر أن الطبقة المستنيرة من الأمة هي تلك التي تعلم أفرادها في مدارس المبشرين الفرنسيين، وهم مع الأسف أفراد قلائل، ولكنهم يتصلون - عن طريق اللغة الفرنسية - بالعقل العام، ويدرون بالتطورات العالمية، ويقرءون الصحف والكتب الفرنسية، ويمتاز شبان اليهود واللبنانيين والإيطاليين واليونانيين في قطرنا بهذا التعلم الفرنسي في مدارس المبشرين الفرنسيين، وهم بالطبع لا يقرءون المؤلفات العربية، ولكن ثقافتهم عصرية، وهم يضعون أناملهم كل يوم على نبض العالم يعرفون حركاته وتطوراته ونزعاته.
على أن ما فقدناه توشك الجامعات العصرية بالقاهرة والإسكندرية وأسيوط على أن تعوضنا منه، فهنا دراسات عصرية جديدة هي الآن خميرة صغيرة. ولكنها مثل الخمائر ستربو وتتفشى في أنحاء البلاد، وتكون لنا ثقافة جديدة سوف تجعلنا نعيش بأذهاننا ونفوسنا في القرن العشرين.
وقد احتجت إلى هذا البيان، مع قلة قيمته في الإرشاد الشخصي للشاب، كي نعرف العوامل الخفية والجلية التي عملت في تأخير ثقافتنا العصرية.
وأدبنا العربي - لهذه الأسباب التي ذكرنا - يعجز عن ترقية الروح المصري، وما فيه من حياة إنما هو دبيب أو بصيص نرجو أن يكون نورا مشرقا، ونحن لا نزال في مشكلة لم تحل، وإنما نرجو حلها. ولباب هذه المشكلة أننا يجب - بالمدرسة والجامعة والكتاب - أن نربي جمهورا عصريا مستنيرا يستطيع أن يتفاعل مع المؤلف العصري ويطلبه.
الحضارة المصرية القديمة
هناك ثلاثة أسباب تحملنا على دراسة التاريخ المصري القديم، أولا أنه تاريخ مصر، ونحن مصريون نعيش في جو من العقائد والعادات التي تغلغلت في بيوتنا ومعابدنا، وتأثرت بها عواطفنا، والتي يرجع كثير منها إلى أيام الفراعنة، وقد يقال إن جميع هذه العقائد أو معظمها خرافي، ولكن للخرافة قيمتها في التطور الاجتماعي، ثم هناك كثير من الكلمات الفرعونية التي لا تزال حية في البيئة العائلية وبيئات الريف لا يصح لمثقف مصري أن يجهل أصلها.
Unknown page