إن قصيدة من شعر الحماسة تسحر العقول ولكنها لا تهديها، تأخذ بالقلوب ولكنها لا توجب الإيمان، إنها تنمي الإحساسات الشريفة بما تقدم من التذكارات الوطنية، ولكنها لا تسوي سبل السلوك، فما قصيدة حماسية بالتوراة ولا هي بالزاندافستا ولا بمنتراس البراهمة ولا بالقربان المثلث عند البوذيين، فالواقع أن الفلسفة كانت هي وحدها دين الهلين.
وما تنسب عظمة الفلسفة الإغريقية التي لا تزال تدهشنا ونتعلم منها بعد خمسة وعشرين قرنا إلا إلى استقلالها المطلق. ولو أنها كانت تحت وصاية ديانة حسنة النظام أفكانت تظهر قواعدها بهذه السهولة التي ظهرت بها؟ أو كانت تحيا تلك الحياة الطيبة القوية؟ أو كانت تلد للعالم تلك الملح من التآليف وتؤتي ذلك الثمر اللذيذ؟ من ذا الذي يعرف ذلك؟ لا شك في أن الجنس الهليني كان عجيب الاستعداد؛ فقد نجح في ميدان الفلسفة، كما نجح في ميادين الأعمال الأخرى، ولكن أما كانت تذبل هذه الخواص العجيبة لو أن العصارة التي تغذيها جرت في قنوات أخرى من قبل، وخصوصا في قنوات الديانة!
ولم يكن تاريخهم الخرافي إلا لعبا تلعب به الملكات، فكانت الخواص العليا للنفس في سعة من أن تتخذ لها نحوا جديا آخر وتبحث عن غذاء لها أغزر مادة وأدخل في باب الحق، بعيد علي أن أنكر نعم الديانات على الناس، وأرى أن من الخير أن تكون قد سبقت الفلسفة دائما، وعند جميع الشعوب، ولكني لا أستطيع أن أحجم عن القول بأنه إذا كانت ديانة الهلين أكثر جدية مما كانت عليه لأوشكت فلسفتهم وعلومهم أن تكون أقل في الجد مما كانت عليه بكثير، وتلك خسارة لا تعوض على الإغريق وعلينا أيضا؛ لأننا نحن أبناؤهم ومظهر استمرار حياتهم.
ولئن أنسب إلى آسيا الصغرى وتلك الجمهوريات الإغريقية الصغيرة التي كانت مقيمة على شواطئها كل المجد الطارف في اختراع الفلسفة والعلم والشعر والموسيقى وكثير من الفنون الأخرى، فإني لا أقصد إلى أن أغمط آتينا حقا من المجد المقطوع النظير؛ ذلك لأنه من آتينا خرج في زمن قدروس أهل بعض هذه المستعمرات التي جمعت بين النشاط والذكاء والشاعرية والحربية، وفي آتينا اجتمع اليونان. بل يمكن القول بأن آتينا أعطت من دمها ومن روحها تلك الجاليات التي لم تستطع أن تظلها تحت سمائها بعد أن أقاموا بها زمنا طويلا، ثم إن تلك المستعمرات لم تستطع أن تحفظ في أوطانها جراثيم للفلسفة التي تمخضت هي عنها، فإنه إذا كان طاليس بقي في ملطية فإن فيثاغورث قد هاجر من سموس إلى سيباريس وقروطون، وإكسينوفان ترك كولوفون إلى إيليا، فلما نفيت الفلسفة مؤقتا من إغريقا الكبرى بما فيها صقلية وجدت سلطانها الحقيقي في آتينا آخر مطافها، وجدته بسقراط وأفلاطون في عهد أنكساغوراس وبيريكليس وفيدياس وسوفكل.
على ذلك تكون آتينا قد حوت أسمى مظهر للذكاء الإغريقي، وتكون الأم المخصبة التي ولدت الملح من كل نوع؛ فإن الفلسفة لما اقتلعت مرتين رجعت إلى الأرض الأولى التي منها خرجت المستعمرات اليونانية لتؤتي فيها أجمل زهرها وأنضج ثمارها. ولم تكن الفلسفة في آسيا الصغرى إلا عارضا جاءت به المصائب السياسية، فأقامت فيها قليلا ولكن بعد أن انبعث نورها الساطع. فلما استقرت بآتينا مكثت بها أكثر من ألف سنة من عهد بيريكليس إلى عهد جستنيان، فهي معلمة روما وجدة الإسكندرية ومنافستها الجديرة دائما بالاحترام.
من أجل ذلك يظهر لنا أن آتينا ويونيا أو بلفظ واحد إغريقا كان لها على من عداها فضل وسؤدد لا يطاول، ومن أجل ذلك نضع منزلتها في سماء المجد في أوجها، لا يقاربها فيه ولا على مسافة كبرى تلك الأمم التي حاربتها ومزقتها، ولكنها لم تقهرها مع أنها تربى عليها في العدد ألف مرة، فمن ذا الذي يقام له وزن بجانب الإغريق في باب الشعر والفنون والعلم والفلسفة؟ لست أعني السيتيين ولا سائر تلك الشعوب الرحل في شماليها، ولكنما أعني الفرس والهنود، بل المصريين أيضا، ماذا عسى أن تكون القرون الأولى لولا الهلين؟ ما هي تلك المعارف الإنسانية التي ليس لهم فضل في أمرها؟
ولقد أراد مؤرخو الإنسانية، ومنهم هردر أن يتلمسوا أسباب هذا التفوق الخارق للعادة من ظروف وأوضاع كلها مادية كشكل أرضهم وحال جوهم وحاجات تجارتهم ... إلخ، ولكن مع أن تأثير هذه الظروف لا ينكر إلا أنها لا تستطيع أن تحل لنا مشاكل هذه النظرية الدقيقة ولا أن تفسر لنا سر هذا التفوق تفسيرا مقنعا؛ فإن شواطئ آسيا الصغرى وضفاف بحر إيجه وأطيقا، وبيلوبونيز وإغريقا الكبرى لم تتغير عن أصلها، ومع ذلك أين هي تلك الروح التي كانت تنعش الهلين في تلك العصور الخصيبة؟ ماذا صارت روح تلك الشعوب التي لم تتغير أوطانها المخصبة الجميلة منذ ذلك العهد إلى اليوم؛ فإن أخلافهم لا يعدون الآن شيئا فيما يتعلق بارتقاء المدارك الإنسانية؟
لا نكاد نجد لهذا السؤال جوابا ممكنا إلا الواقع نفسه، فإنا لنرى كيف كانت إغريقا فوق كل الأمم حتى بالبقايا القليلة التي وصلت إلينا من أعمالها، ولكن لماذا اصطفى هذا الشعب الصغير في زمن معين خلال قرون عديدة ليكون عنوان النور الأبدي الهادي لجميع الأمم فيما يتعلق بالمعقولات؟ ذلك سر من أسرار العناية الإلهية ليس لنا بالنفوذ في كنهه يدان، بل هو كسائر أسرار الله تنال إعجابنا ولا ينالها فهمنا.
إن الإغريق الذين لم يكن لهم على النوع الإنساني سعة النظر التي تقدمها لنا اليوم فلسفة التاريخ مدعمة بشتى الملاحظات، قد حاولوا مع ذلك أن يفسروا لأنفسهم أعجوبة عبقريتهم. وإني أوثر أيضا في هذا المقام أن أستجوبهم بدل أن أجيب عنهم في هذه المسألة، أولئك هم ثلاثة شهود عدول من عصر واحد تقريبا؛ وهم بقراط وأفلاطون وأرسطو، يشهد أحدهم باسم علم وظائف الأعضاء، والثاني باسم الفلسفة والوطنية، والثالث باسم السياسة، ولا بأس من أن نتخذ بجانب هؤلاء شاهدا على الشعر إيشيل الذي كان يقاتل في مرطون.
فمن كتاب بقراط إلى الأهوية والمياه والأماكن، ذلك الكتاب الذي يتخيل قارئه كأنما مدده فيما أتى به من النظريات هو العلم الحديث، استطرد فيه المؤلف بحكم ضرورة استيفاء موضوعه إلى المقارنة بين الجنسين والوطنين اللذين يعرفهما حق المعرفة؛ لأنه عاش فيهما فقال:
Unknown page