27
والحصر والملابس والأغطية والحبال. وذلك ما قرأناه آنفا عن تيوفراسط ونقله عنه بلاين بلا شك، وإن بردي مصر في كل الاستعمالات التي ذكرناها خير من كل بردي آخر؛ فإن البردي الذي ينبت في سوريا أو على شواطئ نهر الفرات بقرب بابل بعيد عليه أن يساوي البردي المصري، خصوصا في صنع الورق.
ولصنع الورق يقسم البردي إلى أشرطة رقيقة جدا وعريضة بقدر الممكن. وأحسن شريط منها هو شريط قلب النبات، ثم الذي يليه على هذا الترتيب. وبهذه الطبقات الداخلية وحدها كان يصنع ورق الكتب المقدسة، وسمي الورق من ثم باسم هييراتي، وبعد حين أعطي لأعلى درجة من الورق المنقى بالغسل اسم أغسطس، كما سميت الدرجة الثانية من الورق باسم ليفي امرأة أغسطس، وكان الهييراتي إذن في الدرجة الثالثة، وورق الدرجة الرابعة سمي أنفتياتري نسبة إلى المكان الذي كان يصنع فيه ، ومن أنواعه المتدركة إلى أسفل ورق سايس الذي يصنع من قراطه البردي ، ثم وراق الطينيوطيقي من مدينة قريبة من سايس ويباع بالوزن، ثم ورق الأنبوريتيك أو ورق المتجر، ولا يصلح إلا للظروف أو لف البضائع، وبعد هذه الأشرطة تأتي قشرة البردي، وهي أشبه ما تكون بقشرة الخيزران لا تصلح إلا لصنع الأحبال التي لها خاصة البقاء في الماء.
كل أنواع الورق كانت تصنع بطريقة واحدة ولا يكون الاختلاف إلا في مادة الورقة، ومتى أخذت الأشرطة بعناية تنشر على نحو خوان مندى بماء النيل؛ فإن هذا السائل الحامل للطمي يصلح كلزاق لتقوية الأشرطة وضمها بعضها إلى بعض. وعلى هذا الخوان الممال نوعا تلزق الأشرطة على طولها، وتقرض من نهايتها حتى تصير منتظمة ومتساوية في الطول، ثم يؤتى بأشرطة أخرى توضع بالعرض على شكل تعريش، ولوقاية الورق من التمزق كانوا يضعونه تحت المكبس فيحصلون منه على الورق الذي يعرضونه بعد ذلك للشمس ليجف، ثم يضعون هذه الأوراق بعضها فوق بعض لتكون منها فرائد الورق التي لا تتجاوز عدة الواحدة منها عشرين ورقة. وكان الورق مختلف العروض، وأحسن ما كان في عرض ثلاثة عشر إصبعا، والهييراتي لم يكد يتجاوز عرضه الأحد عشر، وقال فانيوس إن هذا الورق الهييراتي الذي اشتق اسمه من اسم ذلك الصانع الماهر الذي أبدعه لا يتجاوز العشرة. والورق المتجري كان في عرض ستة أصابع، وكان يمكنهم أيضا أن يصلوا الأوراق أطراف بعضها ببعض؛ ليحصلوا على ورق لا نهاية لطوله كما عندنا.
وكانوا يقدرون الورق كما نقدره نحن برقته ومتانته وبياضه وصقله. وقد اهتم الإمبراطور كلود بتحسين ورق أغسطس الذي كان يجده أرق مما يلزم وأكثر شفافية؛ فجعل منه ورقا جديدا بأن جعل السدى من أشرطة الدرجة الثانية واللحمة من أشرطة الدرجة الأولى، وبهذه الطريقة زيد في عرض الورق؛ إذ بلغ عرضه ذراعا في الفرخ الكبير، وكانوا يفضلون ورق كلود في الكتب ويستعملون ورق أغسطس في المخاطبات.
وكانوا يصقلون الورق بقطعة من العاج أو بمحارة ناعمة، ولكنه كان من اللازم الوقوف بهذه العملية عند حد معين، وإلا زلق الحبر فلا يأخذ في الورق وتكون الحروف المكتوبة معرضة لأن تنمحي عما قريب، وذلك هو الذي يحصل في ورقنا حين يجاد صقله أكثر مما يلزم. ربما يكون حسنا في مرأى العين، ولكنه لا يطيب الانتفاع به. وقد كان يحدث ماء النيل الحميء ضررا من هذا النوع متى صب من غير احتراس في ابتداء العملية؛ إذ يجعل الورق غير قابل للكتابة، بل يترك فيه رائحة يعرفونها له وبقعا كان يلزم لإزالتها أن يخرقوها من مواقع البقع ويرقعوها بغاية الدقة حتى لا يفطن لها المشتري - لحسن سبك الغش فيها - إلا بالاستعمال؛ إذ يشرب الورق الحبر في مواضع الرتق ويجعل الحروف سائحة لا تقرأ إلا قليلا.
لذلك قال بلاين إنه لتوقي تلك العيوب المختلفة كان يلزق الورق بكيفية تجعله أطرى من قماش الكتان نفسه، ووجد أن هذه الطرائق فعالة جدا. قال إنه رأى عند أحد أصحابه - وكان مغرما بخطوط المؤلفين - مخطوطات لشيشيرون ولأغسطس ولفرجيل على ورق من هذا النوع، بل رأى عنده مخطوطات لطيبريوس وقايوس غراكوس مضى عليها مائتا عام؛ مما يدل على أن لصق الورق كان من الجودة بحيث يقاوم كر الزمان.
وبعد أن أورد بلاين هذه التفاصيل عاد ينقض رأي فرون في أن استعمال الورق حديث في إيطاليا، وحاول أن يثبت - ضد مذهب ذلك العالم - أن الكتب كانت معروفة منذ زمن «نوما بومبليوس»؛ فقد عثر في تابوت هذا الملك الذي وجد في زمن قنصلية سيتيغوس وبيبيوس طنفيلوس، بعد موته بخمسمائة وخمس وثلاثين سنة، على كتب من الورق، كذلك ثلاثة كتب جاءت بها العرافة إلى طرخان الأجل كانت مكتوبة على ورق حرقت منها اثنين، والثالث الذي قبله هذا الملك البصير قد حفظ إلى عهد سيلا، ثم باد في حريقه روما.
وإذا أريد برهان دامغ غير منقطع الأثر على استعمال الورق في الزمن القديم فما على المريد إلا أن يتصفح رسائل شيشيرون فيجد فيها المعلومات المضبوطة القوية في هذا الموضوع؛ فإن الناس ما زالوا يستعملون الأوراق مع السهولة القصوى، ويسرفون في استعمالها إلى الغاية. كتب شيشيرون إلى أطيقوس كل يوم بل مرات عديدة في كل يوم تارة رسائل طويلة، وتارة أخرى تذاكر بسيطة يرسل إليه مع رسوله بعض أسطر أو صحيفة إذا لم يكن لديه ما يقوله أكثر من ذلك أو سلسلة من الصحائف لا آخر لها إذا انطلق قلمه يتدفق أو إذا حضرته مناقشة مسائل هامة.
ومتى كان موضوع الكتاب يهم عدة أشخاص عمل منه نسخ بعددهم، أو صرح للمرسل إليه بإتيان هذا العمل، أما إذا كان موضوع الكتاب دقيقا يشطب الكاتب غير مرة العبارات الناقصة عن تأدية المعنى المراد تماما، ويرجع مرات على ما كتب ويهذبه ويحرره. وإذا كان الكاتب قد أخذ منه التأثر مأخذا يبكيه ترك دموعه أحيانا تمحو الكتابة، ومتى فرغ من الكتاب طواه وختمه.
Unknown page