ولكن تلك الرواية المشهورة مهما كانت كاذبة تدل على الأقل على ما لاسم الفيلسوف من الاحترام منذ تلك الأزمان، فإليه تنسب الثقافة الأخلاقية والإصلاح الموفق الذي - وإن لم يتم - كان سببا في التهذيب من حال أهل تراقيا المتوحشين.
على أن دارا لما وصل إلى المحل المعين على نهر الدانوب، وجد اليونان نفذوا أمره بإقامة قنطرة المراكب، كما أقاموا قنطرة البسفور. ولما عبر الجنود النهر أراد دارا رفع القنطرة حتى يتبعه الإغريق في غزوته، ولكن قويس - رئيس المتالنة - كان لحسن الحظ أسد رأيا من الملك؛ فإنه وصل إلى إقناعه ببقاء القنطرة؛ لأنها طريقه الوحيد عند التقهقر، وعلى ذلك أمر دارا اليونان أن ينتظروه ستين يوما فإن لم يعد في هذه المدة هدموا القنطرة وسافروا.
حدث ما كان سهلا توقعه؛ فإن جيش دارا بعد أسفار نحو الشمال متعبة عديمة الفائدة اضطر إلى أن يعود خاسرا تاركا مرضاه وجرحاه، وكانت حاله حال ذلك الجيش العظيم سنة 1812 الذي كان في تلك البلاد تقريبا يقاتل أولئك الأعداء أنفسهم الذين خدعوه الخديعة عينها.
ولما انتصر السيتيون على دارا من غير حرب تقدموه إلى قنطرة الدانوب، وكان دارا سيلاقي ما لاقى نابليون في عبور نهيربير يزينا لولا أمانة الإغريق الذين وكل إليهم حراسة القنطرة، فإن السيتيين حرضوهم على كسرها قائلين: إن ميعاد الستين يوما قد مضى، وإنهم قد أوفوا بعهدهم، وقد نصح لهم ملتياد الآتيني - الذي كان قائد أهل شرسنيز وهلسبون وطاغية عليهما والذي صار بعد ذلك فاتح مرطون - أن يهدموا القنطرة وينسحبوا إلى بلادهم، وبذلك يهلك الجيش الفارسي ويسترد اليونان حريتهم، وكانت نصيحته ستجد آذانا صاغية، ويكون لها من الأثر ما لم يكن لإغراء السيتيين، لولا أن اجتمع رؤساء اليونان وقرروا بناء على رأي هستيا الملطي أن ينتظروا دارا ويخلصوه، وكان مع هستيا من رءوس اليونان سطراطيس الشيوزي وأوسيز السموسي ولودامس الفوكي، وكان أرسطاغوراس الكومي وحده رئيسا للأيوليين.
ولم يكن الوفاء بالعهد هو الذي حمل أولئك الرؤساء على هذا القرار الغريب، بل هي المصلحة الشخصية؛ فإن هستيا لم يصادف عناء في إقناع زملائه الذين مصلحتهم كمصلحته بأنهم إذا فقدوا تأييد الفرس لهم لم يلبث واحد منهم سيدا على مدينته التي يحكمها، بل إن الأمة متى تخلصت من حكم الأجنبي تسارع إلى حكم الديموقراطية، وتحرم رؤساءها الحاليين كل سلطان عقابا لهم على قبولهم المزايا التي خصهم بها الملك الكبير، وقد رجح لدى الرؤساء هذا الرأي، وأمكن لدارا - وقد اقتفى السيتيون أثره - أن يفر منهم بعبور النهر.
ماذا كان عساه أن يقع لو أن اليونان كسروا القنطرة وهلك بذلك دارا وجنوده؟ تكون داهية دهياء على مملكة الفرس من غير شك، ولكن هذه الضربة مهما كانت خطورتها لا تكون هي القاضية؛ لأن هزائم مرطون وسلامين وبلاته لم تكن لتكفي لهذا الغرض، حقا ربما كانت يونيا تستطيع أن تتنفس من ضيق الخناق بعض الزمن وتسترد استقلالها، ولكن إغارة جديدة أكثر حدة بالضرورة من سابقاتها ترجعها إلى الخضوع، فلم يكن حان الوقت لسقوط الفرس الذين كانت أمتهم وقتئذ في قوة الشباب وطور النمو الأول، ولكن هذا لا ينفي الإجرام عن أنانية الرؤساء اليونان؛ فإنهم كانوا يستطيعون البقاء على عهد دارا بأسباب أشرف من الأسباب التي اتخذوها.
لما وصل دارا إلى سستوس ركب البحر إلى آسيا وخلف مغباز على الجنود في أوروبا، وليفتح تراقيا ومقدونيا، وبعد قليل دعي مغباز إلى صوص، وكذلك هستيا الذي ظهر أن من عدم التبصر تركه وحده في تراقيا، حيث أقطعه دارا إقطاعات واسعة في مرسينة جزاء له على خدمته.
ولقد منيت بلاد اليونان بجهد جديد ومصائب جدد تتخمر في باطنها؛ فإن هستيا لما ترك ملطية نزل عن السلطة إلى أرسطاغوراس صهره وابن عمه، فجاء إلى هذا الأخير بعض المنفيين من نكسوس يستنجدونه، وأحس من نفسه قلة الحول في أن يقوم بمشروع فتح نكسوس وحده، فرجع في الأمر إلى أرتافرن أخي دارا ومرز بأنه على سرديس وجميع تلك الجهات التي هي أول مرزبانية في المملكة، فطمع أرتافرن في الاستيلاء على نكسوس وما يليها من مدن السكلاد، وحصل من دارا على الإذن بتسيير مائتي سفينة تحت تصرف أرسطاغوراس، ولكن الشقاق قد دبت عقاربه بين الأحلاف؛ فاستطاعت نكسوس أن تدافع عن نفسها وأن تصد هجمات محاصريها وتردهم بالخيبة بعد حصار أربعة أشهر؛ وعلى ذلك لم يوفق أرسطاغوراس إلى تحقيق شيء مما وعد به مرزبان سرديس، فخاف من ذلك على سلطانه الخاص، وعقد العزم على ألا يكون نصف مذنب؛ فغلظ ذنبه، وأوقد نار ثورة صريحة دفعه إليها أيضا سلفه هستيا الذي كان لا يزال في صوص عند الملك الكبير، ولكي يجذب قلوب الملطيين إليه نزل عن حكومة الطغيان، ورتب بدلها حكومة الشعب، ودعا المدائن اليونانية الأخرى إلى العصيان، فاستجابت لدعائه وطردت جميع الطغاة الذين نصبوا عليها تنصيبا.
إن ما أتاه أرسطاغوراس من الإقدام الكبير كان بعد استشارة أصحابه، فأما هيقات الملطي المؤرخ فكان رأيه ألا يوقدوا نار الحرب في الحال وليس لديهم المال الضروري، فلما لم يستطع الإقناع برأيه ألح في وجوب توجيه كل قواهم نحو البحر، بفكرة أنهم فيه أقدر على الهجوم منهم في البر، ولهذه الغاية نصح بأن يأخذوا جميع أموال كريزوس التي جمعها في معبد البرنشيد، ولكنهم أصموا آذانهم عن الاستماع لهذا الرأي السديد، وأصروا على الثورة على أي حال، وكان أرسطاغوراس يشعر تماما بضعف يونيا فذهب إلى إسبرطة ليتخذها حليفة له.
ولقد عني أرسطاغوراس ليزيد كليومين - ملك إسبرطة - علما بحقيقة مشروعاته بأن يبين له في أثناء المفاوضة مواقع البلاد التي كانت موضوع الحديث، وهي ليديا وفريجة وقبادوس وفارس ... إلخ، بينها له مرسومة على صحيفة من النحاس حملها معه، وكان وقتئذ من أحدث ما يكون رسم خريطة جغرافية. ويظهر أن أنكسيمندروس هو صاحب هذا الاختراع البديع، ولكن كليومين لم يفه إلا بسؤال واحد: «ما هي المسافة بين بحر يونيا وبين المحل الذي يقيم فيه الملك؟» فأجابه ببساطة: «مسير ثلاثة أشهر.» وكان ينبغي لأرسطاغوراس أن يحسب وقع هذا الجواب في نفس رجل إسبرطي؛ لأن كليومين بعد أن سمع هذا الجواب أمر نزيله أن يبرح لقدمونيا قبل غروب الشمس، ورفض مع الازدراء المال الذي حمله إليه ليحاول إغواءه به.
Unknown page