بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله على مَا أفهم من الْبَيَان وألهم من التِّبْيَان وَأشْهد أَن لاإله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شهاد عقدهَا الْجنان ونطق بهَا اللِّسَان وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمُخْتَار من ولد عدنان الْمَبْعُوث بأعظم شان وأفصح لِسَان صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه القادة الْأَعْيَان ذَوي البلاغة والبراعة والمحاسن والأحسان وَبعد فَإِن علم الْحَلَال وَالْحرَام الَّذِي بِهِ صَلَاح الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى وَهُوَ الْمُسَمّى بِعلم الْفِقْه مستمد من علم أصُول الْفِقْه وَعلم الْعَرَبيَّة فَأَما استمداده من علم الْأُصُول فَوَاضِح وتسميته بأصول الْفِقْه ناطقة بذلك وَأما الْعَرَبيَّة فَلِأَن أدلته من الْكتاب وَالسّنة عَرَبِيَّة وَحِينَئِذٍ فَيتَوَقَّف فهم تِلْكَ الْأَدِلَّة على فهمها وَالْعلم بمدلولها على علمهَا وَأما الْحَافِظ للأحاديث الْعَالم بسندها وطرقها (وَجَمِيع رِوَايَاتهَا) من غير أَن يقوى بَاعه فِي العلمين الْمَذْكُورين فَحكمه حكم من اعتنى بِالْكتاب الْعَزِيز فحفظه وأتقن رواياته السَّبع وَأكْثر مِنْهَا وَأحكم سَنَده وَلَا يخفى بعد من

1 / 185

ذَكرْنَاهُ عَن الِاجْتِهَاد واستنباط الْأَحْكَام فَإِذا تقرر مَا ذَكرْنَاهُ فقد كَانَ إمامنا الشَّافِعِي ﵁ هُوَ رَأس أَرْبَاب الْمذَاهب فِي هذَيْن العلمين وَعَلِيهِ الْمعول بَينهم فِي كلا الْأَمريْنِ أما أصُول الْفِقْه فَإِنَّهُ المبتكر لَهُ بِلَا نزاع وَأول من صنف فِيهِ بِالْإِجْمَاع كَمَا أوضحته فِي كتاب التَّمْهِيد

1 / 186

وَأما الْعَرَبيَّة فَكَانَ فِيهَا هُوَ الْكَعْبَة والمحجة وَالَّذِي ينْطق بِهِ فِيهَا حجه كَمَا شهد بِهِ معاصروه من عُلَمَاء هَذَا الْفَنّ مِنْهُم ابْن هِشَام صَاحب سيرة رَسُول الله ﷺ مَعَ كَونه معاصرا لَهُ ومساكنا لَهُ بِمصْر فَإِن الشَّافِعِي مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَمَات ابْن هِشَام سنة ثَلَاث عشرَة وَقيل ثَمَان عشرَة وَمَا نَقَلْنَاهُ عَن ابْن هِشَام قد نَقله ابْن الصّلاح فِي طبقاته فِي فصل المحمدين عَن ابْن عبد البر الْمَالِكِي بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَيْهِ أَعنِي إِلَى ابْن هِشَام وَلأَجل مَا ذَكرْنَاهُ من كَون كَلَامه حجَّة يعبر الإِمَام أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب فِي تصريفه بقوله وَهِي لُغَة الشَّافِعِي كَمَا يَقُول كغة (بني) تَمِيم وَرَبِيعَة وَنَحْوهمَا هَذَا وَهُوَ من المقلدين للْإِمَام مَالك ﵁ إِلَّا أَن علمه وَدينه قد حملاه على الِاعْتِرَاف بذلك وَكَيف لَا يكون الشَّافِعِي أَيْضا بِهَذِهِ الصّفة وَهُوَ من حرم مَكَّة شرفها الله تَعَالَى أَفْخَر دور العبر وَنسبه فِي قُرَيْش إِلَى الْمطلب

1 / 187

أخي هَاشم وَذَلِكَ أشرف النّسَب وَقد مدحته قَدِيما ببيتين متعرضا لهَذَا الْمَعْنى وذكرتهما فِي عدَّة تصانيف اشهارا لَهما وهما يَا من سما نفسا الى نيل العلى ونحا الى الْعلم الْعَزِيز الرافع ... قلد سمي الْمُصْطَفى ونسيبه والزم مطالعة الْعَزِيز الرَّافِعِيّ فَلَمَّا اتّصف امامنا ﵁ بِمَا وصفناه واشتمل على مَا ذَكرْنَاهُ كَانَ مذْهبه أصح مَذَاهِب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة مدْركا وأرجحها مسلكا وَإِن كَانَ كل مِنْهُم أَمَام هدى وَبِه يتَقرَّب إِلَى الله تَعَالَى ويقتدى ﵃ أَجْمَعِينَ وَرَضي عَنَّا بهم وَقد اعتنيت قَدِيما بِهَذَيْنِ العلمين بخصوصهما وصرفت لَهما مُدَّة مديدة همتي وأسهرت فيهمَا ليَالِي طَوِيلَة مقلتي حَتَّى انتصبت للإقراء فيهمَا ولي من الْعُمر دون الْعشْرين سنة وَكَاد نَظَرِي فِي العلمين الْمَذْكُورين يغلب على نَظَرِي فِي علم الْفِقْه وَلم أزل كَذَلِك إِلَى أَن أَرَادَ الله تَعَالَى صرف الهمة عَنْهُمَا وَعَن غَيرهمَا إِلَيْهِ وقصور النّظر غَالِبا عَلَيْهِ حَتَّى برز بِحَمْد الله تَعَالَى من التأليفات الْفِقْهِيَّة الغريبة مَا قضى بِهِ وَقدر وطار اسْمه فِي الْآفَاق واشتهر ثمَّ بعد ذَلِك كُله استخرت الله تَعَالَى فِي تأليف كتابين ممتزجين من الفنين الْمَذْكُورين وَمن الْفِقْه لم يتقدمني اليهما أحد من أَصْحَابنَا

1 / 188

أَحدهمَا فِي كَيْفيَّة تَخْرِيج الْفِقْه على الْمسَائِل الْأُصُولِيَّة وَالثَّانِي فِي كَيْفيَّة تَخْرِيجه على الْمسَائِل النحوية فأذكر أَولا الْمَسْأَلَة الْأُصُولِيَّة أَو النحوية مهذبة منقحة ثمَّ أتبعهَا بِذكر جملَة مِمَّا يتَفَرَّع عَلَيْهَا ليَكُون ذَلِك تَنْبِيها على مالم أذكرهُ ثمَّ أَن الَّذِي أذكرهُ على أَقسَام فَمِنْهُ مَا يكون جَوَاب أَصْحَابنَا فِيهِ مُوَافقا للقاعدة وَمِنْه مَا يكون مُخَالفا لَهَا وَمِنْه مَا لم أَقف فِيهِ على نقل بِالْكُلِّيَّةِ فأذكر فِيهِ مَا تَقْتَضِيه الْقَاعِدَة مَعَ مُلَاحظَة الْقَاعِدَة المذهبية والنظائر الفروعية وَحِينَئِذٍ فَيعرف النَّاظر فِي ذَلِك مَأْخَذ مَا نَص عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وفصلوه ويتنبه بِهِ على اسْتِخْرَاج مَا أهملوه هَذَا مَعَ أَن الْفُرُوع الْمَذْكُورَة مهمة مَقْصُودَة فِي نَفسهَا بِالنّظرِ وَكثير مِنْهَا قد ظَفرت بِهِ فِي كتب غَرِيبَة كَمَا ستراه مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ أنني بدأت بالنوع الأول من هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَيسر الله الْفَرَاغ مِنْهُ على النَّحْو الْمَطْلُوب وَالْوَجْه المحبوب مُسَمّى بالتمهيد ثمَّ شرعت فِي الثَّانِي مستعينا بِاللَّه تَعَالَى وسميته بالكوكب الدُّرِّي وَاعْلَم أنني إِذا أطلقت شَيْئا من الْمسَائِل النحوية فَهِيَ من كتابي شَيخنَا أبي حَيَّان اللَّذين لم يصنف فِي هَذَا الْعلم أجمع مِنْهُمَا وهما

1 / 189