204

وقد اتضح أن الطفلة أو الطفل الذي يتربى في جو من الحرية والعدل يكتسب القدرة على الاختيار الصحيح القائم على الحرية والعدل، يكتسب الثقة في نفسه، والحكم بنفسه على الأشياء، ولا ينتظر الأوامر أو التوجيهات من الجهات العليا.

هذا هو الحجر الأساسي السليم الذي يمكن أن نبني عليه استراتيجية جديدة للثقافة والإبداع في بلادنا، لقد اتضح أن الطفلة أو الطفل الذي يتربى على الخوف من العقاب (أو الطمع في جائزة) يعجز عن الإبداع الحقيقي؛ لأن لذة الإبداع الحقيقي تتعلق بالعمل ذاته، بالقدرة على إنجازه وتحقيقه بالشكل الذي يريده الفنان أو الفنانة.

هذا هو الضمير الإبداعي النابع من الحرية والعدل، وهو الذي يوجه الإنسان المبدع أو الإنسانة المبدعة، بمعنى آخر هو الذي يضع الضوابط لصاحبه، هو الذي يجعله يختار هذه العبارة للتعبير عن فكرته، وليس عبارة أخرى خالية من الجمال أو الذوق.

لا شك أن الإبداع هو الجديد، وهو يختلف عن القديم، وقد يصطدم به إلا أن الحساسية للعدل والحرية النابعة من الخيال السليم غير المبتور تساعد الإنسان المبدع على إدراك التوازن والانسجام الفني بين القديم والجديد، أو بين العدل والظلم.

وقد قرأت رواية وليمة لأعشاب البحر، وكتبت عنها مقالا في جريدة الحياة الصادرة في لندن يوم 11 يوليو 2000 تحت عنوان «الخيال المبتور في الأدب الشائع»، ليس معنى ذلك أن من حق الجهات الإدارية أو القانونية مصادرة الرواية أو منعها؛ لأنها (في رأيي) تمنع نفسها، ليس لأنها تمس المقدسات كما قيل عنها، ولكن لأن الخيال فيها مبتور، بحكم التربية التي يعيشها أغلب المؤلفين في طفولتهم.

منذ الطفولة ندرك أن الرجل بطل القصة، قد تربى على القنص والصيد، وقتل الطيور والحيوانات، وقد امتدت نزعة الصيد إلى جنس النساء، مع ذلك يقدم نفسه كمناضل وطني يؤمن بالاشتراكية والعدالة، إلا أنها عدالة نظرية فحسب أو لغوية في الخطب والروايات، ولا تمتد أبدا إلى حياته الحقيقية، ولا تدخل بينه ولا غرفة نومه.

تمتلئ غرف نوم الرجال في الرواية بالدكتاتورية والأحادية الفكرية والانفصام بين الحياة العامة والحياة الخاصة، هذا التناقض أو الازدواجية الأخلاقية هي التي تفسد العمل الإبداعي كما تفسد الخيال والواقع؛ إن الواقع المشوه بالظلم في العلاقات بين الناس (ومنها علاقة الرجال بالنساء) يؤدي إلى تشويه الخيال وبتره منذ الطفولة.

الخيال المبتور في نظري أكثر خطورة من الجسد المبتور الأعضاء، لأن الناس ترى الجسد المبتور وتتألم لألمه، لكن الخيال أو الضمير الإبداعي لا تراه العين ولا ينزف الدم عند البتر.

لقد أدت الضجة التي أثيرت حول رواية «وليمة لأعشاب البحر» إلى انتشارها، وإقبال الناس على شرائها بسبب حب الاستطلاع، لكني لم أقابل أحدا قرأ الرواية إلا وقال لي إنه لم يكملها، وتركها منذ الصفحات الأولى، وقد شعرت بهذا الإحساس ذاته وأنا أقرؤها، إلا أنني واصلت القراءة بجهد كبير من أجل أن أكتب عنها.

وأنا لم أقرأ الروايات الثلاثة التي سببت الأزمة الأخيرة بين وزير الثقافة وبعض المثقفين والأدباء والأديبات، ذلك أن الضجة التي أثيرت حولها ربما جعلت الناس تتسابق إلى قراءتها، ومن ثم عدم وجودها في المكتبات.

Unknown page