كشف النور عن أصحاب القبور
Page 1
بسم الله الرحمن الرحيم كشف النور عن أصحاب القبور الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، يقول الحقير عبد الغني ابن إسماعيل النابلسي الحنفي: هذه رسالة كتبتها في ظهور كرامات الأولياء بعد موتهم وحكم رفع البناء عليهم وتعليق الستور إلى غير ذلك وسميتها " كشف النور عن أصحاب القبور ". وأسأل الله تعالى أن يلهمني ما هو الحق والصواب وأن يوفق إخواني المسلمين إلى الإنصاف عند ظهور الحق والاعتراف، والله على كل شئ قدير وبالإجابة جدير.
اعلموا إخواني في رضاعة ثدي الإسلام أن الكرامات التي أكرم الله تعالى بها أولياءه المقربين إلى حضرته أمور خارقة لعادة الله في خلقه، خلقها الله تعالى بمحض قدرته وإرادته لا مدخل لقدرة الولي المخلوقة فيه ولا لإرادته المخلوقة فيه أيضا على التأثير فيها البتة وإنما قدرة الولي وإرادته المخلوقتان فيه سبب لخلق الله تعالى تلك الكرامات على يديه ونسبتها إليه، وكل من اعتقد أن الولي له تأثير في شئ من ذلك فهو كافر بالله تعالى على ما عرف في علم التوحيد.
وحقيقة أمر الولي في خلق الله تعالى الكرامات على يديه أنه متحقق بوحدانية الله تعالى في التأثير. وأنه لا تأثير له عند نفسه البتة حتى أن حركات نفسه التي هي القوى الروحانية المتشعبة في البدن وهي القوة الباصرة والقوة السامعة والقوة الذائقة والقوة اللامسة والقوة الشامة والقوة العقلية الباطنية المتفكرة والمتخيلة والحافظة. وكذلك الحركات الظاهرة في جميع الأعضاء والأعصاب ونحو ذلك، فإنها مخلوقة فيه لله تعالى. وهو مشاهد لجميع ذلك في نفسه ومتحقق به في كل وقت إلا إذا سلط الله عليه الغفلة في بعض الأحيان فيكون في ذلك الوقت ليس بولي الله تعالى إلا بحسب ما مضى كالمؤمن النائم فإنه مؤمن بسبب
Page 3
حكم ما مضى في اليقظة من الإيمان وهذه الحالة هي أدنى أحوال الأولياء وأدنى شهود من شهوداتهم. وربما سموا شيئا من ذلك في طريقهم موتا اختياريا أخذا من إشارة قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) ومعنى إشارة الآية على عدم الفرق بين ميت بالسكون والتشديد كما ذكره الجوهري في الصحاح: إنك يا محمد وإن ظهر التأثير منك ومنهم في الباطن والظاهر بحسب الإدراك والأفعال ميت وهم ميتون لأن حياتك مخلوقة كحياتهم وهي عرض يخلق الله تعالى الإدراك باطنا والأفعال والأقوال ظاهرا عندها لا بها، فهي سبب لخلق ذلك من الله تعالى فهي موت في حقيقة الأمر فيك وفيهم جميعا. وهذا الموت الاختياري شرط في مقام الولاية حتى إذا لم يتحقق به الولي في نفسه فليس بولي وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " يعني من عرف نفسه، أنها كناية عن قوى باطنية وظاهرية منبعثة من العدم بسطوة قدرة غيره عرف ربه. والرب هو المالك يعني عرف مالك أمره الباطن والظاهر وهو الله تعالى فيعرفه من حيث إنه الخالق لتلك القوى والمصرف لها فيما يشاءه تعالى ويختاره ويعلم أن نفسه في يد الله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء كما كان يقسم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " والذي نفسي بيده " أي وحق الذي جميع قواي الباطنية والظاهرية في تصرفه وحده لا مدخل لي في ذلك البتة. ومن هنا يفهم قول النبي عليه السلام في حديث التقرب بالنوافل: " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به "... إلى آخره فيظهر لذلك المتقرب بالنوافل الفاعل المتصرف في قواه كلها وتبقى القوى عنده أعراضا زائلة كما هي في حقيقة الأمر فيكون الحق كناية عنها بعد زوالها من نظر ذلك المتقرب. وليس هذا كله إلا بعد حصول الموت الاختياري له.
وإذا كان كذلك فالولاية مشروطة عند العارفين بإدراك الموت والتحقق به، والكرامات للأولياء مشروطة حينئذ عندهم بوجود الموت لا بفقده فكيف يزعم عاقل أن الموت ينافي الكرامات؟ والكرامات مشروطة به. وإذا لم يتحقق من الإنسان في نفسه فليس بعارف ولا ولي. وإنما هو عامي من عوام المؤمنين غافل محجوب. وذلك لأن الولي هو الإنسان الذي يتولى الله تعالى جميع أموره الباطنية والظاهرية كما ذكرنا. وأمر غيره فنفسه هي التي تتولى أمرها بسبب
Page 4
الغفلة والحجاب عن المتولي في الحقيقة لجميع الأمور وهو الله تعالى لأنه تعالى متولي أمر المؤمن والكافر والغافل والمستيقظ، ولكن قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). أي إنما يعلم ذلك، وهو عدم الفرق بينهما أصحاب البصائر.
ومما يدل على ثبوت الكرامة بعد الموت من أقوال الفقهاء قولهم بكراهة الوطئ على القبور. قال في مختصر محيط السرخسي للإمام الخبازي:
وكره أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن يطأ على قبر أو يجلس أو ينام عليه أو يبول أو يتغوط لما فيه من الإهانة. وفي جامع الفتاوى لقارئي الهداية: وسئل بعض الفضلاء عن وطئ القبور فقال: يكره. قيل: هل يكره على أنه تارك للأولى. فقال: لا بل يأثم لأنه عليه السلام قال: لأن أضع قدمي على جمر أحب إلي من وطئ القبر. قيل: التابوت والتراب الذي فوقه بمنزلة السقف.
فقال: وإن كان له بمنزلة السقف لكن حق الميت باق فلا يجوز. أن يوطأ.
وسئل الخجندي عن رجل لو كان قبر والديه بين القبور هل يجوز له أن يمر بين قبور المسلمين بالدعاء والتسبيح وقراءة القرآن ويزور قبرهما؟ فقال: له ذلك إن أمكنه من غير وطئ القبور انتهى. وفي فتح القدير: ويكره الجلوس على القبر ووطئه. وحينئذ فما يصنعه الناس ممن دفنت أقاربه ثم دفنت حواليهم خلق، من وطئ تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر أبيه مكروه ويكره النوم عند القبر وقضاء الحاجة بل أولى وكل ما لم يعهد من السنة، والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائما كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع ويقول: " السلام عليك م دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية ".
انتهى كلامه. وحيث صح هذا وثبت في كتب الفقه فنقول: لم يكره الوطئ على القبر والجلوس عليه إلا لكرامة الموتى بعد موتهم. وهذه الكرامة ثابتة في الشرع. وهي أمر خارق للعادة في الخلق، فإن العادة جارية أن الإنسان يباح له أن يمشي على الأرض وأن يجلس عليها وأن يطئ برجله أبعاض الحيوانات كلها إلا موتى أهل الإيمان، فقد خولفت العادة في حقهم فكره ذلك كله كراهة تحريم،
Page 5
لأنها المحمل عند الإطلاق. وإنما كان ذلك تكريما لهم بعد موتهم، وهم من عوام المؤمنين. فكيف الحال مع خواصهم وهم أهل الولاية المقربون إلى الله تعالى. فقد ثبتت الكرامة بعد الموت على لسان الشرع.
وأيضا ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور القبور في البقيع ويدعو عندها قائما دليل على ثبوت الكرامات بعد الموت لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يكن يعلم أن الدعاء عند قبور المؤمنين مستجاب لخصوصية في المكان بسبب الموتى المدفونين فيه لما دعا عند قبورهم بقوله عليه السلام: " أسأل الله لي ولكم العافية " واستجابة الدعاء ببركة قبور المؤمنين التي تنزل عليها الرحمة من جملة الكرامات للمؤمنين بعد الموت.
وذلك في حق قبور عوام المؤمنين فكيف قبور خواصهم من أهل التوحيد الكامل اليقين من المقربين إلى الله تعالى. وفي ذلك ثبوت الكرامة بعد الموت أيضا.
ومن الدليل على ثبوتها بعد الموت أيضا حكم الشرع بوجوب تغسيل الميت المسلم ووجوب تكفينه ودفنه تكريما له. وهي كرامة أثبتها الشرع للمؤمنين بعد الموت خارقة للعادة في حق موتى سائر بني آدم من الكافرين وجميع الحيوانات التي جرت العادة الشرعية بعدم تغسيلها.
ومن الدليل على ذلك أيضا ما قاله صاحب النهاية في شرح الهداية: أن الميت ينجس بالموت وأن التغسيل واجب لإزالة نجاسة تثبت بالموت كرامة للآدمي بخلاف سائر الحيوانات. وفي جامع الفتاوى: يغسل لتنجسه بالموت كسائر الحيوانات الدموية إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له. وقيل: لا ينجس لأنه مؤمن بل الغسل لأجل أنه على غير وضوء انتهى. وهذا يدل على ثبوت الكرامة للمؤمن بعد موته أيضا.
وذكر في جامع الفتاوى: أن البناء على القبر لا يكره إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات. وذكر فيه أيضا أنه ينبغي أن يكون غاسل الميت على طهارة ويكره أن يكون حائضا أو جنبا انتهى. وهذا مما هو صريح في ثبوت الكرامة للمؤمن بعد الموت أيضا بل الكرامات كلها لا تكون للمؤمن إلا بعد الموت.
أما في الحياة الدنيا فلا كرامة له في الحقيقة إلا مجازا لأنه يكون في دار الجوار
Page 6