بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله لذي شرع لنا الدين ورفع قواعده، وسهل شرائعه وموارده، وأوضح مناهجه ومعاهده، وأحكم أحكامه ومعاقده، وعظم مشاعره ومشاهده، ورفع قصوره، وبين ظهوره، و [متن ظهوره] (1)، فضرب الأرض بجرانه (2)، وسطع للأنام ببرهانه، وفصح لسانه، واتضح بيانه، وأشرق زمانه، وطربت ألحانه، وامتلأت دنانه (3)، وامتدت أشطانه (4)، واشتدت أطنانه (5)، واعتلى بنيانه، واعتمرت (6) أركانه، وامتنعت حصونه، وارتفعت شؤونه، واقتوت أشجاره، وارتوت أزهاره، وبسقت (7) نخيله، وسهلت سبيله، وساغ (8) سلسبيله، وتفرعت أغصانه، وتشعبت
Page 103
أفنانه (1)، وتطاولت أشجانه (2)، وعلا مناره، وجلا نهاره، وحلا ثماره، ولان شعاره (3)، وراق دثاره (4)، وزخرت بحاره، وتضاعفت أنواره.
والصلاة على خير من ابتعثه من الأنبياء، وأفضل من اختاره من ذواته العليا، أقدمهم نبوة، وأعظمهم فتوة، وآكدهم مروة، وأسماهم سموا، وأعلاهم علوا، ومن تلاه من شهوده تلوا، [ولم] (5) يألو في اعلاء الدين ألوا (6)، ما زينت السماء بنجومها، وصينت (7) برجومها، ودارت بأيامها، وسارت (8) بأعوامها، وما حدت الأرض بتخومها (9)، وانطبعت برسومها، ووتدت بأوتادها (10) وأقيمت بأطوادها (11).
أما بعد، فهذا ما اشتدت أشواقكم إليه، وقصرت هممكم عليه (12)، وعكفت قلوبكم لديه، طال ما ظلتم (13) ملحين فيه علي، ماثلين له بين يدي، صافين لاجتناء ثمر الاسعاف حوالي، مستمطرين وبلي (14)، مستمسكين بذيلي،
Page 104
مستنفرين لرجلي (1) وخيلي، مستدرين (2) طبعي، مستبذلين وسعي من كشف لثام الابهام وظلام الأوهام، عن وجوه خرائد (3) قواعد الأحكام، لشيخنا الإمام الهمام (4)، علامة علماء الاسلام، رضوان الله عليه وعلى سائر علمائنا الكرام، على غاية من الإيجاز، لا بحيث ينتهي إلى الألغاز، وإدراج في يسير من الألفاظ معاني طويلة الذيول والأعجاز (5)، مع استيفاء للأقوال وما استندت إليه، وإبانة عما ينبغي التعويل عليه، وتنقيح (6) للمسائل، وتهذيب للدلائل، واجتلاء (7) للعقائل (8)، واقتناء (9) للحظائل (10) (11)، وهتك للخدور (12)، ورفو (13) للفطور، وجبر للكسور،
Page 105
وشرح للصدور، وتكميل عن القصور، وتقوية عن الفتور (1)، وتسهيل للوعور (2)، ورياضة للصعاب (3)، وتقويم للشعاب (4)، وهداية للصواب في كل باب، وابتدأت بالنكاح وانتهيت إلى آخر الكتاب، لما لم يتفق لتلك الكتب شرح يكشف عنها النقاب، ويرفع عن معضلاتها الحجاب.
فحان الآن أن آخذ في شرح الصدر بشرح الصدر، وإتمام البدر، كما يتم القمر في منتصف الشهر، مستعينا بالله، متوكلا عليه، مستميحا من فضله التوفيق للاكمال، مبتهلا إليه.
قال المصنف - رفع الله مقامه، وضاعف إكرامه -: (بسم الله الرحمن الرحيم) أصنف أو أكتب أو أشرع فيه، أي متلبسا أو مصحوبا به، أي ذاكرا له، أو بالاستعانة به، كأنه لا يتيسر بدون ذكره، كما لا يتيسر بدون القلم.
وقد أراد بالأسماء الثلاثة المسمى، أي باسم هذا الذات الذي كذا وكذا، أي الذات الموسوم بالله، الموصوف بالرحمن الرحيم، ولكن ذكرها أغنى عن ذكر اسم آخر، فهي باعتبار المسمى من (5) مدلول الكلام وباعتبار أنفسها مصداق مدلوله.
ويجوز أن لا يراد بها إلا الألفاظ، ويكون إضافة اسم إليها، كما في: يوم الأحد، وشجر الأراك (6) فإنه اسم جنس يشمل ما فوق الواحد.
ويجوز أن يراد بالله الذات، وبالآخرين اللفظ، وعلى الأول فالمحققون على أن (الرحمن) أيضا اسم للذات ك (الله)، وأن لفظه هنا بدل من (الله)، ولذا قدم على (الرحيم) لكونه صفة، فاندفع السؤال عن جهة تقديمه مع أنه أبلغ.
(الحمد لله) يحتمل الاخبار عن كونه محمودا، وعن حمده له، والانشاء
Page 106
لحمده (على سوابغ النعماء) نوامها واسعاتها، والنعماء مفرد كالنعمة وبمعناها (وترادف الآلاء)، وهي جمع (آلى) بمعنى النعمة، ولم يظهر لي فرق بينهما وإن قيل باختصاص الآلاء بالنعم الباطنة، ومع الترادف لا اتحاد بين القرينتين، فإنه حمده على نفس النعم، ثم على ترادفها.
ثم ذكر أعاظم النعم المترادفة المشعرة، بما يسبقها من نعم الوجود، والعقل، والفهم، والقدرة، والقوة (1)، فإن ذكر النعم من الشكر عليها، وفيه تذكيرا للغير، وحثا له على الشكر، فقال: (المتفضل) يحتمل الوصف والقطع، أي: هو المتفضل، أو أعينه أو أخصه (بإرسال الأنبياء لارشاد الدهماء) أي جماعة الناس أو الثقلين إلى ما لا يبلغه عقولهم، أو ضلوا عنه (والمتطول بنصب الأوصياء) للأنبياء (لتكميل الأولياء) أي [أوليائه أو] (2) أولياء الأنبياء أو الأوصياء، فإنهم أخذوا أصل الدين من الأنبياء، وتكلمهم الأوصياء بالتفهيم والتفريع، وتعليم ما لم يأخذوه منهم (3).
وقد سئل، عن ذكر التفضل والتطول مع وجوبهما على الله عندنا (4)، فأجاب: بأنهما يتوقفان على الخلق والاقدار وتكميل العقول، لينتفعوا بهما، ويستأهلوا للنعيم المقيم ورفع الدرجات، وكل ذلك تفضل منه تعالى، وتطول فهما (5) كذلك، وإن وجبا بعد ذلك، فكأنه قيل: إنه تعالى تفضل بالتأهيل لارسال الرسل إليهم، ونصب الأوصياء لهم.
ويمكن الجواب: بأن الارسال إنما يجب للتعريض للثواب، والتحذير من العقاب، وكان من الجائز أن يهمل الله عباده، ويذرهم كالأنعام وإن كانوا عقلا كاملين، ولا يثيبهم (6) بالجنان، فتعريضهم لذلك وتشريفهم بالخطاب والتكليف
Page 107