وتوقف القلم بين أصابعه، وعاد ينظر إلى الجملة الأخيرة يقرؤها ويتأملها: ألا تتكدس في أحشاء الناس الكراهية؟ وتساءل بينه وبين نفسه: بماذا يكافح الناس إذا لم يكدسوا في أحشائهم الكراهية؟ وأي شيء غير الكراهية علمه الكفاح والإصرار على النجاح؟ وأي شيء غير الكراهية ألهب إرادته، وطرد النوم، وخنق الغريزة، وسلب من خلايا عقله وجسمه استرخاءها ولو للحظة واحدة عابرة؟ أي شيء غير الكراهية؟ وامتدت يده إلى الورقة تكورها وتلقي بها في السلة وتسحب ورقة أخرى نظيفة.
ولكن القلم راح يتأرجح مرة أخرى على السطور الخالية من الحروف يضع الخطوط الصماء، أو يمارس هوايته الأصلية في رسم الصراصير المشرشرة، والكلمات لا تريد أن تخرج، كأنه لم يكتب أبدا، مع أنه كثيرا ما كتب، وكثيرا ما ملأ الصفحات في المجلات والصحف؛ أن يضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة بجوار الجملة، لم يكن أبدا عسيرا عليه، إن اسمه طويل عريض يحتل عرض الصفحة، وإن ثقافته واسعة ممتدة من المدرسة الإلزامية إلى ماجستير حقوق، وهو يحفظ عددا كبيرا من الكلمات المثقفة والمصطلحات الجديدة. ومط عنقه إلى الأمام في اعتداد وثقة، وتعجب كيف ضيع كل ذلك الوقت في كتابة كلمات سوقية بسيطة يكتبها أي شخص لم يحصل من الثقافة ما حصل، ولم يحفظ من المصطلحات ما حفظ.
وحوط القلم بأصابعه في ثقة وضغطه على الورقة وكتب:
إن المرحلة الثورية التي نجتازها تتطلب الجمع بين الأيدولوجية المتبلورة الأصلية والعمل التطبيقي في إطار القوانين العامة للعالم المنطلق نحو آفاق المستقبل الاشتراكي.
ووضع القلم على المكتب ومسح أرنبة أنفه بالمنديل الحريري تفوح منه رائحة العطر الرجالي الثمين، وتأمل الكلمات التي كتبها وهو يمط عنقه إلى الأمام في زهو، وتثاءب وفرد ساقيه وذراعيه وتمطى في ارتياح، ونظر إلى الساعة ثم طبق الورقة بسرعة ووضعها في جيبه، ونزل إلى الشارع، ورأى الصبي الصغير يجري إلى العربة الطويلة ليفتح الباب، ودخل إلى العربة وجلس ليدير المحرك، ورأى الصبي الصغير يلمع زجاج العربة بحماس ثم يقف في عرض الشارع ليراقب المرور حتى هدأ، وأشار له أن يسير مقبلا نحوه باسطا يده، فضغط على دواسة البنزين بقوة وانطلقت العربة كالسهم في الشارع الواسع.
وفي المرآة الصغيرة التي أمامه رأى الصبي الصغير يتراجع إلى الوراء ويده لا تزال مبسوطة إلى الأمام، وفي عينيه نظرات يعرفها، نظرات ظلت تطل إليه سنين طويلة من مرآته الصغيرة المشروخة.
حلقة الخيول الدائرية
الشبه كبير بينها وبين الخيول، لكنها ترفع قائمتيها الأماميتين إلى أعلى فتبدو وكأنها تدور على قائمتين اثنتين، وفي الوسط واحد منها، لماذا هو بالذات في الوسط؟ إنه لا يختلف عنها، القائمتان الأماميتان مرفوعتان إلى أعلى فلا تلمسان الأرض، بل ترتفعان فوق الركبتين وتتدليان على الجنين كاليدين، هو تماما مثلها، لكنه في الوسط، في مركز الدائرة، ولا أحد يقترب منه، الكل يدور في المحيط الخارجي، وجهه ناحيته ينظر إليه ولا يرمش، يقف حين يقف، ويدور حين يدور، ويهز رجله حين يهز رجله، ويطرقع بحافره حين يطرقع، ويميل بمؤخرته إلى اليمين أو الشمال فيميل.
والمتفرجون جالسون في مقاعدهم، الصفوف الخلفية ترى ظهور الصفوف الأمامية، والصفوف الأمامية ترى ظهور الخيل، الكل لا يرى إلا ظهورا، والظهور مقوسة تظهر منها فقرات العمود الفقري واضحة ومدببة تؤلم العين، وحركة الدوران تؤلم العين، والمقاعد الخشبية تؤلم الفخذين، والملعب كبير واسع مستدير بغير سور يمنع الهواء البارد.
الهواء البارد يطرد النوم، والمتفرجون ينفخون في أيديهم ليدفئوها، والحوافر تصطك بالأرض، الصوت المنتظم يتبع الحركة، والحركة على شكل دائرة. الكل في المحيط الخارجي، وواحد فقط في الوسط، واحد فقط لا يختلف عن الكل، فالقائمتان الأماميتان مرفوعتان إلى أعلى متدليتان على حافة البطن بلا عمل، والقائمتان الخلفيتان هما فقط اللتان تدوران كالخيول تماما حين ترقص أو حين ترفس، لكنها ليست خيولا، فالوجوه ملوية ناحية الوسط والظهور ناحية المتفرجين، والمتفرجون سئموا منظر الظهور وغلبهم النوم فوق المقاعد الخشبية لولا الهواء البارد الذي يلفحهم.
Unknown page