هذه الأيديولوجية؛ أيديولوجية الفن لواقع الحياة، وهي في مثل تلك الصورة المهزومة التي يعرضها المؤلف، تواجهنا في مواقف أخرى نقتطع واحدا منها لفتى الأمس الصغير، وهو يستعير وعي التجربة من إنسان آخر، يكبره اليوم بعشرين عاما على الأقل أو يزيد! لقد كان هذا الفتى الصغير - ابن الثانية عشرة - يسترجع من خلال صراع القرية ضد مختلف القوى المسيطرة، ما قرأ في الصيف من كتب الأدب، يسترجع «زينب» لهيكل، و«إبراهيم الكاتب» للمازني، و«الأيام» لطه حسين، ليخرج أخيرا بمثل هذه الملاحظة الفكرية الواعية: «وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى بلا متاعب، كالقرية التي عاشت فيها «زينب»، الفلاحون فيها لا يتشاجرون على الماء، والحكومة لا تحرمهم من الري، ولا تحاول أن تنتزع منهم الأرض، أو ترسل إليهم رجالا بملابس صفراء يضربونهم بالكرابيج، والأطفال فيها لا يأكلون الطين ولا يحط الذباب على عيونهم الحلوة. وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى كقرية «زينب»، لا ينزل فيها من الرجال والنساء بعد البول دم وصديد، ولا يدهم أهلها المرض المفاجئ في جنوبهم فيتلوى الإنسان منهم لحظة، ويطلق صرخات يائسة فاجعة من حدة الألم، ثم يسكت؛ يسكت إلى الأبد!»
مثل هذه الملاحظة الفكرية بما فيها من انبثاقات التفتح العقلي الراصد، لا يمكن أن تتلاءم بحال مع الواقع العمري والثقافي لتلميذ، كان يعبر المرحلة الأولى من مراحل التعليم؛ ذلك لأننا هنا أمام نقدية مستكشفة لمضمون إنساني مزيف في قصة «زينب»، وأمام إفرازات نفسية منعكسة من امتصاص شعوري مرسب لتجربة القرية. وكل هذه المنعطفات الاتجاهية المصطنعة، مردها إلى سيطرة الدافع الأيديولوجي على ذهن المؤلف، ثم إلى الخطأ الرئيسي في التكنيك حين تمت عملية السرد الروائي، كما سبق أن قلت، من زاوية الضمير الأول، أو حين تركزت في بؤرة «الأنا» كأشعة مضمونية مقحمة على تجارب الآخرين!
ولا أعرف مفهوما محددا لعملية التطوير، كوضع من الأوضاع الفنية بالنسبة إلى الوعي الروائي للمؤلف؛ هل هو أن يبدأ الحدث بوصول «الهجانة» إلى القرية ليلزم الفلاحون بيوتهم من المغرب، وليلهب الشاويش عبد الله ظهورهم بكرباجه الطويل، ويشيع في نفوسهم وينشر في طريقه الإرهاب، ثم يتحول الحدث إلى موقف، يبدو من خلاله الشاويش عبد الله وهو يتطور نفسيا - بلا مقدمات - في اتجاه إنساني صاعد، حتى يتقوقع في التجربة الجماعية للقطيع التعس، وحتى يبلغ التطوير حد التزوير، فينهال بكرباجه على ظهر «المأمور»، وهو يحاسبه على إهماله في تأديب الفلاحين؟! إن المؤلف حقا لا يعرف قصة هؤلاء الذين يتحدث عنهم، لا يعرف قصة الأبعاد النفسية للهجانة من خلال نموذج بشري يمثل هذه الأبعاد وهو الشاويش عبد الله؛ ومن هنا كانت هذه المغالاة، التي تتحول معها أيديولوجية الواقع إلى ما يشبه خيالية الأسطورة. إن الروائي يجب أن يكون على معرفة تامة بالتركيبة النفسية لشخصياته، حتى يستطيع - بمجموعة من الخطوط الحاسمة - أن يهيئ عنصر التبرير الموضوعي للحركة الخارجية، وهي مرتبطة - كمسلك انعكاسي ممتد - بحركة الوجود الداخلي لهذه الشخصيات.
لا أعرف للمؤلف مفهوما محددا لعملية التطوير كما قلت؛ لأننا - وعلى سبيل المثال لا الحصر - أمام حدث آخر نرى من أبطاله «العمدة»، وهو يوزع شفويا أوامر الحكومة على خفراء القرية، ويطلب إليهم أن يشددوا المراقبة على الفلاحين الذين يسرقون المياه، وأن يقبضوا على كل مخالف للأوامر وهو متلبس بجريمة السرقة. ومرة أخرى يتحول الحدث إلى موقف، يبدو من خلاله الخفير عبد العاطي وهو يتطور أيضا بنفس الطريقة، ويتقوقع بنفس الأسلوب، وإذا هو يقف من زملائه في مركز القيادة الثورية على العمدة، لتحوله إلى أداة تنفيذ ذليلة في يد الحكومة ... ولكن عبد العاطي الثائر يختلف في نهاية التطوير عن الشاويش عبد الله الثائر: إنه هنا لم يحاول مطلقا أن يعترض على العمدة، وهو يأمره بأن يحضر له العصا من داخل البيت، ولا هو يأمره بأن ينام على الأرض كعبد ذليل، ولا هو ينهال عليه بالضرب المبرح حتى تتعب يداه ... ومعذرة لأنني نسيت أن عبد العاطي قد اعترض مرة واحدة بأن النوم على الأرض - وهي مبللة - سينتج عنه أن تتسخ بدلة الحكومة!
لا أدري إن كان المؤلف قد عني بتقديم موقف إنساني جاد على طريقة الكتاب الروائيين بحق، أم أنه كان منصرفا إلى عرض مشاهد هزلية مضحكة على طريقة كتاب «الصالات» في مصر! إننا بعد هذا أمام موقف روائي ثالث، يدور في نفس الفلك الكوميدي الهازل: لا مناص قبل تطوير الموقف من تخطيط الحدث، والحدث في هذه النقلة التخطيطية الجديدة يبدأ بموت العمدة، ثم بإقامة سرادق العزاء، ثم بإقبال وفود المعزين: الأعيان ورجال الحكومة في الإقليم وعلى رأسهم المأمور. وتبدأ علمية التطوير الموقفي داخل السرادق؛ هؤلاء المكافحون من أهل القرية ينتمون شعوريا إلى حزب الوفد، حزب القيادة الشعبية في ذلك الحين، أما المأمور ورجاله فينتمون شعوريا ورسميا إلى حزب الشعب، وهو حزب الأقلية الحاكمة بزعامة صدقي؛ والقرية تريد أن تنتهز المناسبة لتعبر عن شعورها الحاقد المكبوت، بالثورة السلبية التي تتنفس من خلال سلوك لفظي ساخر، وعندما يحس الشيخ إبراهيم مقرئ السرادق بقدوم رجال الحكومة، يبدأ في تلاوة آية جديدة ليوجه مضمونها اللفظي إلى المأمور، هي:
وانظر إلى حمارك ...
وتنطلق الضحكات هنا وهناك، وتشيع التعليقات الساخرة، وترتسم علامات التشفي على مختلف الوجوه، وتتركز النظرات على شخص واحد كان هو المقصود بالآية، كلما تعمد المقرئ أن يعيد تلاوتها من جديد ... وأخيرا ينفجر المأمور في صوت المغيظ المحنق: «صدق الله العظيم؛ طيب يا أخي ما تقرأ آية وحشرناهم يوم القيامة وفدا! طيب يا بلد، مش انتو بتوع يحيا الوفد!» ويعقب أحد الفلاحين في سخرية: «شوف شوف؛ وانظر الى حمارك؛ بس يا بتاع وانظر الى حمارك!» ليسمح لي مؤلف «الأرض» والناقد الذي دافع عن أصالة العمل الروائي في «الأرض»، أن أقول لهما دون أي تجن أو مغالاة: إنني أشتم هنا رائحة المؤلف المصري في برامجه الهزلية التي يقدمها لرواد الصالات!
إنها تجربة شمية على حد تعبير الأستاذ الناقد. ونحن ما زلنا في حدود هذه التجربة عندما نرى عبد الهادي وعلواني على الجسر، يتحدثان عن الأيام السود التي عرفتها القرية في عهد حكومة صدقي - وكأن القرية المصرية في نظر المؤلف قد عرفت الأيام المضيئة في ظل العهود الأخرى السابقة - ويستعرضان حالهما وأحوال الآخرين، حين مر عليهما مهندس من الري ومعه أحد أتباعه، ليسألهما عن سر هذا الحديث الذي خيل إليه أنه خاص بسرقة المياه؛ لقد تصدى له علواني ليطلعه على حقيقة الموقف، بمثل هذه البهلوانية اللفظية: «لا والنبي يا جناب الباشمهندس؛ وحياة مقامك ورقبتك؛ والله ما في حاجة من دي أبدا يا حضرة الهندزة؛ واحنا أصلنا قاعدين هنا كده يعني؛ أصل الحكاية يا حضرة الحكومة ...» علواني هذا الذي أضفى عليه المؤلف صفة الوعي، فعرف أن الشخص الذي يخاطبه هو «جناب الباشمهندس»، كيف تجرد فجأة من هذه الصفة فأصبح هذا الشخص مرة وهو «حضرة الهندزة»، ومرة أخرى وهو «حضرة الحكومة»؟ إننا هنا كما كنا من قبل نصطدم بواقعية لفظية مزيفة، نتيجة لضعف الرؤية القصصية لمجرى الخط الانسيابي لحركات الشخوص.
والمؤلف يقدم إلينا أحيانا مفاتيح مواقف؛ بلا مواقف! لقد كانت القرية كلها تتحدث يوما عن الإهانة، التي ألحقها العمدة بشيخ الخفراء السابق وشيخ الثائرين: محمد أبو سويلم؛ إهانة تتعلق بشرف زوجته، وتمس العرض في الصميم، ومع ذلك فلا يتحرك الثائر المثالي، والقرية كلها من خلال العمل الروائي تنتظر أن يتحرك، وتتوقع أن يكون دم العمدة هو الثمن الوحيد؛ ونسي المؤلف هنا أن يرسم موقفا من المواقف الحية الزاخرة بالتطوير، على أساس البعد المحدد من قبل لتلك الشخصية الرئيسية، وعلى أساس الوضع الاجتماعي لمشكلة الأعراض في الريف المصري؟
وشخصيات المؤلف في مجموعها شخصيات مسرحية، أعني أنها تتسم بهذا الطابع المسرحي سواء في الحركة أو الحوار؛ إنهم جميعا باستثناء الشيخ الشناوي ومحمد أفندي يصيحون دائما في لهجة خطابية رنانة، ويتحركون دائما بأسلوب دراماتيكي مصطنع ؛ وهي حلقة أخرى في سلسلة الأخطاء التكنيكية، تضاف إلى أن القارئ لا يخرج بأي رسم تخطيطي لشخصية الباشا مثلا، مع أنها الشخصية الواقفة بكيانها الموضوعي الضخم على الطرف الآخر من خط الصراع!
Unknown page