والشك الأكبر إنما يعرض لهذه السيرة من أطباق النوادر الكثيرة فيها على اجتماع الخوجة نصر الدين بتيمورلنك أثناء غزوته لبلاد الروم، والمشهور أن الخوجة نصر الدين توفي سنة 673 أو سنة 683 هجرية، فهو قد توفي قبل مولد تيمورلنك بأكثر من نصف قرن، ولا يعقل أنه رآه وحضر مجالسه إلا إذا كانت وفاته حوالي سنة (1405م) التي توفي فيها تيمور.
ولا يسهل التوفيق بين هذه الروايات إلا على فرض من فرضين: أحدهما خطأ المتأخرين في تعيين السنة التي توفي فيها الخوجة نصر الدين، والثاني أن تيمورلنك لقي شيخا آخر على شاكلة الخوجة نصر الدين فتداخلت الروايات وعلقت البقية الباقية منها بالاسم المشهور.
وأيا كان صواب النسبة في بعض النوادر التي تحتمل الخلاف فهناك جملة من النوادر لا اختلاف في وضعها بعد عصر تيمورلنك وبعد العصر المفروض للخوجة نصر الدين، وهي النوادر التي وردت فيها الإشارة إلى المخترعات الحديثة كالبندقية وساعة الجيب، أو كالنوادر التي تكذبها وقائع التاريخ العثماني وتاريخ آسيا الصغرى على الخصوص. •••
ومن الواجب أن نسلم - بداءة - بوضع العدد الأكبر من النوادر التركية أو نقلها من رواة الأمم الأخرى؛ لأن حصولها كلها من رجل واحد أمر لا يسيغه العقل ولا يروى له نظير في السوابق التاريخية، فلو أن هذا الرجل عاش ليخلق تلك النوادر وعاش الناس معه ليسجلوها، لما اجتمع من أضاحيكه تلك المئات التي تملأ المجلدات، ولا استطاع أن يأتي بما فيها من النقائص العقلية والخلقية، فضلا عن نقائص الجغرافيا والتاريخ.
فوضع العدد الأكبر من النوادر أمر مفروغ منه لا يجوز أن يحتج به المحتج على بطلانها واختلافها من أصولها، ولعل هذه النوادر الموضوعة أصح في الدلالة على أزمنتها وبيئاتها من وقائع السجلات والأرقام.
قيل إن بين الجليل الرهيب والمضحك المغرب قيد شعرة أو لمحة عين، ولا شك في هذه الحقيقة من الوجهة النفسية كما تقدم ؛ لأن الهول يتحول فجأة إلى الضحك بطارئ من طوارئ التغيير والتبديل التي تتعاقب في أيام النصر والهزيمة والقيام والسقوط بين الجبابرة وأصحاب الدولات. •••
ولا شك في هذه الحقيقة - أيضا - من الوجهة التاريخية إذا رجعنا إلى عصر تيمورلنك وأشباهه في تواريخ المشرق والمغرب، فليس أحفل بالأضاحيك من عصور التقلب وعصور الشدائد والأهوال.
وظاهرة أخرى من الظواهر الناطقة في النوادر الموضوعة تنبئنا عن زمانها الذي فشت فيه وشاع اختراعها بين جميع الطبقات.
فمنذ القرن السادس للهجرة (والثاني عشر للميلاد) هبطت المعرفة من ذروة الكرامة، وأصبح العارف الأريب من يحتال على رزقه بالمجون والمنادمة والتحامق والتشبه بالجهلاء وأصحاب الجدود من ضعاف العقول، وشاع القول «بحرفة الأدب» مغنية عن القول ببؤس العالم الأديب.
في أوائل هذا العهد ظهرت مقامات الحريري التي يجمع بطلها بين البؤس والبلاغة والبراعة في الحيلة، وفيها تواتر النظم في شكوى الزمان مقرونة بشكوى الأدب والعجب من قسمة الأرزاق، وهذه هي الناحية الأدبية من تلك الشكايات وتلك الحيل «الإنشائية» أو الفنية. وأما الناحية الاجتماعية العامة فآيتها هذه النوادر التي تعد بالمئات ولا تظهر فيها براعة اللبيب الأريب إلا في الاحتيال على أكلة أو في الاحتيال على دفع المحتالين الطامعين في قوته الهزيل. •••
Unknown page