فنهاية الطريق إذن هي بداية لطريق من نوع آخر والعكس صحيح، وهذا التزاحم المكاني لنهايات الخطوط هو صفة من مستلزمات النقل الحديث. وقد كان كذلك بدرجات أقل في الماضي، والخطورة الناجمة عن تزاحم نهايات الطرق في نقاط محدودة نسبيا من مدن العالم وموانئه، وعدم توزيع هذا التزاحم على نقاط أكثر، يؤدي إلى اختناق هذه النهايات بالحركة ويسبب بذلك مشاكل تنتهي ببطء التوزيع للسلع والأشخاص على اختلاف نهاية مقاصدهم، كما تسبب في إنشاء مخازن كثيرة تعرض البضائع للتلف أو الفقد، وهما خسارة مادية وضياع لسمعة ومستقبل هذه النهاية من الطرق.
ولهذا فإن تخطيط النقل والمواصلات يجب أن يراعي في حزم توزيع نهايات الطرق بحيث لا تتزاحم وتتكدس وتؤدي في النهاية إلى شلل يعجز الطريق عن عمله فيتحول تدريجيا إلى نهاية أخرى. كما أن توزيع النهايات فيه، في نفس الوقت، توزيع عادل لنشاط وسائل النقل والتجارة والعمالة القائمة عليهما على مدن أكثر؛ مما يقلل الفوارق الاقتصادية بين مدينة واحدة ومدن أخرى عديدة في ذات المنطقة أو داخل الدولة الواحدة؛ وبالتالي يجنبها الهجرة المتزايدة إليها على حساب المدن الأخرى. ولسنا بحاجة إلى مزيد من التفسير للأضرار الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والخدمات الناجمة عن تيارات الهجرة المتزايدة إلى مدن قليلة في عالمنا الراهن.
الفصل الثالث
النقل والتنظيم الاقتصادي
يعتمد النقل - لكي ينجح في أداء المهام الملقاة على عاتقه - اعتمادا أساسيا على فهم أصول الاقتصاد والإنتاج والاستهلاك وأنماطها المختلفة، وفي تطورها المستمر، وهو أيضا يعتمد اعتمادا كبيرا على فهم الأسس والقواعد التي تفرضها ظروف الأرض جغرافيا وبشريا. (1) الظروف الجغرافية وتأثيرها على النقل (1-1) الظروف الطبيعية
تتأثر خطوط النقل بصورة قد تكون حاسمة وفعالة بالأشكال العامة لسطح الأرض من تضاريس أو أنهار أو بحيرات ومستنقعات. وكذلك تتأثر بتوزيع كتل اليابس والماء؛ مما يدعو إلى إطالة أو قصر خطوط الملاحة البحرية، ونستطيع أن نتبين هذه الآثار الطبيعية فور المقارنة بين خريطتين للنقل والمظاهر الطبيعية؛ ففي الخريطة رقم 3-1 نستطيع أن نتبين أثر الجبال والهضاب والغابات في تخفيض كثافة شبكة النقل الحديدي في الولايات المتحدة بالمقارنة بالسهول الشرقية والوسطى ووادي كاليفورنيا، وتوضح الخريطة نفسها عددا كبيرا من الحقائق الأخرى المرتبطة بالنشاط البشري وأثره على كثافة النقل الحديدي.
خريطة 3-1: شبكة الخطوط الحديدية في الولايات المتحدة بالارتباط بالظواهر الطبيعية والبشرية. «أ» مناطق الشبكة الحديدية الكثيفة (نطاق السهول والمدن والصناعة والخدمات). «ب» مناطق الشبكة الحديدية المتوسطة الكثافة (نطاق السهول والزراعة). «ج» مناطق لا تكون فيها الخطوط الحديدية شبكة، وإنما خطوط متباعدة (الجبال ومناطق الرعي والتعدين). «د» الحدود السياسية للولايات المتحدة: (1) منطقة جبال الأبلاش ونيوإنجلند. (2) منطقة هضبة أوزارك. (3) الغرب الأمريكي الجبلي (جبال الروكي والكاسكيد وسيرانفادا) والهضاب العالية الباردة في الشمال والجافة في الجنوب). (4) نطاق زراعي جنوبي قليل المدن. (5) السهول العليا الأمريكية: نطاق الرعي الواسع. (6) فلوريدا: غابات ومستنقعات. لاحظ كيف تعبر الخطوط الحديدية جبال الأبلاش في قسمها الشمالي لتربط منطقتي الساحل الشرقي والبحيرات العظمى، بينما يمتد خط حديدي بطولها في النصف الجنوبي من الأبلاش بمحاذاة وادي التنسي. لاحظ أيضا كيف تكون الخطوط متقاربة في السهول العليا ثم تأخذ في التباعد في الغرب الجبلي والهضبي.
وما ينطبق على النقل الحديدي ينطبق أيضا على النقل البري، وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على غيرها من الدول في أوروبا وفي الهند والصين، وأماكن أخرى من العالم. وقد اخترنا الولايات المتحدة كنموذج لإيضاح المؤثرات الطبيعية والبشرية على شبكة النقل؛ لأن الولايات المتحدة تمثل - في مجموعها - أكثف شبكات النقل في العالم بالنسبة لمساحة واسعة. ومن الطبيعي أن نجد هذا النمط الكثيف في مناطق محدودة من المراكز الصناعية المدينية في بعض دول أوروبا الغربية كمنطقة الراين الأدنى في هولندا وبلجيكا، وحوض الرور، ومنطقة لندن، لكن هذه الشبكات لا تغطي مساحات واسعة كما هو الحال في الولايات المتحدة، وبرغم كثافة النقل الداخلي الأمريكي، وبرغم التقدم التكنولوجي الأمريكي في وسائل النقل، إلا أن العوائق الطبيعية أمام الاستثمار والاستيطان والنقل لا تزال قائمة. وهذا سبب آخر دعانا إلى اختيار الولايات المتحدة بالذات لهذا الغرض.
وهناك أمثلة كثيرة لتوضيح المؤثرات الطبيعية على النقل؛ فالحواجز المرجانية في المناطق الساحلية، أو طبيعة خطوط السواحل التي تعوق نشأة الموانئ والمرافئ الطبيعية، يشكلان مثالين آخرين على تدخل الظروف الطبيعية في نشأة الموانئ واتجاه خطوط الملاحة. والخلاصة أن خطوط المواصلات كثيرا ما تضطر للدوران حول العوائق الساحلية والجبلية، والنتيجة نفسها نلمسها في عدد آخر من الأشكال الطبيعية للأرض: المستنقعات والكثبان، والمناطق التي تتعرض للانهيارات الجليدية خلال الشتاء أو الربيع في العروض الوسطى، والخوانق والأودية العميقة في الأراضي التي تتصف بالوعورة والتضرس، كذلك تقوم البحيرات والأنهار العريضة بمثل هذا الدور المعيق للحركة، وكل هذه الأشكال تجبر خطوط المواصلات على الالتفاف والدوران حولها، وهو ما يؤدي إلى إطالة خطوط المواصلات كثيرا. ولا شك أن في إمكان التكنولوجيا الحديثة التغلب على بعض هذه العقبات، ولكن ذلك - فضلا عن كونه أمرا شديد التكلفة - فإنه لا ينفذ إلا في المناطق التي تستوجب إيجاد وإنشاء الخطوط المباشرة نتيجة لكثافة الحركة الاقتصادية والبشرية، وهذا أمر لا يحدث إلا نادرا؛ ذلك لأن نطاقات العوائق الطبيعية في مجموعها، لا تشكل أماكن الكثافة السكنية أو النشاط البشري الكثيف بطبيعة تكوينها الوعر أو المستنقعي أو الرملي.
والاستثناء الوحيد هو بناء الجسور على الأنهار مهما كان عرضها، بل بناء الجسور المعلقة الطويلة على المضايق البحرية حينما تتوافر الاستثمارات ويكون النقل في حاجة إليها، وبلا شك فإن الولايات المتحدة قد فاقت الدول الأخرى في بناء الجسور الضخمة، كتلك التي توجد في نيويورك وتربط بين منهاتن ولونج أيلند، وفي سان فرانسسكو عبر البوابة الذهبية. وخلال هذا العام تم ربط آسيا وأوروبا بجسر طويل ضخم على البسفور من أجل التغلب على مشكلة عبور السيارات والقطارات فوق هذا المضيق. أما البحيرات فغالبا ما توجد فيها وسائل نقل مائية منتظمة تقدم خدمات العبور للحركة التي لا تريد أن تدور حولها.
Unknown page