وفي المساء، كان الرقص على أعشاب المروج يعطي المشهد جمالا فيغار منه شعاع الشمس المائت، وكانت الأغصان تذيب على أوراقها الخضراء موسيقى الحفيف فتمتزج نغماتها بنغمات الناي من فم المعاز السكران وتتآلف بسرعة في أفئدة بعض العاشقين هامسة في آذان الحب أسرار الحياة! وعندما بدأ المزمار يشعر بتعب من تتابع النغمات، وبدأ العرق يتصبب من جبين الراقصات وينعقد على شعورهن، كنت جالسا على صخرة منفردة أتتبع بنظراتي وبقلبي هؤلاء العذارى وقد انعقد التعب على عيونهن، مفكرا بتلك العاطفة الجميلة العذبة متأملا أثوابهن الحريرية المخرمة، مصغيا إلى ذلك الحفيف المتصاعد من تلك الأردية الفضفاضة، ناظرا إليهن يبتعدن شيئا فشيئا ثم يتوارين عن عيني، حتى إذا ما برز البدر على قمة الجبل رأيت بعض العاشقين، وقد تغافلوا عن الذهاب، يتأبطون أذرع بعضهم ويتوارون في الظلام!
أنا في مخدعي الآن بين جدران خرساء مبطنة بالظلمة، الجميع راقدون في مضاجعهم، ولا أسمع إلا حفيف الورق تحت النافذة، فلأنم! ولكني لا أقدر أن أغمض جفني! فلأصل! - ولكن أفكاري المشتتة لا تسمع صلاتي! فأذني لا تزال ملأى بنغمات الرقص! عبثا أحاول الرقاد، فتلك الحفلة لا تزال ماثلة أمامي، والأحلام الرقاصة تستفيق في مخيلتي، وأخيلة الراقصات تتنفل بين أهدابي! يخيل لي أني أرى عينا تشع في الظلمة، وأشعر بأيد عذبة تجس يدي المضطربة، ويخال لي أيضا أن ضفائر ذهبية تلامس جسدي المختلج، وأن باقات من الأزهار الذابلة تلقى علي من جبين بعض الفتيات الجميلات، وأن شفاها عذبة تتلفظ باسمي في هذا السكون الرهيب! لوسيا! أينا! بلانش! ماذا تطلبن مني؟ أية قوة هو الحب؟ فإني ألامس عذوبة إلهية من خلال أحلامه! ولكن هذا الحب لم يتفتح بعد في حياتي، إنه لكوكب ناري وما هذه الساعة إلا فجره الأول. آه! ما كان أسعدني لو ألقت السماء بين ذراعي حلما من تلك الأحلام الحية، وما كان أهناني لو أتيت بعذراء طاهرة إلى هذا المكان، تكون أول شعاع من أشعة الحياة، فأحيا عشرة أجيال في يوم واحد: إني لأشعر بالحب هذا المساء، وما نفسي إلا الحب ولذاته! لا: فلأطرد من قلبي تلك الصور الذابلة ولأعد إلى كتبي القديمة أطالع في صفحاتها سير القديسين، تلك هي الكتب على منضدتي، ولكن عيني عبثا تطفوان على سطورها السوداء، فالذي يقرأ الآن إنما هو مقلتي لا أفكاري! •••
لماذا كانت شقيقتي تبكي عند دخولها إلى المنزل بعد أن كانت أكثر الفتيات جمالا وزهوا في تلك الحفلة الراقصة؟
في 6 أيار سنة 1786
عرفت سبب بكاء شقيقتي، أأقدر أن أشتري سعادتها بتضحيتي؟ منذ هنيهة كنت أهيم في الحديقة مفكرا، فسمعت تمتمة من غرفة والدتي تتصاعد على درجات الأثير ثم تتقطع رويدا رويدا وتختنق في الظلمة، فاقتربت من النافذة السفلى ورفعت عرائش الكرمة عن المصراع ثم أصغيت إصغاء تاما ونظرت إلى داخل الغرفة فأبصرت والدتي جالسة على حافة السرير تقرأ في صفحة ملأى بالأسطر السوداء، وكان خيال شعرها الأسود يحجب عني وجهها اللطيف، فسمعت نقطا متتابعة تسقط على تلك الورقة ورأيت شقيقتي جالسة بالقرب منها ويدها اليمنى حول عنق أمي وجبينها مستلقى على كتفها بحزن أليم وشعورها المبللة بالدموع ملصقة على خديها - «أحقيقة يا جوليا أنه يحبك وأنك تحبينه؟ - أكثر مما أحب نفسي! أجابت شقيقتي وقد احمر خدها من الحياء - واأسفاه! إني لأفقه جيدا معنى هذا الإقرار المحزن الرءوف أجابت أمي، فلا أسعد لدي من أن أراك متحدة يوما من الأيام، ولكن الله لضنين علينا بمثل هذه السعادة، فهو لا يكاد يجمعك بيد حتى يفرقك بيد أخرى، إن الحب لا يؤيد وحده دعائم الاتحاد، فالمال يا ابنتي هو الدعامة الكبرى لتأييده، المال! ... آه! لو كانت الدموع تستطيع أن تتحول إلى ذهب لكنت ترين كنوزا في عيون الأمهات! إن الخالق ليعرف ذلك! كم أتمنى لو تمكنت من شراء الزوج لك بمدامعي والزوجة لشقيقك العزيز، غير أن الله لم يهبني من متاع هذه الدنيا إلا الحقل الضيق الذي سوف يقسم بينك وبين شقيقك، فاجتهدي يا ابنتي أن تتناسي! - أتناسى؟ أجابت شقيقتي، فالموت أفضل عندي من ذلك، ثم إني لم أعد بعد ذلك إلا مزيجا من التأوهات والدموع، وكأن ملاكا من السماء همس في أذني بعض كلمات فتباعدت باكيا وهمت على نفسي بين أشجار الحديقة!»
في 17 أيار سنة 1786
قضيت النهار بالتفكرات ونزعت من صدري ذلك النزع الأليم بشجاعة وإقدام!
في 18 أيار سنة 1786
قلت لأمي هذا الصباح ما يأتي: «أشعر بأن الله يناديني إليه، فالتقوى الشريفة والإيمان الحي اللذان سقيتني إياهما يحملان الآن ثمرات ربما كانت مرة عندك وعند شبابي ولكنها حلوة وعذبة عند نفسي، إلى المبدع الخالق يا أمي! إن أشباح القديسين تدعوني إليها، فأود أن أرفع إلى الله أيامي الفانية كما يرفعون إلى المذابح آنية من البخور طاهرة! ما من شيء يجذبني على هذه الأرض، فلا أريد أن أدنس أقدامي على هذه الطرقات، حيث يمر قطيع الإنسانية على مستنقعات الخبث والرذيلة.
إني لأؤثر أن أتبع منذ الصباح طريقي الساكنة، وأن ألجأ إلى موئل الله، حيث السلام والهدوء والراحة! وإذا اقتضى أن أحمل حساما للقتال في هذه الحياة فإني لأختار واحدا يختلف عن غيره، وأموت رافع الرأس على حضيض المعمعة! ثم إن الحياة ثقيلة متعبة، فالأولى بي أن أحملها وحدها وأطرح ذلك الثقل الحديدي عن قلبي! ثقل الطمع والرغبات والمآرب! آه! لا تقاومي مشيئتي يا أمي وانزلي عند هذا الرجاء المفرح! لا، لا تقاومي، فسوف تكونين فخورة بهذه الكلمة التي تكاد أن تكون وداعا مرا، أي شيء أكثر وداعة من اسم الكاهن؟ آه! لا تخجلي من ذلك، فليس أشرف وأنبل من هذه الغاية يا أمي! إن الله الذي قسم الإنسانية أعطى لكل واحد قسمته، فمنهم: من أعطاه الأرض ليحرثها، ومنهم من أعطاه امرأة يحبها ويثمر منها أولادا، ومنهم من قال له: اجعل دويا في العالم، ولكنه التفت إلى القلوب الملأى بالمحبة والإيمان، قائلا لها: «أما أنتم فلا تحملوا شيئا من متاع العالم فستجدون كل شيء بين ذراعي»، إن الكاهن يا أمي لقارورة طاهرة، معلقة على قبة المذبح، حيث أشذاء الفجر والأعشاب العطرة تستحيل إلى بخار مقدس وتتصاعد إلى الملأ الأعلى! إن الكاهن لأرغن السماء يذيب نغماته على الأرض غير أن صوته لا يمتزج بدوي العالم ولا يتجاوز عتبة الهيكل، بل إنه يرفع إلى الله من ظلمات المعبد أنغامه المقدسة حاملة إلى الألوهية ألحان الطبيعة والإنسانية، ولكن ربما قلت يا أمي: «إنه يحيا معتزلا، ونفسه التي لا يذوب عليها شعاع المرأة تستحيل إلى خشونة وصلابة بين ظلمات الوحدة وجدران السكون»، لا يا أمي، فالمسيح يضع في قلبه عظمة المحبة واللين، فلا تخشي أن تفقد من نفسي عاطفة جعلتها وقفا لمحبتك! آه! إن الله الذي يناديني إليه ليس بإله حسود، بل هو الرحيم الشفيق الذي لا يطلب شيئا من نفوس الأبناء إلا ليضعه طاهرا في نفوس الآباء! سأكون رسولا لهذا الإله المحب وسأرفع نفسك الطاهرة إلى أعالي السماء بزفراتي ودموعي! لا تغمضي جفنيك يا أمي ولا تنظري إلي بهذا الحزن العميق بل قولي لي كما قالت سارة: «ليكن ما أراد المبدع الخالق!» وباركيني بيدك الطاهرة!»
Unknown page