Jinusayid
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
Genres
ثم حمل نفسه ورحل غير آبه لرد حسن مستنكفا عن أن يكمل الحديث معه.
أثناء ذلك وجده هشام على حاله وغضبه فقال له: ما بك، ومن هذا الرجل الذي كنت تجالسه؟ - لا شيء، يهودي أرعن يظن أن هذه أرضهم وفيها جذورهم العفنة. - ولماذا تدخل في مثل هذه النقاشات العقيمة معهم! لن يقتنعوا بالكلام، هؤلاء لا تجدي معهم غير القوة هم ومن يركنون إليهم. - دعك منهم وأخبرني عنك، فمنذ عودتي من دير ياسين لم أرك.
كانت الفرحة ظاهرة على وجه هشام الذي لم يعتد أن يخبئ سرا عن حسن منذ طفولته، فأخبره عن أول عملية قام بها ضد جنود الاحتلال وكأنه سيطير من الفرح، وبدأ يصف لحسن بصوت منخفض كي لا يسمعه المارة كيف عمدوا إلى كمين على الطريق الخارجي بين القدس ورام الله وتوزعوا على جانبي الطريق، وأخذ كل مكانه وصوب الجميع فوهة بارودته نحو الطريق الذي ستمر الدورية منه، منتظرين الإذن بالإطلاق من قائد العملية في الوقت المناسب. - وبعد انتظار دام قرابة الساعة سمعنا أصوات العربات العسكرية تقترب شيئا فشيئا، تجهز الجميع وبدأ قلبي ينبض بسرعة، كان شعورا متداخلا بين الفرح والخوف، الحماس والارتباك، الاندفاع والتراجع والشدة واللين، تلك الدقائق القليلة التي انتظرتها حتى تصل العربات العسكرية إلى منتصف الكمين، كانت طويلة بقدر تعدت حدود الزمن، شعرت أن الساعة توقفت عن الدوران في تلك اللحظة، وبت أقول بنفسي: هيا هيا، نفد صبري وأنا أراقب القائد وأنتظر أن ينزل يده لكي تبدأ أول معركة لي مع الحق ضد الباطل، مع المظلوم ضد الظالم، مع المغتصب ضد الغاصب.
وما إن وصلت العربات وأصبحنا نرى الجنود أمامنا بوضوح حتى أنزل القائد يده إيذانا ببدء المعركة، فخرجت الطلقات الأولى من فوهات بواريدنا المصوبة عليهم، فتساقط الجنود أمامنا كتساقط أوراق الشجر في يوم عاصف من أيام الخريف، بعدها حمي وطيس المعركة ولم يكن لصالحنا استمرارها أكثر، فتقدم المقاتلون ليقضوا على من بقي من الجنود الذين احتموا بين عرباتهم، أصيب عدد من مقاتلينا لكن لم يمت أحد، وقتلنا جميع من في الدورية، ثم حملنا الأسلحة وأضرمنا النار في العربات، ثم انسحبنا من المنطقة كلها، قبل أن تصل الإمدادات العسكرية لهم.
الفصل الخامس عشر
وارسو - بولندا 1940م
الأسوار المبنية من الطوب الأحمر الفاصلة بين الغيتو ووارسو كأنها الحد بين الجنة والجحيم، بين النور والظلام، بين الحرب والسلم. هنا الأوبئة والأمراض وافتقار لأقل ما يحتاجه الإنسان من سبل العيش، وخلف هذا السور يبقع الألمان ومن يواليهم من البولنديين في رغد ونعيم.
كان الغيتو على هيئة دولة كاملة، لكن داخل سجن كبير محاط بأسوار من كل جوانبه، وضع المجالس اليهودية فيه ليقوم بدور الحكومة؛ إذ كانت لديه منظومة شرطة تنفذ ما تريده بالقوة، ويحتفظ بأسماء جميع الموجودين في الغيتو، ويقدم أسماء الوفيات والولادات، وأعمار الشباب القادرين على العمل ومهنهم، والعجائز والمعاقين وغيرهم، إلى النازية في سجلات منظمة ومرتبة تحت إشراف النازية.
في بداية الأمر أخبروهم أن هذا المكان مؤقت ولأجل اليهود أنفسهم؛ لأن بقاءهم في المدن والقرى خطر على حياتهم جراء أعمال الشغب المتوقعة كما حصلت في ليلة التاسع من نوفمبر 1938 «ليلة الزجاج المحطم»، ومن هنا سيتم نقلهم إلى الأماكن الأكثر أمنا بعد تهيئتها ضمن «برنامج إعادة التوطين»، هكذا انتشرت الأخبار بين سكان الغيتو.
تم توزيع القادمين الجدد من جميع أنحاء ألمانيا إلى الشقق في الأحياء المتفرقة داخل الغيتو، حصل مايكل على غرفة في شقة أحد اليهود البولنديين، كان رجلا ستينيا أخبرهم أن هذه شقته قبل دخول الألمان إلى وارسو، وقد تم إجباره على استقبال اليهود فيها، كان كلامه فيه الكثير من جرح للمشاعر يظهر دوما انزعاجه الشديد من وجودهم في بيته، سأله مايكل في أحد الأيام: كيف تم بناء الغيتو وفصلكم عن المدينة قبل مجيئنا؟ - الغيتو من أحياء المدينة نفسها، لكن هذه الأحياء كانت اليهود تقطنها بكثرة؛ لذا تم عزلها وأصدروا الأوامر ببناء السور بين البيوت والبنايات وحتى الشوارع والأزقة، وتم نقل بقية اليهود من الأحياء الأخرى إلى هنا قسرا. - وماذا عن البولنديين أصحاب البيوت والمتاجر هنا في هذه الأحياء؟ - أيضا تم إجبارهم على ترك ممتلكاتهم بالاتفاق مع البلدية، وتم تعويضهم من ممتلكات اليهود في الأحياء الأخرى، هكذا أصبحت العملية متوازنة بين هنا وهناك. - لكن عند مجيئنا هنا رأيت زحاما شديدا في الأحياء، كيف حصل التوازن، هل أحياء وارسو كان الزحام فيها طبيعيا قبل الاحتلال؟ - لا، بالتأكيد، لكن بعد الاحتلال تم جلب اليهود من جميع أرجاء المدينة إليها، إضافة إلى اليهود القرويين، فحصل الزحام ومن ثم أتوا بكم، فأصبح الزحام هنا لا يطاق.
Unknown page