في مثل هذا العالم الذي يقوم على قواعد العلم دون غيرها تصبح الحياة آلية يتشابه فيها زيد مع عمرو وتتلاشى المميزات الخاصة لكل فرد.
كان هكسلي في كتابه هذا متشائما في مستقبل البشرية إلى أقصى الحدود. وبعدما مرت السنون أدرك أن هذا التشاؤم لا يؤدي إلى إصلاح أسباب المعاناة والشقاء، فأخرج كتابا آخر أسماه «عود إلى العالم الطريف» راجع فيه آراءه السابقة، وكان أكثر تفاؤلا وأشد ميلا إلى الفكر البناء، ودعا إلى المزيد من الديمقراطية والحرية، وإلى رفع مستوى المعيشة بضبط النسل وتنظيم الأسرة.
ولبث يفكر في تصوير عالم جديد تتوافر للمرء فيه الحرية والسعادة، وأخيرا انتهى إلى رسم صورة خيالية لهذا العالم في قصته «الجزيرة» التي أقدمها اليوم إلى القراء.
ولي مع هذا الكتاب قصة؛ فلقد كنت دائما شغوفا بكل ما كتب هكسلي أقرؤه وأتدبره وأنقل بعضه إلى العربية بنصه الكامل أحيانا وفي صيغة ملخصة أحيانا أخرى. حتى كان صيف عام 1962م حينما أتيحت لي فرصة لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وطفت بالعديد من ولاياتها. ولما بلغت سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا وقابلت هناك المسئولين عن تنظيم رحلتي، بادرني أحدهم بقوله إنهم يعلمون عني أني من المولعين بأدب هكسلي. ولما كان الرجل في ذلك الحين يقيم في بركلي على مقربة من مدينة سان فرانسسكو أستاذا زائرا في جامعة كاليفورنيا، يلقي على طلبتها محاضرات في الأدب المعاصر؛ فقد اتصلوا به يخطرونه بقدومي، وتفضل بدعوتي إلى زيارته بمنزله. ولبيت الدعوة بسرور بالغ لأنني وجدت فيها فرصة ألتقي فيها بهذا الكاتب العظيم، وأجري معه حديثا يزيدني علما وبصيرة بفكره ونظراته في الحياة.
ودهشت لبساطة المنزل، وتواضع الرجل، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث زهاء ساعتين، وأذهلني منه عمق ثقافته واتساعها وشمولها؛ فهو على دراية تامة بتقدم العلوم الطبيعية، وبالتاريخ السياسي وتاريخ الأديان، وبكثير من اللغات الحية واللغات البائدة، وآداب الشعوب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، ونظريات التطور وعلم النفس الحديث، والفنون القديمة والحديثة بضروبها كافة، وعلوم الفلسفة والتربية ... ماذا أقول! إنني لا أكون مغاليا إذا قلت إن الرجل موسوعة علمية كاملة، امتزجت في شخصه مختلف المعارف والثقافات، وكون لنفسه من هذا المزيج فلسفته الخاصة التي أخرجها في كتب أدبية رائعة تتسم بروعة الأسلوب والأداء.
وراعني من الرجل خاصة وعيه لمشكلات هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها، منطقة الشرق الأوسط، مهبط الوحي والديانات، وعطفه على العروبة وآمالها، وميله إلى التصوف وتقديره له، وإيثاره التصوف الإسلامي على التصوف البوذي الهندي؛ لأن النوع الأول من التصوف منشئ بناء، في حين أن التصوف البوذي سلبي هدام، لا يحث على عمل، ولا يدفع إلى خلق أو ابتكار. وأخذ يروي لي أبياتا من الشعر بالإنجليزية هي ترجمة لشعر جلال الدين الرومي الذي أبدى إعجابا شديدا به. كما عبر عن أسفه الشديد لأنه لا يعرف اللغة العربية لكي يتمكن من أن ينهل من الثقافة الإسلامية من مصادرها الأصيلة.
وأردت أن أظفر من الرجل في نهاية الزيارة بحديث عن أحدث آرائه في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وتقدم العلوم والحضارة البشرية عامة، أنشره بعد عودتي لبلادي، فقال: خير من حديث مطول ربما لا يلم بكل أطراف الموضوع أن أهدي إليك آخر مؤلفاتي؛ لعلك واجد فيه بغيتك. ونهض إلى مكتبته وعاد منها بكتاب أمهره بعبارة إهداء لطيفة، فقبلته منه شاكرا، ثم انصرفت.
والكتاب الذي أهداني إياه هو قصة «الجزيرة» التي أشرت إليها من قبل في هذه المقدمة، ولعل هذه القصة هي آخر ما كتب قبل وفاته. وعكفت على الكتاب أقرؤه، وعزمت على أن أنقله إلى اللغة العربية، ومضت السنون دون أن أحقق ما اعتزمت حتى كانت هذه الفرصة الطيبة التي أتاحها لي المجلس الأعلى للثقافة.
والكتاب عبارة عن قصة حول جزيرة خيالية اسمها بالا تقع في بقعة نائية بالمحيط الهادي بعيدة عن حضارات الشرق والغرب، عاش أهلها مائة وعشرين عاما في مجتمع مثالي توافرت فيه كل أسباب الحرية والسعادة، لا يتقيد بما ألفنا من نظم، فلا هو بالمجتمع الرأسمالي، ولا هو بالمجتمع الشيوعي. أهله متصوفون يؤمنون بالعلم الحديث وإمكاناته، العلم الذي يتحرر به الإنسان، وليس العلم الذي يستعبد الإنسان. وإن كان العلم في قصة «العالم الطريف» قد جعل الحياة على الأرض جحيما؛ فالعلم ذاته في هذا العالم الجديد قد أقام على الأرض نعيما.
وقد تم هذا اللقاء بين الشرق والغرب، وهذا التزاوج بين العلم والإيمان عندما وفد إلى جزيرة بالا طبيب من أهل الغرب يمثل العلم الحديث استدعاه حاكم الجزيرة لمعالجته من مرض عضال ألم به وكاد أن يودي بحياته، وهذا الحاكم رجل بوذي مغرق في تصوفه، وأفلح الطبيب في علاج الرجل فنشأت بينهما صداقة قوية ترمز للجمع بين العلم والدين، واتخذ الحاكم طبيبه وزيرا له، وتعاهدا على إصلاح الأمور في مملكة بالا على هذا الأساس. وسرعان ما أخذ الناس جميعا بهذا الأسلوب الجديد من العيش الذي يجمع بين العلم والإيمان.
Unknown page