213

" أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة "

، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال:

" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا ".

وعضده كذلك بحديث حذيفة عند البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه.. "

" الحديث ".

وذهب أكثر مفسري الخلف إلى أن ذلك من باب المجاز، فإن عدم وعي القلوب للحق ونبوها عن قبوله جعلها كأنها مختوم عليها بسداد يحول بينها وبين وصول الحق إليها، ويقال مثال ذلك في ختم الأسماع، ومثله في تغشية الأبصار، وإيضاح ذلك، أن يصور رفض عقولهم لما أنزل الله من هدى - بسبب كفرهم بالله الذي ملأ تفكيرهم وسيطر على نفوسهم ومج أسماعهم لأصوات الحق - في صورة الاستيثاق بالختم، ويصور إعراضهم عن النظر في آيات الله الدالة على وحدانيته، في صورة تغشية الأبصار بغشاوة حائلة بينها وبين الإبصار، فيكون المجاز استعاريا ويصح أن يكون من باب المجاز التمثيلي، بأن تشبه هيئة منتزعة من تصميمهم على الكفر، وإعراضهم عن داعي الحق الصادع بقواطع البراهين، بهيئة الختم المنتزعة من فعله وفاعله، وهو الخاتم، والواقع عليه الفعل، وهو المختوم عليه، وتشبه حالة أبصارهم في عدم تأمل دلائل وحدانية الله وصدق رسوله بهيئة الغشاوة، ويجوز أيضا أن يكون من باب المجاز الارسالي، فإن لازم الختم والغشاوة عدم العقل والحس، فيراد هذا اللازم بذكر ملزومه وأنكر أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول ووصفوهم بالظاهرية، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في القولين أن الثاني هو الراجح، فإن اقتران القلوب بالأسماع، واشتراكهما في الختم، وذكر غشاوة الأبصار من بعد، قرائن كافية لصرف لفظ الختم عن حقيقته إلى مجازه، فإن الأسماع يتعذر أن يكون ختمها حقيقيا، فإذا حمل ختم القلوب على الحقيقة، كان ذلك من باب حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في إطلاق واحد، وذلك ما لا يصح، على أن ختم الأسماع لو كان حقيقيا ما وصل إلى مسامعهم صوت، وكذلك يتعذر حمل الغشاوة التي في الإبصار على معناها الحقيقي، إذ لا غشاوة حسية تشاهد، ولو أن عليها غشاوة حسية لامتنع عليها الابصار رأسا، وذلك لا ينافي أن تتأثر القلوب تأثرا محسوسا بمعصية الله، كما يقيده ظاهر حديث أبي هريرة، وحديثي حذيفة - رضي الله عنهما - على انني أميل إلى أن المراد من هذه الأحاديث تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يعرو القلوب بسبب المعصية من الانقباض عن الحق، واستثقاله والانبساط للباطل، والارتياح له، في صورة الأمر المحسوس تيسيرا للأفهام، وتقريبا للأذهان، كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم في غالب كلامه.

والغشاوة ما يغشى العين من موانع الابصار، كما قال الشاعر:

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة

فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

Unknown page