178

وفرض الانفاق في الاسلام مبني على اعتبار ما بأيدي الأغنياء - من الأموال - مال الله سبحانه، وما هم إلا مستخلفون فيه، ومؤتمنون عليه، والدلالة على ذلك واضحة في قوله تعالى:

وآتوهم من مال الله الذي آتاكم

[النور: 33]، وقوله:

وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه

[الحديد: 7]. والشعور بذلك يمنع الغني إذا مد يده إلى الفقير بشيء من المال من الاستعلاء والاستكبار، كما أنه يحمي الفقير حين يمد يده لتناول حقه من الغني من الذلة والانسكار، فالمعطي لم يعط إلا من مال الله، الذي من الله عليه به، وأوجب عليه الانفاق منه، والآخذ لم يأخذ إلا حقه الشرعي الذي فرضه الله له مما جعله تعالى في أيدي الأغنياء من المال، فلا من ولا إيذاء، ولا استعلاء ولا استكبار من قبل المعطي، ولا ذلة ولا انكسار ولا خضوع ولا استخذاء من قبل الآخذ، وهذه المبادىء القيمة هي التي أسعدت الأمة المسلمة عندما حرصت على تطبيقها، وكانت لها مخلصا من محن الفقر ولأواء الفاقه، حتى بلغ الحال في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - أن كان المسئولون عن الزكاة يجهدون في البحث عن الفقراء الذين يستحقونها فلا يجدونهم، حتى أمر عمر أن يزوج منها العزاب، وأن يبنى بها بيوت للذين لا يملكون مساكن، ولم تكن نعمة هذه المبادىء خاصة بالمسلمين، بل نعم بها أهل الذمة في ظل دولة الاسلام، فقد أغنوا بالزكاة عندما لم يوجد فقراء من أهل ملة التوحيد، ولو أن المسلمين اليوم - مع ما تحت أيديهم من الثروات التي من الله عليهم بها - أخذوا بهذه المبادىء، لبهروا العالم بأسره، ولما استطاعت لسان أن تنال من حرمة الاسلام أو تجرح كرامة المسلمين، ولكن تهاونهم بأمر الله، واستخفافهم بحقوقه، واندفاعهم وراء شهوات أنفسهم، هو الذي أوقفهم موقف الذلة والهوان بين الأمم، فمزقت كرامتهم الألسن، واستخفت بأقدارهم الأعين، ذلك لأنهم فتحوا على أنفسهم الثغور بتبذيرهم الجنوني لما أفاء الله عليهم من رزق، ووهبهم من فضل، في الفساد والدناءات، حتى أغنوا أعداءهم بأموالهم المتدفقة في دور البغاء ونوادي القمار وجميع أماكن اللعنة ومجامع الشرور.

يجري ذلك كله وجماهير من أبناء الاسلام لا تجد ما يسد عوزها من لقمة العيش الخشن، وأطمار الثياب البالية، أما آن لهؤلاء الغارقين في سكرة الهوى أن يفيقوا من سكرتهم، ويدركوا ما يهددهم من خطر لا يبقي ولا يذر - والعياذ بالله -؟ أما آن لهذه الأمة أن تستدرك فائتها، وتعيد كرتها فتستحق أن تسود في الأرض بما جاء به دينها من مبادىء الرحمة التي تعتبر الانسانية اليوم في أمس الحاجة إليها؟ أما آن لها أن تثبت للعالم بأسره أن سعادة النفس البشرية لا تكون إلا في ظل الاسلام الحنيف؟

إنني من منطلق النصح الديني الذي فرضه الله على عباده وجعله من صميم دينهم، أناشد كبراء هذه الأمة وأهل الحل والعقد فيها، أن ينظروا في مغبة حالها، ويسعوا لتخليصها من قيود المهانة التي ترسف فيها، ووطأة الذل التي تئن تحتها، وليس لذلك طريق إلا اتباع هدى الله الذي جاء به كتابه الكريم، ومثله رسوله العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولست أنسى هنا ما ذكره الداعية الكبير الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ، فبعد أن أسهب في بيان الأمراض المتفشية في العالم الاسلامي عامة، والعربي خاصة، قال: وقد اعتاد العرب - لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية - حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة.

وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير؛ جوع وعري وفقر فاضح، يرى الناظر مناظره الشائنة في عواصم البلاد العربية، فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلا، فبينما هنالك رجل عنده فضول الثياب، وزائد الطعام والشراب، لا يعرف كيف يستهلكه، إذا ببدوي لا يعرف قوت يومه وكسوته. وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع، إذا بفوج من النساء والأطفال عليهم ثياب سوداء قد أصبحت خيوطا من طول اللبس، يعدو لأجل فلس أو قرص. فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة، وبين الأكواخ الفقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة. وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق، لا تقفها دعاية ولا قوة، وإذا لم يسد النظام الاسلامي في بلاده بجماله واعتداله، يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره، عقابا من الله كرد فعل عنيف.

والسيد أبو الحسن الذي سال قلمه بهذه العبارات الدافقة بهذه المعاني البليغة، كان ينظر إلى حالة العرب حينما سجل هذه العبارات منذ ثلث قرن من الزمان، فيستشف منها ما ينتظرهم من مستقبل سيء حافل بالثورات والقلق والاضطراب، نتيجة اعتناق السفهاء والأوغاد المبادىء الهدامة التي لا تبقي ولا تذر، كرد فعل لما عليه المترفون من الانحلال والفساد، ومنع حقوق الناس في مال الله الذي بأيديهم، وتبذيره في غير حدود في شهواتهم وملذاتهم، وقد أرسل كلماته هذه نذيرا صارخا لعلها تصادف قلبا واعيا وسمعا صاغيا، لكن كان - مع الأسف - كمن ينفخ في رماد ويصرخ في واد.

وقد وقع فعلا ما كان يحذره ويحذر منه، وما زالت هذه الأمة إلى اليوم تعاني من ويلات الاضطراب والقلق في كثير من أنحاء البلاد. فمتى تصحو من سكرتها؟! ويثوب إليها رشدها، عسى أن يكون ذلك يوما قريبا.

Unknown page