28- من كتابه في الجوابات واستحقاق في الإمامة
Page 283
فصل من صدر كتابه في الجوابات في الإمامة يحكي فيه قول من يجيز أكثر من إمام واحد
زعم قوم أن الإمامة لا تجب لرجل واحد بعينه، من رهط واحد بعينه، ولا لواحد من عرض الناس، وإن كان أكثرهم فضلا، وأعظمهم عن المسلمين غناء، بعد أن يكون فردا في الإمامة لا ثاني له. وأن الناس إن تركوا أن يقيموا إماما واحدا جاز لهم ذلك، ولم يكونوا بتركه ضالين ولا عاصين ولا كافرين؛ فإن أقاموه كان ذلك رأيا رأوه، وغير مضيق عليهم تركه.
ولهم أن يقيموا اثنين، وجائز لهم أن يقيموا أكثر من ذلك، ولا بأس أن يكونوا عجما وموالي، ولكن لابد من حاكم، واحدا كان أو أكثر على حال. ولا يجوز أن يكون الرجل حاكما على نفسه وقائما عليها بالحدود.
ولم يقل أحد ألبتة أن من الحكم والحاكم بدا، ولكنهم اختلفوا في جهاتهم ومعانيهم.
Page 285
وقالوا: وأي ذلك كان، إقامة الواحد والاثنين أو أكثر من ذلك، فعلى الناس الكف عن محارمهم، وترك التباغي فيما بينهم، والتخاذل عند الحادثة تنوبهم، من عدو يدهمهم من غيرهم، أو خارب يخيف سبلهم من أهل دعوتهم.
وعليهم فيما شجر بينهم إعطاء النصفة من أنفسهم بالغا ما بلغ، في عسر الأمر ويسره. وعلى كل رجل في داره وبيته وقبيلته، وناحيته ومصره، إذا كان مأمونا ذا صلاح وعلم، إذا ثبتت عنده على أخيه وصاحبه وجاره، وحاشيته من خدمه، حد أو حكم جناه جان عليهم أو على نفسه أو ظلم ركبه من غيره، إقامة ذلك الحكم والحد عليه، إذا أمكنه مستحقه؛ إلا أن يكون فوقه كاف قد أجزى عنه.
Page 286
وعلى المجترح للذنب الموجب على نفسه الحد، والمستحق له، إمضاء الحكم في بدنه وماله، والإمكان من نفسه، وأن لا يعاز بقوة، ولا يروغ بحيلة، ولا يسخط حكم التنزيل فيما نزل به، وفيما هو بسبيله من مال أو غيره. وإنما يجب ذلك إذا كان على الفريقين من القيم، والجاني يمكنه ما كلفه الله من ذلك . فإن أبى القيم إقامة الحق والحد على الجاني بعد استيجابه، والإمكان من نفسه لإقامة الحد عليه، فقد عصى الله تعالى ولم يؤت في ذلك الأمر نفسه، لأن الله تعالى قد بينه له، وأوجبه عليه، وقرره حين أوضح له الحجة وقرب الدلالة، وطوقه المعرفة، ومكنه من الفعل.
وقد بسطنا العذر لذوي العجز في صدر الكلام.
وإن أبى الجاني المستحق للحكم والحد، الإمكان من نفسه وماله، وما هو بسبيله، فقد عصى الله في ذلك، كما عصاه في ركوبه ما أوجب عليه الحد، ولم يؤت من ربه لما ذكرنا من إيضاح الحجة وإثبات القدرة.
فصل منه
وقد علمنا أن من شأن الناس الهرب إذا خافوا نزول المكروه، والامتناع من إمضاء الحدود بعد وجوبها عليهم، ما وجدوا السبيل إلى ذلك. وهذا سبب إسقاط الأحكام والتفاسد.
وقد أمرنا أن نترك أسباب الفساد ما استطعنا، وبالنظر للرعية ما أمكننا، فوجب علينا عند الذي قلنا، أنا لو لم نقم إماما واحدا كان الناس على ما وصفنا من التسرع إلى الشيء إذا طمعوا، والهرب إذا خافوا. وهذا أمر قد جرت به عامة المعرفة، وفتحت عندنا فيه التجربة.
قلنا عند ذلك إن الإمامة لا تجب على الناس من طريق الظنون وإشفاق النفوس.
Page 287
وقد رأينا أعظم منه خطرا، وقدرا ونفعا، في كل جهة على خلاف ذلك، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى أمة وقد علم أنهم يزدادون مع كفرهم المتقدم من قبل ذلك الرسول كفرا، بجحدهم له، وإخراجهم إياه، وقصدهم قتله، ثم لا يكون ذلك مانعا له من الإرسال إليهم والاحتجاج به عليهم، لمكان علمه أنهم يزدادون فسادا وتباغيا؛ إذ كان قدم لهم ما به ينالون مصالح دينهم ودنياهم. وإنما على الحكيم أن يأتي الأمر الحكيم، عرف ذلك عارف أم جهله جاهل.
وعلى الجواد ذي الرحمة في جوده ورحمته، أن يفعل ما هو أفضل في الجود، وأبلغ في الإحسان، وألطف في الإنعام من إيضاح الحجة وتسهيل الطرق، والإبلاغ في الموعظة، مع ضمان الوعد بالغاية من الثواب والدوام واللذة، والتوعد بغاية العقاب في الدوام والمكروه إلى عباده الذين كلفهم طاعته، وأهل الفاقة إلى عائدته ونظره وإحسانه.
فإن قبل ذلك قابل فقد أصاب حظه، وإن أبى ذلك فنفسه ظلم، وقد صنع الله به ما هو أصلح وإن لم يستطع العبد نفسه.
Page 288
قالوا: فإذا كان الله تبارك وتعالى عالما بأن القوم يزدادون فسادا عند إرسال الرسل، وكان غير صارف لهم عن الإرسال إليهم، إذ كان قد عدل خلقهم، ومكنهم من مصلحتهم، فما بال الظن والحسبان بأن الناس يتفاسدون ويتنازعون، إذا لم يقيموا إماما واحدا يوجب فرضا لم ينطق به كتاب ولم يؤكده خبر. وقد رأينا العلم بأن الناس يتفاسدون بما لا يرد به فرض.
فصل منه
وقالوا: قد رأينا أهل الصلاح والقدر، عند انتشار أمر السلطان، وغلبة السفلة والدعار، وهيج العوام، يقوم منهم العدد اليسير في الناحية والقبيلة، والدرب والمحلة فيفل لهم حد المستطيل، ويقمع شذاذ الدعار، حتى يسرح الضعيف ويأمن الخائف، وينتشر التاجر، ويكبر جانبهم الداعر.
Page 289
وإنما صلاح الناس بقدر تعاونهم وتخاذلهم. مع أن الناس لو تركهم المتسلطون عليهم، وألجئوا إلى أنفسهم حتى يتحقق عندهم أن لا كافي إلا بطشهم وحيلهم، وحتى تكون الحاجة إلى الذب والحراسة، والعلم بالمكيدة، هي التي تحملهم على منع أنفسهم؛ ولذهبت عادة الكفاية، وضعف الاتكال، ولتعودوا اليقظة، ولدربوا بالحراسة، واستثاروا دفين الرأي؛ لأن الحاجة تفتق الحيلة وتبعث على الروية، وكان بالحرى أن يصلح أمر الجميع؛ لأن طمع الراعي إذا عاد بأسا صرفه في البغي. وكان في ذلك منبهة للنائم ومشحذة لليقظان، وضراوة للمواكل، ومزجرة للبغاة، حتى ينبت عليه الصغير، ويتفحل معه الكبير.
فصل منه
وزعم قوم أن الإمامة لا تجب إلا بأحد وجوه ثلاثة:
إما عقل يدل على سببها، أو خبر لا يكذب مثله، أو أنه لا يحتمل شيئا من التأويل إلا وجها واحدا.
قالوا: فوجدنا الأخبار مختلفة، والمختلف منها متدافع، وليس في المتدافع والمتكافىء بيان ولا فضل.
فمن ذلك قول الأنصار، وهم شطر الناس وأكثرهم، مع أمانتهم على دين الله تعالى، وعلمهم بالكتاب والسنة، حيث قالت عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: " منا أمير ومنكم أمير ".
Page 290
فلو كان قد سبق من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أمر ما كان أحد أعلم به منهم، ولا أخلق للإقرار والعمل بما يلزم، والصبر عليه منهم، بعد الذي ظهر من احتمالهم في جنب الله تعالى، والجهاد في سبيله، والنصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم مع الإيواء والإيثار، بعد المواساة، ومحاربة القريب والبعيد، والعرب قاطبة وقريش خاصة. ثم الذي نطق القرآن به من تزكيتهم وتفضيلهم، بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وثقته بهم وثنائه عليهم، وهو يقول: " أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع "، في أمور كثيرة.
ثم لم يكن قولهم: " منا أمير ومنكم أمير " من سفيه من سفهائهم ضوى إليه أمثاله منهم، فإن لكل قوم حسدة وجهالا، وأحداثا وسرعانا، من حدث تبعثه الغرارة والأشر، ورجل يحب الجاه والفتنة، أو مغفل مخدوع، أو غر ذي حمية يؤثر حسبه ونسبه على دين الله تعالى وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
Page 291
ولا كان ذلك القول، إن كان من عليتهم، في الواحد الشاذ القليل، بل كان في ذوي أحلامهم والقدم منهم.
ثم كان المرشح والمأمول عندهم سعد بن عبادة، سيدا مطاعا، ذا سابقة وفضل، وحلم ونجدة، وجاه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغاثة به في الحوادث والمهم من أمره.
ثم كان في الدهم من الأنصار، والوجوه والجمهور من الأوس والخزرج. فكيف يكون سبق من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أمر يقطع عذرا ويوجب رضا، وهؤلاء الأمناء على الدين، والقوام عليه، قد قاموا هذا المقام، وقالوا هذا المقال.
Page 292
قالوا: فإن قال قائل: فإن القوم كانوا على طبقات، من ذاكر متعمد، وناس قد كان سقط عن ذكره وحفظه، ومن رجل كان غائبا عن ذلك القول والتأكيد الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم وآله، في إقامة إمام يقدم في أيام وفاته وشكاته، ومن رجل قدم في الإسلام لم يكن من حمال العلم، فأذكرهم أبو بكر وعمر فذكروا، ووعظاهم فاتعظوا. فقد كان فيهم الناشىء الفاضل الذي يزجره الذكر، وينزع إذا بصر؛ والمعتمد الذي لم يبلغ من لجاجه وتتايعه، وركوب ردعه ما يؤثر معه التصميم على حسن الرجوع عند الموعظة الحسنة، والتخويف بفساد العاجل، في كثير ممن لم يكن له في الإسلام القدر النبيه، إما للغفلة، وإما للإبطاء عنه، وإما للخمول في قومه مع إسلامه وصحة عقده. فداواهم أبو بكر وعمر يوم السقيفة حين قالا: " نحن الأئمة وأنتم الوزراء ". وحيث رووا لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأئمة من قريش ". فلما استرجعوا رجعوا.
قلنا: الدليل على أن القوم لم يروا في كلام أبي بكر وعمر حجة عليهم، وأن انصرافهم عما اجتمعوا له لم يكن لأنهم رأوا أن ذلك القول من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح حجة، غضب رئيسهم وخروجه من بين أظهرهم مراغما، في رجال من رهطه، مع تركه بيعة أبي بكر رضوان الله عليه، وتشنيعه عليهم بالشام.
وقد قال قيس بن سعد بن عبادة، وهو يذكر خذلان الأنصار لسعد بن عبادة: واستبداد الرهط من قريش عليهم، بالأمر:
وخبرتمونا أنما الأمر فيكم
خلاف رسول الله يوم التشاجر
وأن وزارات الخلافة دونكم
كما جاءكم ذو العرش دون العشائر
فهلا وزيرا واحدا تجتبونه
بغير وداد منكم وأواصر
Page 293
سقى الله سعدا يوم ذاك ولا سقى
عراجلة هابت صدور المنابر
وقال رجل من الأنصار، ودعاه علي رضوان الله عليه إلى عونه ونصرته، إما يوم الجمل، أو يوم صفين:
ما لي أقاتل عن قوم إذا قدروا
عدنا عدوا وكنا قبل أنصارا
ويل لها أمة لو أن قائدها
يتلو الكتاب ويخشى النار والعارا
أما قريش فلم نسمع بمثلهم
غدرا وأعجب في الإسلام آثارا
إلا تكن عصبة خالوا نبيهم
بالعرف عرفا وبالإنكار إنكارا
أبا عمارة والثاوي ببلقعة
في يوم مؤتة لا ينفك طيارا
أبا عمارة: حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه، وقد كان يكنى أبا يعلى، والثاوي في يوم مؤتة: جعفر بن أبي طالب.
وقال رجل من الأنصار من ولد أبي زيد القارىء، وذكر أمر الأنصار وأمر قريش:
Page 294
دعاها إلى استبدادها وحقودها
تذكر قتلى في القليب تكبكبوا
هنالك قتلى لا تؤدى دياتهم
وليس لباكيها سوى الصبر مذهب
فإن تغضب الأبناء من قبل من مضى
فوالله ما جئنا قبيحا فتعتبوا
فصل منه
Page 295
قد حكينا قول من خالفنا في وجوب الإمامة وتعظيم الخلافة، وفسرنا وجوه اختلافهم، واستقصينا جميع حججهم، إذ كان على عذر لما غاب عنه خصمه، وقد تكفل بالإخبار عنه في ترك الحيطة له، والقيام بحجته. كما أنه لا عذر له في التقصير عن إفناد من يخالفه، وكشف خطاء من يضاده عند ما قرأ كتابه، وتفهم حجته. لأن أقل ما يزيل عذره، ويزيح علته، أن يكون قول خصمه قد استهدف لعقله، وأصحر للسانه، وقد مكنه من نفسه، وسلطه على إظهار عورته. فإذا استراح شغب المنازع، ومداراة المستمع لم يبق إلا أن يقوى على خلافه أو يعجز عنه.
ومن شكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم، ومضارهم ومنافعهم: أن يحتمل ثقل مؤنتهم وتعريفهم، وأن يتوخى إرشادهم، وإن جهلوا فضل من يسدي إليهم.
ولن يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره.
وأعلم أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم، إذ كان مع التلاقي يقوى التصنع، ويكثر التظالم، وتفرط النصرة، وتنبعث الحمية. وعند المزاحمة تشتد الغلبة وشهوة المباهاة، والاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع. وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويظهر التباين، وإذا كانت القلوب على هذه الصفة، وبهذه الحالة، امتنعت من المعرفة وعميت عن الدلالة.
وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية، وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بقراءتها، والمتفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله ولا يعاز خصمه.
والكتاب قد يفضل ويرجح على واضعه بأمور:
Page 296
منها: أن الكتاب يقرأ بكل مكان وفي كل زمان، على تفاوت الأعصار، وبعد ما بين الأمصار. وذلك أمر يستحيل في الواضع ولا يطمع فيه من المنازع. وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويفنى ويبقى أثره.
ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلقت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا في الحكمة، وانقطع سبيلنا إلى المعرفة.
ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا، بما أدركته حواسنا، وشاهدته نفوسنا، لقد قلت المعرفة وقصرت الهمة وضعفت المنة، فاعتقم الرأي ومات الخاطر، وتبلد العقل، واستبد بنا سوء العادة.
وأكثر من كتبهم نفعا، وأحسن مما تكلفوا موقعا، كتب الله تعالى، التي فيها الهدى والرحمة، والإخبار عن كل عبرة، وتعريف كل سيئة وحسنة.
Page 297
فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا سبيل من قبلنا فينا. مع أنا قد وجدنا في العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا.
فما ينتظر الفقيه بفقهه والمحتج لدينه، والذاب عن مذهبه، ومواسي الناس في معرفته، وقد أمكن القول وأطرق السامع، ونجا من التقية، وهبت ريح العلماء.
فصل منه
واعلم أن قصد العبد بنعم الله تعالى إلى مخالفته، غير مخرج إنعام الله تعالى عليه، ولا يحول إحسانه إليه إلى غير معناه وحقيقته، ولم يكن إحسان الله في إعطائه الأداة وتبيين الحجة لينقلبا إفسادا وإساءة؛ لأن المعان على الطاعة عصى بالمعونة، وأفسد بالإنعام، وأساء بالإحسان.
Page 298
وفرق بين المنعم والمنعم عليه؛ لأن المنعم عليه يجب أن يكون شكورا، ولحق النعمة راعيا، والمنعم منفرد بحسن الإنعام، وشريك في جميل الشكر. ولأن المنعم أيضا هو الذي حبب الشكر إلى فاعله، بالذي قدم إليه من إحسانه، وتولى من يساره، ولذلك جعلوا النعمة لقاحا، والشكر ولادا. وإنما مثل إعطاء الآلة والتكليف لفعل الخير مثل رجل تصدق على فقير ليستر عورته، ويقيم من أود صلبه، وليصرف في منافعه، ولا يكون إنفاق الفقير ذلك الشيء في الفساد والخلاف والفواحش، لينقلب إحسان المتصدق إساءة. وإنما هذا بصواب الرأي الذي لا ينقلب صوابا وإن أنجح صاحبه.
وقد يؤتى الرجل من حزمه ولا يكون مذموما، ويحظى بالإضاعة ولا يكون محمودا.
فصل منه
ولم يكن الله تعالى ليضع العدل ميزانا بين خلقه، وعيارا على عباده، في نظر عقولهم في ظاهر ما فرض عليهم، وييسر خلافه، ويستخفي بضده، ويعلم أن قضاءه فيهم غير الذي فطرهم على استحسانه، وتحبب إليهم به، في ظاهر دينه، والذي استجوب به على الشكر على جميع خلقه.
فصل منه
وإن لم يكن العبد على ما وصفنا من الاستطاعة والقدرة، والحال التي هي أدعى إلى المصلحة، ما كان متروكا على طباعه ودواعي شهواته، دون تعديل طبعه وتسوية تركيبه.
Page 299
ولذلك أسباب نحن ذاكروها، وجاعلوها حجة في إقامة الإمامة، وأن عليها مدار المصلحة، وأن طبع البشر يمتنع من الإخبار إلا على ما نحن ذاكروه، فنقول: إنا لما رأينا طبائع الناس وشهواتهم، من شأنها التقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم، وذهاب دنياهم، وإن كانت العامة أسرع إلى ذلك من الخاصة، فكل لا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرديهم، ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل، من القصاص العادل، ثم التنكيل في العقوبة على شر الجناية، وإسقاط القدر، وإزالة العدالة، مع الأسماء القبيحة، والألقاب الهجينة، ثم بالإخافة الشديدة والحبس الطويل، والتغريب عن الوطن، ثم الوعيد بنار الأبد، مع فوت الجنة.
Page 300
وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة، ولتعديل الطبائع معونة؛ لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على قوى عقله ورأيه، ألفي بصيرا بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله، وأوامر رأيه. فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامره ألفي العبد ممتنعا من الغي قادرا عليه؛ لأن الغضب والحسد والبخل والجبن، والغيرة، وحب الشهوات والنساء، والمكاثرة، والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها، واشتدت جواذبها لصاحبها، ثم لم يعلم أن فوقه ناقما عليه، وأن له منتقما لنفسه من نفسه، أو مقتضيا منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطبيعة ودواعي الشهوة طباعا لا يمتنع منه، وواجبا لا يستطيع غيره.
أو ما رأيته كيف يخرق في ماله، ويسرع فيما أثلت له رجاله، وشيدت له أوائله، من غير أن يرى للعوض وجها، وللخلف سببا في عاجل دينه، ولا آجل دنياه، حتى يكون والي المسلمين هو الذي يحجر عليه؛ ليكون مضض الحجر وذل الخطر، وغلظة الجفوة. واللقب القبيح، وتسليط الأشكال، مادة للذي معه من معرفته وبقية عقله.
فصل منه
وقد يكون الرجل معروفا بالنزق مذكورا بالطيش مستهاما بإظهار الصولة حتى يتحامى كلامه الصديق، ويداريه الجليس، ويترك مجاراته الكريم، للذي يعرفون من شذاته، وبوادر حدته وشدة تسعره والتهابه، وكثرة فلتاته. ثم لا يلبث أن يحضر الوالي الصليب والرجل المنيع، فيلفى ذليلا خاضعا، أو حليما وقورا، أو أديبا رفيقا، أو صبورا محتسبا.
Page 301
وقد نجده يجهل على خصمه، ويستطيل على منازعه، ويهم بتناوله والغدر به، فإذا عرف له حماة تكفيه، وجهالا تحميه، وجاها يمنعه، ومالا يصول به، طامن له من شخصه، وألان له من جانبه، وسكن من حركته، وأطفأ نار غضبه.
أو ما علمت أن الخوف يطرد السكر، ويميت الشهوة، ويطفىء الغضب، ويحط الكبر، ويذكر بالعاقبة، ويساعد العقل، ويعاون الرأي، وينبت الحيلة ويبعث على الروية؛ حتى يعتدل به تركيب من كان مغلوبا على عقله، ممنوعا من رأيه، بسكر الشباب وسكر الغناء وإهمال الأمر، وثقة العز، وبأو القدرة.
فصل منه
وإنما أطنبت لك في تفسير هذه الأحوال التي عليها الوجود والعبرة، لتعلم أن الناس لو تركوا وشهواتهم، وخلوا وأهواءهم وليس معهم من عقولهم إلا حصة الغريزة ونصيب التركيب، ثم أخلوا من المرشدين والمؤدبين، والمعترضين بين النفوس وأهوائها، وبين الطبائع وغلبتها، من الأنبياء وخلفائها، لم يكن في قوى عقولهم ما يداوون به أدواءهم، ويجبرون به من أهوائهم، ويقوون به لمحاربة طبائعهم، ويعرفون به جميع مصالحهم.
Page 302
وأي داء هو أردى من طبيعة تردي، وشهوة تطغي؟ ! ومن كان لا يعد الداء إلا ما كان مؤلما في وقته، ضاربا على صاحبه في سواد ليله وبياض نهاره، فقد جهل معنى الداء. وجاهل الداء جاهل بالدواء.
فصل منه
ولكنا نقول: لا يجوز أن يلي أمر المسلمين على ظاهر الرأي والحزم والحيطة أكثر من واحد، لأن الحكام والسادة إذا تقاربت أقدارهم وتساوت عنايتهم قويت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء، واشتدت منافستهم في الغلبة.
وهكذا جرب الناس من أنفسهم في جيرانهم الأدنين في الأصهار وبني الأعمام، والمتقاربين في الصناعات، كالكلام، والنجوم، والطب والفتيا، والشعر، والنحو والعروض، والتجارة، والصباغة، والفلاحة أنهم إذا تدانوا في الأقدار، وتقاربوا في الطبقات، قويت دواعيهم إلى طلب الغلبة، واشتدت جوانبهم في حب المباينة، والاستيلاء على الرياسة.
ومتى كانت الدواعي أقوى كانت النفس إلى الفساد أميل، والعزم أضعف، وموضع الروية أشغل، والشيطان فيهم أطمع؛ وكان الخوف عليهم أشد، وكانوا بموافقة المفسد أحرى، وإليه أقرب.
وإذا كان ذلك كذلك فأصلح الأمور للحكام والقادة، إذا كانت النفوس ودواعيها ومجرى أفعالها على ما وصفنا، أن ترفع عنهم أسباب التحاسد والتغالب، والمباهاة والمنافسة.
Page 303