وظهرت رئيسة الحكيمات ومن خلفها التمورجية بالحبال. أخفى رأسه تحت اللحاف وغاب في النوم. في أذنيه صفير طويل كالطنين، كالنشيج الممدود بامتداد الليل. - نو نو نو نو نو!
الحب الآثم
من فوق جفونها المغلقة سمعت الصوت. يشبه صوت ابنها الميت واقفا بجوار السرير في الظلمة. شعر رأسه أسود غزير. عيناه سوداوان تطفو فوقهما دمعة لا تجف ولا تسقط، أنفه مستقيم، لا يشبه أنف أبيه.
تمد يدها وتمسك يده. أصابعه طويلة تشبه أصابعها، أنامله دقيقة، يعزف بها، ويغني مع شقشقة الفجر والعصافير تزقزق. تفتح فمها لتغني معه، لكن صوتها لا يطلع. حزام من الجلد مشدود حول صدرها، وجفونها مغلقة. - جنات!
انتصبت أذناها مرهفتين. أهو اسمها؟ كأنما لم تسمعه أبدا. فتحت عينيها ورأت السقف الأجرب المشقق، سقط عنه الطلاء في أجزاء، وظهرت صورة الإله رع له رأس أبيس. عيناه جاحظتان، كأنما لم ترهما أبدا، أو رأتهما كل يوم، اليوم وراء اليوم، السنة وراء السنة، ثلاثين سنة، وهو ينظر إليها بهاتين العينين، وهي داخل جدران من الطوب والإسمنت، وسور عال يحجب الأفق، واقفة في النافذة تنتظر. السماء في الليل خندق أسود، في النهار خندق رمادي، يحوطها ويفصلها عن الناس، وخندق آخر داخل جسمها يفصلها عن نفسها، وحديقة كبيرة تحوط القصر. زهور شاحبة كالباقات في الأضرحة، وممرات طويلة مظلمة بالليل صامتة بالنهار، إلا صوت عجلات تجري فوق الأسفلت وبوق من بعيد، وهي واقفة في النافذة تترقب الغد.
أبوها كان يسميه «الغيب» وأمها تسميه «المستقبل». تراه مفتوحا كالأفق، ومع إشراقة الشمس تجري بين المساحات الخضر، ثوبها برتقالي مليء بالكرانيش، يطيرها الهواء من حولها كالأجنحة، كولة بيضاء مستديرة حول عنقها، في يدها الحقيبة فيها الكراريس والأقلام.
عند ثنية الشارع تتوقف وتستدير. ترى وجه أمها في النافذة يلمع من بعيد كالنجم. ترفع يدها وتلوح لها، على باب المدرسة تلتقي بصديقتها. تلعبان في الفناء الحجلة، وفي حصة القراءة الرشيدة تنشد القصيدة. تسري أبيات الشعر في أذنيها كالموسيقى، وفي الليل تمسك القلم وتكتب الحروف. رسالة حب إلى الرب. - أنت الحب. - أنت نجمة الصباح. - نور القلب.
تمشي بسن القلم فوق الورق. تلمحها جدتها وهي راقدة إلى جوارها. - بتكتبي إيه يا جنات؟ - جواب لربنا.
ترسم الصليب فوق صدرها. أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا! تبلل شفتيها الرماديتين بالماء ثم تضع الكوب فوق الدولاب الصغير. تسميه «الكوميدينو». تقرأ بصوت خافت آية من الإنجيل. تغلق الكتاب وتدسه تحت الوسادة. تغمض عينيها وهي تتمتم.
ثم تفتح عينيها وترمقها بنظرة طويلة. - صاحية ليه يا جنات؟ - مش جاي لي نوم. - نامي يا جنات. - أسمعك قصيدة شعر؟ - شعر؟
Unknown page