تتوقف الكلمات في حلقها. تبتلعها مع لعابها الجاف، إلا كلمة واحدة، تظل متوقفة، في عنقها. بارزة مدببة مثل تفاحة آدم. تصعد وتهبط مع أنفاسها. ترسم الصليب على صدرها: الأب والابن والروح القدس. - هي مين الروح القدس يا نينة؟ - نامي يا جنات.
لكنها لم تكن تنام. تتسلل من السرير وجدتها نائمة. تمشي على أطراف أصابعها إلى غرفة أمها. السرير خال. الأوراق مبعثرة فوق الأرض. ضوء القمر يدخل من النافذة أبيض بلون الموت. يلمع الورق كالفضة والحروف سوداء. خط أمها دقيق. تضع نقطة تحت الباء ونقطتين فوق التاء، ثلاث نقط فوق الثاء ونقطة واحدة فوق النون. الكلمة بجوار الكلمة تتشابك فوق السطر. سطور منتظمة مكتوبة تحت الضوء، وهي تعلمت القراءة ويمكن أن تفك الخط. صوتها كحفيف الهواء تقرأ في الليل. - أنا لا أخاف منك. - يا من تحرم المعرفة وتطفئ الضوء. - يا من تتخفى وراء قناع الرب. - وتزرع الخوف والطاعة بدل الحب. - وتقتل الآلاف بلا ذنب. - وتلعنني كالسحلية إلى الأبد.
ترفع عينيها من فوق الورق. تراه واقفا بجوار بيت الأدب. ظله طويل أسود مرسوم فوق الأرض. بقعة دم حمراء تلمع على البلاط. صوته كصوت جدها الميت. فوق صدره قرص ذهبي يلمع. - زكريا؟
يرن الاسم في أذنيها مألوفا سمعته اليوم وراء اليوم، والسنة وراء السنة، ثلاثين عاما. صورتها فوق الجدار داخل ثوب الزفاف. أبيض بلون الكفن. وجهه يطل من الصورة ثابت العضلات. مربع الرأس كأبي الهول. عنقه مشنوق برباط أسود على شكل فيونكة. كانوا يسمونها «بابيونة» وهي تجري وتجري لا تتوقف. الطريق ممدود أمامها بلا نهاية. الليل بلا قمر ولا نجوم. رذاذ أسود يدق فوق أوراق الشجر. النبض تحت ضلوعها يدق مع المطر. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. شبورة سوداء تملأ الكون لها رائحة النفط. رياح الخماسين تدوي من بعيد. كأصوات الملايين تهتف: يسقط! يسقط!
تسمع صوتها بأذنها. جسدها يهتز مع اهتزازات السيارة. سوداء طويلة من نوع «الليموزين». أصابعها ترتعد فوق حافة النافذة. شيء في الجو مجهول ومخيف. عنقها تشرئب خارج السيارة. قدماها تسبقان العجلات. تلهث وهي جالسة. يدها تمتد إلى جوارها تتحسس الهدية. ربطة عنق جديدة من الساتان. بيضاء فيها دوائر خضراء، والصندوق مربوط بشريط أخضر، تفتح زجاج النافذة. في أنفها رائحة الوطن بعد غيبة أسبوعين. بدت لها عامين أو قرنين من الزمان. استبد بها الشوق فاختصرت الرحلة. جاءت قبل موعدها بثلاثة ايام. أنفاسها تتلاحق بصوت مسموع، والدقات تحت ضلوعها أسرع من العجلات، عيناها تطلان على الوطن. رائحة أمها وأبيها. سنابل القمح ونوارات القطن. شارع الجامعة والكلية، وصوته من فوق المنصة يخطب. آلاف الأصوات تهتف. يعيش! يعيش! تلتقي عيناها بعينيه في نظرة طويلة. في حديقة الأندلس يجلسان. يمسك يدها بيديه الاثنتين. - جنات؟ - نعم. - بتحلمي؟ - أيوه.
انفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة. لا بد أنها تحلم به. - بتحلمي بإيه يا حبيبتي؟ - عاوزة أكتب.
تجمدت الابتسامة. اعوج فمه ناحية اليمين. - تكتبي إيه يا جنات؟ - حاجات كثيرة. - اكتبيلي رسالة حب.
في الليل جلست في ضوء القمر، كتبت له أول رسالة. - كالثمرة المحرمة أحبك. - فوق شجرة المعرفة. - أمد يدي وأقطفها. - لا أخاف. - فالله هو الحب.
تفتح جفونها نصف فتحة. رأسها يهتز مع اهتزازات السيارة. قرص الشمس ينزلق وراء الأهرامات الثلاثة. سائق الليموزين يرتدي قبعة عسكرية. رائحة الوطن في أنفها. ذرات تراب، ومعجون الحلاقة. كولونيا ما بعد الحلاقة من نوع اللافندر. أنفاسه فوق وجهها لها رائحة خاصة. تحملق حول رأسها تحت سقف السيارة. تسبقه قبل أن يظهر، وتبقى معها بعد أن يذهب. تدفن وجهها في صدره وتهتف باسمه: زكريا!
توقفت السيارة أمام البيت. قدماها تسبقانها فوق السلم. تقف عند الباب تلهث. مترددة كأنما تتهيب الدخول. تضع حقيبة السفر فوق الأرض وتخرج مفتاحها من جيبها. أتفتح الباب أم تدق الجرس؟
Unknown page