كلا، ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها، نقط ولا تبويب ولا تنظيم؛ فإن كانت كذلك، فلا عجب أن ينفر القارئون - يا أيها الأدباء - من قراءة ما تكتبون! لا تعجبوا يا قادة الأدب المصري ألا يقرأكم إلا قلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تصرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه موقف المعلم لا الزميل، موقف الكاتب لا المحدث، موقف المؤدب لا الصديق، ويصطنع الوقار فلا يصل نفسه بنفسه؛ وإلا فحدثني بربك أي فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسي؟
أرأيت كيف يتحدث الصديق إلى صديقه عن حادثة شهدها في عربة الترام وهو في طريقه إليه؟ أرأيت كيف يلاحظ الصديق لصديقه إذ هما يسيران ملاحظة من هنا وملاحظة من هناك حول ما يقع عليه البصر؟ انقل هذا بيراعة الأديب وبراعته يكن لك منه مقالة أدبية من الطراز الأول؛ أما أن تعلم القارئ فصلا في عوامل سقوط الدولة الأموية أو في أسباب انحلال المجتمع وما إلى ذلك من فصول؛ فذلك مفيد على أنه درس علمي، ونافع في عرض اطلاعك الواسع، ومثقف للقارئ كما يثقفه فصل من كتاب، ودافع إلى الفضيلة على أنه موعظة منبرية؛ ولكن لا تطمح أن تكون أديبا بما تكتب من أمثال هذه الفصول والأبواب، فلن تكون بأمثالها في دولة الأدب قزما ولا عملاقا، أنت بهذه الفصول عالم ولست بأديب، أنت بها قارئ ولست بكاتب، وفضلك أن نقلت إلى القراء ما قرأت، وإنه لفضل عظيم؛ ولكنه شيء والأدب الخالص شيء آخر.
فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتقاطرة صورة، عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح؛ لأن واجب الأديب الحق أن يخدع القارئ كي يمعن في القراءة كأنما هو يسري عن نفسه المكروبة عناء اليوم أو يزجي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفية وسخرية هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية؛ فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورة من الصور، بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب في مقالته، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات! ولكنه لن يلبث حتى يتبين أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمر منها إلى التعليم والتلقين؛ وجب أن يكون أسلوبها عذبا سلسا دفاقا. أما إن أخذت تشذب أطراف اللفظ هنا وتزخرف تركيب العبارة هناك؛ كان ذلك متنافرا مع طبيعة السمر المحبب إلى النفوس؛ هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوع مجرد، كأن تبحث مثلا فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس والتربية؛ لأن ذلك يبعدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، إذ لا بد - كما ذكرنا - أن تعبر قبل كل شيء عن تجربة معينة مست نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه؛ ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة؛ تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية.
ولما كانت المقالة إنما تتكئ على ظاهرة مطروقة معهودة في الحياة اليومية لتنفذ خلالها إلى نقد الحياة القائمة نقدا خفيا يستره غطاء خفيف من السخرية، ولما كانت كذلك تسلك في التعبير أسلوبا سلسا مشرقا؛ فقد يظن أحيانا أنها ضرب هين من ضروب الأدب لا يدنو من القصيدة والقصة والرواية. والواقع على عكس ذلك؛ لأن أرفع الفن هو ما خفي فنه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة القصة والقصيدة! وما أقل من يجيد كتابة المقالة؛ وشأن الذي يستخف بما تطلبه المقالة من فن كشأن الذي يظن أن الشعر المرسل أيسر من القصيد المقفى، ولعل عسر المقالة ناشئ من أنها ليس لها حدود مرسومة يحفظها المبتدئ فينسج على منوالها كما يفعل في القصة أو القصيدة.
إن الذي أريد أن أؤكده مرة أخرى هو أن المقالة الأدبية لا بد أن تكون نقدا ساخرا لصورة من صور الحياة أو الأدب، وهدما لما يتشبث به الناس على أنه مثل أعلى، وما هو إلا صنم تخلف في تراث الأقدمين. أما إن كان الفصل المكتوب بحثا رصينا متسقا فسمه ما شئت؛ فقد يكون علما، وقد يكون فصلا في النقد الأدبي، وقد يكون تاريخا أو وصفا جغرافيا كتبه قلم قدير؛ ولكنه ليس مقالة أدبية، كما أنه ليس بقصيدة ولا قصة.
البرتقالة الرخيصة
لم أكد أفرغ من طعام الغداء حتى جاءني الخادم بطبق فيه برتقالة وسكين، فرفعت السكين وهممت أن أحز البرتقالة؛ ولكني أعدتها وأخذت أدير البرتقالة في قبضتي وأنظر إليها نظرة الإعجاب؛ فقد راعني إذ ذاك لونها البديع وجمالها الخلاب، وشممت لها أريجا طيبا هادئا، ولمحت في استدارتها ومسامها نضارة عجيبة؛ فأشفقت عليها من التقطيع والتشريح، ثم نظرت إلى خادمي وقلت مبتسما: لعل برتقالة اليوم يا سليمان لا يكون بها من العطب ما كان بتفاحة الأمس؟ فقال: كلا يا سيدي فلن يكون ذلك قط؛ فإن من خلال البرتقال التي يتميز بها عن سائر ألوان الفاكهة أن العطب يبدأ من خارجه لا من داخله؛ فإن وجدت قشور البرتقالة سليمة فكن على يقين جازم بأن لبابها سليم كذلك، فالبرتقالة بذلك أمينة صريحة صادقة، لا تخفي بسلامة ظاهرها خبث باطنها؛ ولا كذلك التفاحة، التي قد تبدي لك ظاهرا نضرا لامعا، فإذا ما شققت جوفه ألفيته أحيانا مباءة يضطرب فيها أخبث الدود! فقلت: تلك والله يا سليمان خلة للبرتقال لم أكن أعلمها من قبل؛ ولكني أتبين الآن أنها حق لا ريب فيه، وإنه بهذه الخلة وحدها لجدير من بائع الفاكهة أن يرصه في صناديقه الزجاجية، وأن يلفه بغلاف من ورق شفاف حرصا على هذه النفس الكريمة أن تستذل وتهان في المقاطف والأقفاص، فهو لعمري بهذه العناية أجدر من التفاح الخادع؛ وماذا تعلم يا سليمان غير ذلك من صفات البرتقال؟ فقال: إنها لتشبع الحواس جميعا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تديرها وتدحرجها كما تفعل يا سيدي الآن؛ وقد لبست البرتقالة معطفا من جلد جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها نضت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي؛ لتبدو لصاحبها بكرا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنس أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين؛ لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهيا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب، فهو اعتراف بالجميل محمود على كل حال!
قلت: أفبعد هذا كله يستخف بقدرها الفاكهاني، فيقذف بها قذفا مهملا في الأوعية والسلال؟! أفبعد هذا كله تقوم البرتقالة في سوق الفاكهة بمليمين، وتقدر التفاحة بالقروش؟! تالله لو كنت موزع الأرزاق على هذه الفاكهة لغيرت معايير التقسيم وقلبتها رأسا على عقب، فأبيع هذا البرتقال الجيد بالوزن والثمن الكثير، والتفاح بالعدد والثمن البخس الرخيص؛ فلست أدري لماذا لا يكون أساس التقويم ما تبديه الفاكهة من جودة وإخلاص؟!
قلت ذلك وكانت رنة الأسى في قولي تزداد شيئا فشيئا حتى خشيت أن تنقلب إلى ثورة، فلا يجد الثائر ما يحطمه غير أثاثه، فأكلت البرتقالة وحمدت الله على نعمته.
Unknown page