Jana al-Khurfa in Refuting the Doctrine of Sarfa
جنى الخرفة في إبطال القول بالصرفة
Genres
ملخص البحث
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه، وبعد
فهذا بحث لطيف مختصر، سعي فيه الباحث في حدود قدرة البشر للذب عن حياض الدين، والدفاع عن القرآن الكريم- كلام رب العالمين، ووحيه المبين-، المعجز بلفظه وأسلوبه، الذي تحدَّى به اللهُ الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثله فعجزوا مجتمعين، وقد وسمه بـ "جَنَى الخُرْفَةِ فِيِ إبْطَالِ القَولِ بِالصَّرْفَةِ" (^١).
وقد تناول فيه الباحث دراسة "القول بالصَّرْفة" الذي انطلقت الشرارة الأولى بالقول بها من المدرسة العقلانية الأولى-المعتزلة، والذين استقوا فكرتها من الفلسفة الهندية التي دعا لها "براهما" في كتاب: "الفيدا".
وقد عقد الباحثُ بحثَهُ في فصلين اثنين:
أما الفصل الأول:
فقد تعرَّض فيه الباحثُ لبيان مفهومِ الصَّرْفة في اللغة والاصطلاح ليجلِّي للقارئ معناها ويبين له فحوها.
ثم عرَّج الباحثُ بعدها على بيان المعنى العام المقصود بالصَّرْفة- إجمالًا وتفصيلًا- عند القائلين بها، فضمَّن بذلك إيضاح المقصود العام للصَّرْفة من جهتين:
من جهة: -المعنى اللغوي والاصطلاحي-، ومن جهة: مقصد القائلين بالصَّرْفة وماذا يعنون بها، حتى تتضحَ الصورة ويتجلَّى معناها لدى القارئ الكريم.
وأما الفصل الثاني:
فقد تعرَّض فيه الباحثُ لعرض القولِ بالصَّرْفةِ ومناقشته- وتفنيده، فبين فيه المصدر الأول لفكرة القولِ بالصَّرْفة، ثم عرَّج على وفودها ومصدر تلقِّيها والترويج لها، ثم صدَّر ما يراه وزيَّله بأقوال العلماء الذين أثبتوا تلقي "النَّظام" لفكرة القول بالصَّرْفة.
ولقد قدَّم الباحثُ تعريفًا موجزًا عرَّف فيه بـ"المعتزلة" ونشأتها وعقيدتها ومنهجها وأبرز فرقها ورؤوسهم، ثم تناول بيان أبرز أقوال القائلين بالصَّرْفة، سواء كانوا من المعتزلة أو من غيرهم، فبين وجلَّى أمرَ أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة- ألا وهو "النظّام"-، ثم ذكر من تابعه على هذا القول من أفراخ المعتزلة، ثم بيَّن بعد ذلك من قال بالصَّرْفة من الأشاعرة وغيرهم، ثم أفرد مبحثًا خاصة بالقائلين بالصَّرْفَةِ من الشيعة الإمامية، ثم ختم هذا المبحث الهام بخلاصة القول بالصَّرْفَةِ.
ثم ختم الباحث هذا الفصل بردِّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان دلائل بطلانها بالحجج الواضحات الدمغات، مقرونة بالأدلة الشَّرعية
_________
(^١) - ولا بد هنا من تعريف موجز لكلمتي: (جَنَى)، و(خُرْفَة).
وبعد.
أولًا: تعريف كلمة: (جَنَى)
أ - جَنَى: (فعل): جَنَى ثِمَارَ مَا غَرَسَ: قَطَفَهُ، غَنَمَهُ، وجَنَى لَهُ الثَّمَرَةَ: نَاوَلَهُ إِيَّاهَا.
ب- جَنى: (اسم) الجمع: أَجْنَاءُ، أَجْنٍ، مصدر جَنَى: مَا يُجْنَى مِنَ الثَّمَرِ أَوِ العِنَبِ أَوِ العَسَلِ وَغَيْرِهِ وَاحِدَتُهُ جَنَاةٌ، يُقَالُ: أَتَانَا بِجِنَاةٍ طَيِّبَةٍ، والجَنَى: كلّ ما يُجْنى أو يقطف من الشجر، يُنظر: تعريف ومعنى جنى في معجم المعاني الجامع.
ثانيًا: تعريف كلمة: (الخُرْفَة)
الخُرْفَة: ما يُجْتَنى من الفَوَاكه في الخريف، وخرَفَ يَخرُف، خَرْفًا وخِرافًا، فهو خارِف، والمفعول مَخْروف وخرِيف. يُنظر: تعريف ومعنى خرفة في معجم المعاني الجامع.
وفي الحديث الصحيح عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (جَنَاهَا). رواه الإمام مسلم: (٢٥٦٨). والمعنى أن عائد المريض لا يزال يَجنِي مِنْ خرفة الجنة وثمارِها مُدَّةَ بقائه عند المريض، فهو في خرفة الجنة وفي روضتها يلتقط من ثمارها ومُجتنَاهَا.
60 / 83
النقلية، ومصحوبة بالبراهين العقلية المرعية، وزيَّل ذلك بأقوال العلماء الذين فنَّدوها وردُّوها بالحجة والبيان وواضح وساطع البرهان، ثم ختم بحثه بأهم النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسة المختصرة.
60 / 84
دِيْباجةُ البحث
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) (الكهف: ١).
فبهر إعجازُهُ الذاتي عقولَ أولي الألباب والنُّهى، وسلب ببلاغته فهومَ أولي الفهم والأبصار فعلموا أن إعجازه ليس له منتهى، لأنه (تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: من آية: ٤٢). وذلك لِما حوته آياته من إعجاز وفصاحة وبيان، فهدى الله برحمته به من اصطفاه من عباده وفضله، وأضل عنه أهلَ الشقاء بقسطه وعدله، فأقر أهلُ الإيمان بإعجازه الظاهر للعيان، وصرف اللهُ أهلَ الشقاء عن الإقرار بإعجازه، وقد قالوا بإمكان العرب أن يأتوا بمثله لولا أنْ صرفهم عن ذلك الملك الديان، فأخرسهم الله بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: ٨٨). فكانت تلك الآية من الحجج الدامغة وساطع البرهان.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملك ولا معقب له في أمره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
خطة البحث
وقد ضمَّن الباحث بحثه خطة بحث مكونة من فصلين، وكل فصل مكون من عدة مباحث، ويندرج تحت كل مبحث عدة مطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي:
أولًا: أهمية موضوع البحث
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
خامسًا: منهجية البحث
سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
سابعًا: مجموع الفهارس:
وخطة البحث مكونة من فصلين على النحو التالي:
الفصل الأول
بيان مفهوم الصَّرْفة
وفيه مبحثان
المبحث الأول: مفهوم الصَّرْفة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم الصَّرْفة في اللغة
المطلب الثاني: مفهوم الصَّرْفة في الاصطلاح
المبحث الثاني: بيان المعنى العام المقصود بالصَّرْفة- إجمالًا وتفصيلًا-
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: بيان معاني الصَّرْفة إجمالًا
المطلب الثاني: مقاصد للقائلين بالصَّرْفة تفصيلًا
الفصل الثاني القول بالصَّرْفة
(عرض- ومناقشة- وتفنيد)
وفيه ثلاثة مباحث
مصدر القول بالصَّرْفة المبحث الأول:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المصدر الأول لفكرة القول بالصَّرْفة
60 / 85
المطلب الثاني: وفود القول بالصَّرْفة، ومصدر تلقيها والترويج لها
المطلب الثالث: أقوال العلماء في إثبات تلقي النَّظام لفكرة القول بالصَّرْفة
المبحث الثاني: أبرز أقوال القائلين بالصَّرْفة من المعتزلة وغيرهم
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة
المطلب الثاني: القائلون بالصَّرْفَةِ من المعتزلة غير النظّام
المطلب الثالث: القائلون بالصَّرْفَةِ من غير المعتزلة، من الأشاعرة وغيرهم.
المطلب الرابع: القائلون بالصَّرْفَةِ من الشيعة الإمامية
المطلب الخامس: خلاصة القول بالصَّرْفَةِ
المبحث الثالث: ردُّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الرد على القائلين بالصَّرْفَةِ وبيان دلائل بطلانها
المطلب الثاني: أقوال العلماء في رد القول بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها
المطلب الثالث: أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
منهجية البحث
أولًا: أهمية موضوع البحث، ونختصره في النقاط التالية:
١ - إنما تكمن أهمية هذا البحث في شرف متعلقه، ألا وهو " القرآن الكريم، وذلك لأن شرف العلم من شرف المعلوم.
٢ - وإنما ترجع أهمية بحث "القول بالصَّرْفة " لتعلقه بقضية عقدية عند أهل السنة والجماعة، ألا وهي قضية إعجاز القرآن المبنية على قضية وقوع التحدي بالقرآن.
٣ - وقوع خلاف قديم في نشأة القول بالصَّرْفة ومصدرها الرئيس، ما بين الفلسفة الهندية عند" براهما" والمأخوذة من كتاب "الفيدا"، وما بين "النظّام" من المعتزلة.
٤ - وقوع خلاف واسع في قبول "القول بالصَّرْفة " ورفضه، مما يحتاج لمثل هذه الدراسة والفصل فيها بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة على رفضه ورده وبيان بطلانه.
٥ - وقوع خلاف وتردد عند القائلين بالصَّرْفة أنفسهم، فمنهم القائل بأن الصرفة كانت بسلب قدرة العرب على الإتيان بمثل القرآن، ومنهم القائل بأن الله سلبهم العلوم التي يمكنهم الإتيان بمثلها، ومنهم القائل بأن الله صرفهم عن الإتيان بمثلها وسلب إرادتهم فلم يخطر لهم ببال أن يأتوا بمثله.
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
لقد صنف أهل العلم قديمًا وحديثًا في مبحث" القول بالصَّرْفة "، وهم في ذلك ما بين مؤيد، ومعارض، ومن هذه المصنفات ما أُفْرِد له بالتصنيف، ومنها ما هو
60 / 86
موجود في ثنايا بعض تلك الكتب، وإن كثيرًا من المتأخرين من يعزوا لتلك المصنفات التي قال مصنفوها بـ "القول بالصَّرْفة "، ولاسيما فيما له تعلقه بموضوع الصَّرْفة ككتب الإعجاز، وما كُتِب كذلك في علم البلاغة لتعلقه بنفس الموضوع.
ومن أبرز ما صُنِفَ في ذلك في حدود بحثنا الضيق ما يلي:
أ- دراسات الرافضة:
١ - كتاب: "أوائل المقالات" للشيخ المفيد، وهو أبوعبد الله، محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي العكبري، رئيس المذهب الشيعي الإمامي في وقته: (ت: ٣٣٨ هـ).
٢ - كتاب: "الموضح من جهة إعجاز القرآن"، لعلي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (على بن الحسين بن موسى بن محمد) (ت: ٣٥٥ هـ) نقله عنه الطوسي (نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن) (ت: ٣٨٥: هـ)، وقد صرح بذلك السبحاني في "الإلهيات".
٣ - شرح كتاب: "جمل العلم والعمل" للطوسي: نصر الدين محمد بن محمد بن الحسن (ت: ٣٨٥ هـ)، وأصل الكتاب للشريف المرتضى، والشرح للطوسي، ولكن المرتضى تراجع عن القول بالصرفة صراحة في كتاب (الاقتصاد).
٤ - كتاب: "سر الفصاحة"، لابن سنان الخفاجي (ت: ٤٦٦ هـ) عبد الله بن محمد بن سعيد الخفاجي الشاعر الأديب الشيعي في كتابه الشهير، وكتابه يُعد من الكتب المعدودة في البلاغة، وقد ألفه على طريقة الأدباء.
٥ - حقيقة القول بالصَّرْفة في الإعجاز القرآني، محمد هادي معرفة (من معاصري الرافضة)، وهو محمد هادي بن علي بن الميرزا محمد علي معرفة (١٩٣٠ م- كربلاء-٢٠٠٦ م- قم)، مؤسّسة النّشر الإسلامي، التّابعة لجماعة المدرّسين بقم، ط ٦، ١٤٢٨ هـ.
ب- دراسات عامة لعموم الباحثين المعاصرين
١ - الصَّرْفة دلالتها لدى القائلين بها وردود المعارضين لها د. سامي عطا الجيتاوي- منشور عن دنيا الوطن، بتاريخ: ١٧/ ٥/ ٢٠٠٨ م.
٢ - القول بالصَّرْفة في إعجاز القرآن الكريم، إبراهيم بن منصور التركي، بحث منشور على الشبكة بصيغة: (بي دي إف) (د. ت) ..
٣ - المتهمون بالصَّرْفة (دراسة تحليلية نقدية) محسن الخالدي، قسم أصول الدين، كلية الشريعة، جامعة النجاح الوطنية،، نابلس، فلسطين.، ٢٢/ ٣/ ٢٠١٠ م.
٤ - الصَّرْفة "معانيها والقائلون بها: دراسة استقرائية نقدية"، د. عبد الله بن سالم بن حمد الهنائي، قسم العلوم الإسلامية - كلية التربية - جامعة السلطان قابوس - سلطنة
60 / 87
عمان، ٢٠١٩ م.
٥ - القول بالصَّرْفة في إعجاز القرآن-عرض ونقد- د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري، ط ٢، ١٤٣٢ هـ، دار ابن الجوزي-الدمام- المملكة العربية السعودية.
٦ - الصَّرْفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض، محمد فقهاء، كتاب الألوكة: ١٤٣٦ هـ-٢٠١٥ م. عدد الأجزاء ١. (د. ت).
ج- مصنفات تضمنت وتناولت مبحث القول بالصَّرْفة
١ - المعجزة الكبرى-القرآن- أبو زهرة، محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: ١٣٩٤ هـ) - دار الفكر العربي بالقاهرة، عدد الأجزاء ١. (د. ت)
٢ - إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، طبع المقتطف سنة ١٩٢٨ م
٣ - إعجاز القرآن بين المعتزلة والاشاعرة، منير سلطان، الناشر: منشأة المعارف - الإسكندرية، الطبعة: الثالثة/ ١٩٨٦ م، سلسلة، كتب الدراسات القرآنية. عدد الأجزاء ١.
٤ - الإعجاز البياني: د. محمد محمد أبو موسى، ط ٢. مكتبة وهبة: ١٤١٨ هـ.
٥ - فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر مع نقد وتعليق، نعيم الحمصي: نسخة بصيغة: (بي دي إف) (د. ت).
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
إن التخبط في موضوع "القول بالصَّرْفة" وردّ القول بأن إعجاز القرآن ليس بإعجاز ذاتي، إنما هو إعجاز خارجي ناشئ عن "الصَّرْفة"، هو السبب الرئيس في اختيار موضوع البحث ومدارسته ومناقشته.
ويتركز ذلك الاختيار لسببين رئيسين:
السبب الأول: الانتصار لكتاب الله تعالى والذب عن حياضه.
السبب الثاني: معرفة كنه وحقيقة "القول بالصَّرْفة" ومصدرها وردها بالحجة والبرهان، وبيان دلائل الكتاب والسنة وكلام أئمة أهل السنة على الإعجاز الذاتي للقرآن.
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
إن تسرب فكرة "القول بالصرفة" عن طريق الفلسفة الهندية القديمة واستقاء تلك الفكرة من كتاب الفيدا، وتسلل تلك الفكرة للمدرسة العقلانية الأولى "المعتزلة" ثم نشرها بين المسلمين وحدوث رواج كبير لها فتلقفتها عقول أهل الإعجاب بكل جديد، من هنا نشأ الخلاف بين العلماء قديمًا وحديثًا حول قبول "القول بالصَّرْفة" أو ردِّها، ومن هنا كان لزامًا من عرض تلك الفكرة وبيان نشأتها وأسباب انتشارها ورواجها، وعرض أقول العلماء القائلين بها والرادِّين لها ومناقشتها وبيان حجج كل فريق، والرد
60 / 88
عليها بالأدلة النقلية والعقلية وما يمليه العقل والنظر الصحيح المبني على أصول الشريعة وعموم الأدلة الشرعية، ثم ختم البحث بالقول الصحيح، ألا وهو رد "القول بالصَّرْفة".
خامسًا: منهجية البحث
١ - إن الإحاطة بكل ما دونه القائلون بالصرفة والرادِّين لها أمر يصعب جمع شمله وقد بعثر في مصنفات شتى، بل هو شبيه بالمحال، لذا فقد سُلِط الضوء هنا على أبرز تلك المصنفات وعلى أشهر أقوال العلماء فيها.
٢ - ولقد عرف الباحث الصَّرْفة وبين مصدرها وزيل ذلك بأقوال العلماء قديمًا وحديثًا.
٣ - عرض الباحث لأشهر الأقوال الواردة في "الصَّرْفة" وعزاها لقائليها في مصادرها الأصلية - في الأغلب والأعم-، ثم قام بمناقشتها ومدارستها -عرضًا، ونقدًا، وتحليلًا، وترجيحًا.
ولذا فإن الباحث قد سلك مناهج عدة في تناول بحثه منها أبينها ما يلي:
أ- المنهج الاستقرائي
وذلك باستقراء ما سطره أئمة البلاغة وما دونوه عن إعجاز القرن الكريم، وتتبع أقوال القائلين بـ "القول بالصَّرْفة" في مظانها، ثم عقد مقارنة بين أقوال أئمة أهل السنة النافين لـ"القول بالصَّرْفة"، وبين أقوال المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الرافضة، وبعض الأشاعرة ومن نحى نحوهم في الانتصار للـ "القول بالصَّرْفة".
ب- المنهج النقدي
فبعد عرض الباحث لأقوال القائلين بـ "القول بالصَّرْفة"، نقدها وفندها بواضح الأدلة وساطع البراهين.
ج- المنهج التحليلي
فقد قام الباحث بتحليل تلك الأقوال ومناقشتها ورد الأمور إلى نصابها بالردود المقنعة والأجوبة المسكتة.
٤ - انتصر الباحث للقول الحق في موضوع البحث ألا وهو رد "القول بالصَّرْفة".
وبطلانه
سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
سابعًا: مجموع الفهارس: ولأن البحث مختصر، فقد ختم الباحث بحثه بمجموع فهارس مختصر- كذلك- وقد احتوى على ما يلي:
أ- فهرس أهم المراجع والمصادر
ب- فهرس الموضوعات
تمهيد في وقفة مع مناقشة القول بالصَّرْفة
نقول: إن البشر عجزوا ما استطاعوا أن يعارضوا هذا القرآن، ولكن هذا العجز ليس كما يقول المعتزلة إن الله صرفهم عن معارضته، وهذه عقيدة مشهورة قال بها المعتزلة يقال لها الصَّرْفة، يقولون إن الله ﷿ صرف الناس عن معارضة القرآن فعجزوا، صرف هممهم ودواعيهم فما استطاعوا، لأنه سبحانه صرفهم فزعموا أن الإعجاز إنما هو أن الله صرفهم لا أن القرآن معجز بنفسه.
ولهذا قد اشتغل علماء
60 / 89
السنة منذ أن ظهرت هذه البدعة وهذه العقيدة الفاسدة الباطلة بالرد عليها، لأن عقيدة الصَّرْفة عقيدة باطلة ونحن نقول كما قال أهل السنة القرآن لفظًا ومعنى هو دليل الإعجاز وهو دليل التحدي.
فالقول بهذه العقيدة عقيدة الصَّرْفة يعني أن القرآن في ذاته ليس فيه فضيلة في الامتياز ليس فيه فضيلة في التفوق، ولا شك أن هذا باطل بنصوص القرآن، لأن الله ﷿ أخبر في نصوص كثيرة من القرآن أنه تحدى العرب أن يأتوا بمثله ثم بإجماع الأمة على أن الإعجاز ذاتيٌ في القرآن غير منفك عنه بإجماعهم، لا كما تقول المعتزلة أن الإعجاز إنما هو في بالصَّرْفة، أي أن الله صرفهم فعجزوا، لا أن القرآن معجز بنفسه، إنما جعلوا الإعجاز في قدرة الله، فرجعت إلى صفة القدرة، التي هي أن الله بقدرته صرفهم فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، وهذا من أبطل الباطل ترده النصوص الكثيرة. (^١)
ولقد سلك العلماء في بيان وجوه إعجاز القرآن مسالك عديدة، واتجهوا في البحث عنها وجهات مختلفة، وقرر جمهورهم أن القرآن الكريم معجز بذاته، لا لسبب خارج عنه، بينما قرر القائلون الصَّرْفة أن الاعجاز أمر خارج عن ذات القرآن، فكان هذا البحث لبيان مضمون القول الصَّرْفة، ودلالتها، وحجج القائلين بها وردود المعارضين لها. (^٢)
ولا شك في أن القول بالصَّرْفة قولٌ باطلٌ وفاسدٌ ويرد هذا القول الفاسد التحدي الوارد في غير ما موضع من كتاب الله ولاسيما قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨» (الإسراء: ٨٨).
يقول الطبري:
" يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ قَالُوا لَكَ: إِنَّا نَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، لَا يَأْتُونَ أَبَدًا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَوْنًا وَظَهْرًا. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ جَادَلُوهُ فِي الْقُرْآنِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرِهِ شَاهِدَةٍ لَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ بِهِمْ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ". (^٣)
ولاشك في دلالة الآية على أن عجزهم قائم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا تلك القدرة لم يبق هناك أي فائدة لاجتماعهم.
الفصل الأول بيان مفهوم الصَّرْفة
وفيه مبحثان
وقبل مناقشة القول بالصَّرْفة لابد من بيان وإيضاح مسائل ومباحث هامة من أبينها ما يلي:
المبحث الأول: مفهوم الصَّرْفة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم الصَّرْفة في اللغة
فمن المناسب بمكان بيان معنى ومفهوم الصَّرْفة في اللغة ودلالتها.
الصَّرْفة لغة: على وزن فَعلَة، بفتح الفاء واللام وسكون العين- رد الشيء عن
_________
(^١) - يُنظر: موقع ميرا ث الأنبياء، عرفات بن حسن المحمدي، بتاريخ: ١٥/ ٩/ ٢٠١٦ م. بتصرف.
(^٢) - إعجاز القرآن الكريم بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: ١٥/ ٦/ ٢٠٠٦ م.
(^٣) - تفسير الطبري: (١٥/ ٧٥)
60 / 90
وجهه، يقال: صَرَفَهُ يَصْرِفهُ، صَرفًا، فانصرف، وصارف نفسه عن الشيء: صرفها عنه، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (التوبة: ١٢٧)
فقوله: - (ثم انصرفوا …) أي: رجعوا عن المكان الذي استمعوا منه، وقيل: - انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا، وقوله تعالى: - (صرف الله قلوبهم ..) أي: - أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وصرفت الرجل عني فانصرف). (^١)
أي: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين (^٢).
ويأتي الصرف بمعاني أخرى كالتوبة والتطوع والقيمة والعدل والمثل والميل والنافلة (^٣).
فـ" أصلُ الصرفةِ من الفعلِ صرفَ، والصرفُ لغة هو ردُّ الشيءِ عن وجهِه". (^٤)
ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي:
"الصَّرْفُ فَضْلُ الدَّرْهَم في القيمة وجَوْدةُ الفِضَّة وبيع الذَّهَبِ بالفضَّةِ ومنه الصَّيْرَفِيُّ لتَصريفه أحدهما بالآخَر". (^٥).
وقال الراغب الأصفهاني:
" الصَّرْفُ: ردّ الشيء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره، يقال: صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ. قال تعالى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) [آل عمران: ١٥٢]، وقال تعالى: (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) (هود: ٨)، وقوله: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (التوبة: ١٢٧)، فيجوز أن يكون دعاء عليهم، وأن يكون ذلك إشارة إلى ما فعله بهم، وقوله تعالى: (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) (الفرقان: ١٩)، أي: لا يقدرون أن يَصْرِفُوا عن أنفسهم العذاب، أو أن يصرفوا أنفسهم عن النّار. وقيل: أن يصرفوا الأمر من حالة إلى حالة في التّغيير، ومنه قول العرب: (لا يُقبل منه صَرْفٌ ولا عدل)، وقوله: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِ) [الأحقاف: ٢٩]، أي: أقبلنا بهم إليك وإلى الاستماع منك، والتَّصْرِيفُ كالصّرف إلّا في التّكثير، وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة، ومن أمر إلى أمر. وتَصْرِيفُ الرّياح هو صرفها من حال إلى حال. (^٦).
ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:
" صرف الصاد والراء والفاء معظم بابه يدل على رجع الشيء، من ذلك صرفت القوم صرفًا وانصرفوا اذا رجعتهم فرجعوا". (^٧)
وقيل إن الصَّرْفة:
"هي كوكب نير، وسمي هذا الكوكب بالصرفة لانصراف الحر عند طلوعه مع الفجر من المشرق وانصراف البرد إذا غرب مع الشمس، ويقال الصرفة ناب الدهر لأنها تفتر عن فصل الزمانين". (^٨).
قال ابن قتيبة الدينوري: (ت: ٢٧٦ هـ)
"وسميت الصَّرْفَة لانصراف البرد وإقبال الحر (^٩) وقد جعلها العرب في أسجاعهم، كقولهم: إذا طلعت الصَّرْفة بكرت الخُرْفة وكثرت الطُّرْفة وهانت للضيف الكُلْفَة (^١٠) وكقولهم أيضًا إذا طَلِعَت الصَّرْفَة احتَالَ كلُّ ذي حِرْفَة وقيل اخْتَالَ كلُّ ذِي خُرْفَة وجَفَرَ كلُّ ذي نُظْفَة وامْتِيزَ عن المياه زُلْفَة (^١١).
وَالْعَرَبُ تَقُولُ:
الصَّرْفَةُ نابُ الدَّهْرِ لأَنها تفْتَرُّ عَنِ الْبَرْدِ أَوْ عَنِ
_________
(^١) - لسان العرب - مادة صرف - لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت: ٧١١ هـ) - دار صادر - بيروت ١٩٥٥ م.
(^٢) - يُنظر: تفسير الطبري: (١٢/ ٩٤).
(^٣) - لسان العرب - مادة صرف مرجع سابق: مادة (صرف).
(^٤) - المرجع السابق: مادة (صرف).
(^٥) - الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، دار ومكتبة الهلال، (بدون ذكر الطبعة وسنة النشر)، ت: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، (ج ٧/ ص ١٠٩).
(^٦) - الأصفهاني، الحسين بن محمد المعروف بالراغب (ت: ٥٠٢ هـ)، المفردات، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، (ط: الأولى - ١٤١٢ هـ)، ت: صفوان عدنان الداودي، (ج ١/ ص ٤٨٢).
(^٧) - معجم مقاييس اللغة: (٣/ ٣٤٢).
(^٨) - القلقشندي، أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، نشر: دار الفكر - دمشق،
(الطبعة الأولى، ١٩٨٧ م) تحقيق: د. يوسف علي طويل (ج ٢، ص ١٧٧).
(^٩) - ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، أدب الكتّاب، (ج ١، ص ٢٠).
(^١٠) - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، (الطبعة الأولى، ١٩٩٨) تحقيق: فؤاد علي منصور، (ج ٢، ص ٤٤٦).
(^١١) - ابن سيده، علي بن إسماعيل، المخصص، دار إحياء التراث العربي - بيروت - ١٤١٧ هـ ١٩٩٦ م، الطبعة: الأولى، تحقيق: خليل إبراهم جفال، (ج ٢، ص ٣٦٩).
60 / 91
الحَرّ فِي الْحَالَتَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ كُناسةَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْصراف الْبَرْدِ وَإِقْبَالِ الْحَرِّ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْصراف الحرِّ وَإِقْبَالِ الْبَرْدِ. والصَّرْفةُ: خرَزةٌ من الخرَز التي تُذْكر فِي الأُخَذِ (^١)، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ (^٢): يُسْتَعْطَفُ بِهَا الرِّجَالُ يُصْرَفون بِهَا عَنْ مَذاهِبهم وَوُجُوهِهِمْ.
والخلاصة مما جاء أنفًا من معاني يعود إلى معنى التبدل والتحول وانتقال شيء إلى شيء، أو من حال إلى حال. (^٣).
المطلب الثاني: مفهوم الصَّرْفة في الاصطلاح
وبعد بيان مفهوم الصرفة في اللغة وبيان مدلولاتها، فمن المناسب كذلك بيان معناها في الاصطلاح ليكتمل معناها ويتضح فحواها ومبناها.
والصَّرْفة في الاصطلاح تعني: -
١ - أن الله صرف همم العرب عن معارضة القرآن، وسلب عقولهم عنها، وكانت في مقدورهم، لكن عاقهم عنها أمر خارجي، فصار معجزة كسائر المعجزات، ولو لم يصرفهم عن ذلك لجاءوا بمثله.) (^٤)
٢ - وقيل تعني: صرف الهمم عن المعارضة (^٥).
٣ - وقيل تعني: صرف اللهِ هممَ العرب عن معارضة القرآن (^٦).
وهي كلها بمعنى واحد ألا وهو أن الصَّرْفة تعني:
أن معارضة العرب للقرآن كانت ممكنة وهي بمقدورهم، غير إن الله تعالى صرف همم عنها بقدرته.
ولا شك أن القول بالصَّرْفة كلام فاسد وباطل كما أسلفنا، ويلزم منه أن القرآن الكريم ليس بمعجز في حد ذاته، وسيأتي معنا بيان ذلك في محل بحثه بشيء من زيادة التفصيل والإيضاح والبيان.
المبحث الثاني: بيان المعنى العام المقصود بالصَّرْفة - إجمالًا وتفصيلًا-
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: بيان معاني الصَّرْفة إجمالًا
والصَّرْفة لها عند أصحابها معنيان:
المعنى الأول: أنَّ الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتِهم عليها فكانَ هذا الصرفُ خارِقًا للعادة.
المعنى الثاني: أن الله سلبهم العلوم التي يحتاجُ إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن". (^٧)
وفي نحو ذلك يقول ابن سنان الخفاجي الشيعي: (ت: ٤٦٦ هـ)
" إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن
سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة، وقت مرامهم ذلك". (^٨)
وبشيء من الإيضاح والبيان نبين المقصود بالصَّرْفة والتي تدور مادتها حول
_________
(^١) - ابن منظور، لسان العرب، (ج ٩، ص ١٨٩).
(^٢) - ابن سيده، المخصص، (ج ١، ص ٣٧٥).
(^٣) - يُنظر: الصرفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض لمحمد فقهاء، بحث عن موقع الألوكة: (ص: ١٠).
(^٤) البرهان في علوم القرآن - لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: ٧٩٤) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - الطبعة الأولى - دار إحياء الكتب العربية، مصر ٥١٣٧٦ - ١٩٥٧ م، ج ٢/ ص ٩٣ …، ويُنظر: الاتقان في علوم القرآن - لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت ٩١١ للهجرة) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - دار التراث بالقاهرة، الطبعة الثالثة، ١٤٠٥ هـ-١٩٨٥ م .... ج ٢/ ص ١١٨.
(^٥) - الرماني، علي بن عيسى، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط ٤، القاهرة (ص ١١٠).
(^٦) - الخطابي، حمد بن محمد أبو سليمان، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط ٤، القاهرة (ص ٢٣).
(^٧) - مباحث في علوم القرآن: مناع القطان (ت: ١٤٢٠ هـ)، " ص: ٢٦١)، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة ١٤٢١ هـ- ٢٠٠٠ م عدد الأجزاء: ١.
(^٨) - سر الفصاحة: (ص: ١٠٠).
60 / 92
إثبات التحدي بالقرآن بالحيلولة بينه وبين العرب في أن يأتوا بمثله.
وفي بيان معنى هذا الوجه من بالصَّرْفة يقول الرّماني:
"أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول … ". (^١)
المطلب الثاني: مقاصد للقائلين بالصَّرْفة تفصيلًا
وقد اختلف القائلون بالصَّرْفة في بيان حقيقة ما يقصدونه بها، فقالوا: إن الله سبحانه لأجل اثبات التحدي، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم، وبين الإتيان بمثل القرآن بأحد الأمور الثلاثة التالية:
المقصد الأول: صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة، فكلما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفًا ودافعًا يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة، ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم عن الانصداع لهذا الأمر، بل إن المقتضى فيهم كان تامًا، غير أن الدواعي والهمم صارت مصروفة عن الالتفات لهذا الأمر، بصرف الله قلوبهم عنه، ولولا ذلك لأتوا بمثله.
المقصد الثاني: إن الله سبحانه سلبهم العلوم التي كانت العرب مالكة لها ومتجهزة بها، وكانت كافية للإتيان بما يشاكل القرآن، ولولا هذا السلب لأتوا بمثله ..
وممن تبنى هذا القول الشريف المرتضى الشيعي الرافضي (ت: ٤٦٣ هـ)
وهو المتهم بوضع كتاب (نهج البلاغة) المنسوب لأمير المؤمنين على بن أبي طالب ﵁، حيث يقول:
" اللهَ تعالى سلبهُمُ العلومَ التي يُحتاجُ إليها في مُعارضَةِ القرآنِ والإتيانِ بمثلِهِ". (^٢)
وقد تابع الشريف المرتضي على هذا القول ابنُ سنان الخفاجي: (ت: ٤٦٦ هـ)
وقد مر معنا آنفًا قوله في الصَّرْفة.
المقصد الثالث: إنهم كانوا قادرين على المعارضة، ومجهزين بالعلوم اللازمة لها، ولكن الله منعهم بالإلجاء على جهة القسر من المعارضة، مع كونهم قادرين، فتقهقروا في حلبة المعارضة، لغلبة القوة الإلهية على قواهم. (^٣)
وسنبين أن الصَّرْفة بكل صورها غير مقبولة، لأنها تسلب الاعجاز الذاتي للقرآن، وأنها وِهمُ ذهب إليه خيال القائلين بها دون سند أو دليل.
وفي نحو ما سبق يجمل القرطبي القول فيقول ﵀:
" إن بعض أصحاب الصَّرْفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه،
_________
(^١) النكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: (ص: ١١٠).
(^٢) -المعجزة الكبرى القرآن: ص ٧٩.
(^٣) - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز - ليحيى بن حمزة الحسيني اليمني الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (المتوفى: ٧٤٥ هـ) - طبع في مصر في ثلاثة أجزاء، طبعة المتقطف عام ١٣٣٣ للهجرة. ج ٣/ ص ٢٩١. ويُنظر: إعجاز القرآن - للأستاذ علي العماري - سلسلة الثقافة الإسلامية - عدد ٤٤، حزيران ١٩٦٣ م، القاهرة. وانظر البيان في إعجاز القرآن - للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي - دار عمار - عمان - ص ٨٢ - ٨٣.
60 / 93
وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقًا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار". (^١)
الفصل الثاني القول بالصَّرْفة (عرض- ومناقشة- وتفنيد)
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: مصدر القول بالصَّرْفة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المصدر الأول لفكرة القول بالصَّرْفة
لقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على أن القرآن معجز بذاته، وأن إعجازه بذاته لا بسبب خارج عنه، وقد بذلوا مهجهم في بيان أوجه إعجازه.
ومن ذهب إلى القول بالصَّرْفة أراد بذلك أن " إعجاز القرآن أمرًا خارجًا عنه ".
ويعزى القول بالصَّرْفة عند الباحثين الى أنه من التيارات التي وفدت علينا من الخارج … وأن بعض فلاسفة المسلمين، وقفوا على أقوال البراهمة في كتابهم - الفيدا - (^٢)، (^٣) وهو يشتمل على مجموعة من الأشعار والآداب ليس في كلام الناس ما يماثلها - في زعمهم -، ويقول جمهور علمائهم: - إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله …، لأن - براهما- (^٤) صرفهم عن أن يأتوا بمثلها ........
وقد لاقى هذا الرأي انتقاضًا من أحد الباحثين. محتجًا بأن البراهمة لم يقولوا مثل أشعار الفيدا احترامًا لها، وليس بمقتضى التكوين، ثم إن كلام البراهمة في الفيدا كان محل سخرية العقل الإسلامي، فلا مستنصر لهذا الرأي. (^٥)
وكل هذا لا ينكر وجود التأثر، فالتأثر برأي لا يوجب نقله كاملًا، كما أن السخرية بالبراهما قد تؤدي إلى تنزيل الصرف على القرآن، وإن كان من وجه مختلف لأنه الكتاب المعجز حقًا. (^٦)
وفي نحو ذلك يقول أبو الريحان البيروني (ت: ٤٣٠ هـ) في كتابه - ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة - ما نصه:
" إن خاصتهم يقولون إن في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها، ولكنهم ممنوعون عن ذلك احترامًا لها، ولم يبين - البيروني وجه المنع، أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى ..؟ أم هو منع تكويني .. بمعنى: أن -براهما- صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها …؟ وهذا الأخير هو الظاهر، لأنه هو الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم، وما اشتهروا به من أن القول بالصرفة نبع في واديهم …
المطلب الثاني: وفود القول بالصَّرْفة، ومصدر تلقيها والترويج لها
ولقد وفدت إلينا هذه الفكرة عندما ترجمت الفلسفة الهندية في عهد - أبي جعفر المنصور (وهو الخليقة الثاني من خلفاء بني العباس ت: ١٥٦ هـ)، فتلقف الذين يحبون
_________
(^١) - الجامع لأحكام القرآن: (١/ ٧٦).
(^٢) -المعجزة الكبرى القرآن لمحمد أبو زهرة ص ٧٦.
(^٣) - والفيدا: كتاب يشمل أربعة كتب مقدسة للهندوس، وقد كتب باللغة السنسكريتية - يُنظر كتاب: مشكلة الألوهية د. محمد غلاب - ص ٩٧. ويُنظر: موسوعة المورد: للبعلبكي - ج ١٠/ ص ٨٢.
(^٤) - براهما: من آلهة الهندوس، وهو عندهم مرادف للمطلق الأعلى أو (الأتمان) - يُنظر: المرجع السابق ص ٩٨
(^٥) - يُنظر: الإعجاز البياني: د. محمد أبو موسى ص ٣٥٨. ط ٢. مكتبة وهبة: ١٤١٨ هـ.
(^٦) - عن مدونة: نورة الشريف: بتاريخ: ١٣/ ٦/ ٢٠٠٨ م.
60 / 94
كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم، هذه الفكرة الغريبة الوافدة، واعتنقوا هذا القول وطبقوه على القرآن، وإن كان لا ينطبق، فقال قائلهم: إن العرب اذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن، ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه، ومعانيه، ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله … " (^١)
فلا غرابة في انتقال قول - البراهمة - في كتابهم المقدس - الفيدا - إلى بعض المسلمين، عن طريق الذين يتلقفون كل وافد من الأفكار، وهي ليست أول وآخر فكرة انتقلت من الفكر البراهمي إلينا، يعرف ذلك كل من وقف على حقيقة ذلك الفكر.
إن رواج فكرة - الصَّرْفة - يؤدي الى أن القرآن الكريم ليس في درجة من الفصاحة والبلاغة تمنع محاكاته، وتعجز القدر البشرية عن أن تأتي بمثله، فالإعجاز القرآني عند القائلين - بالصَّرْفة - ليس من صفات القرآن الذاتية، وبالتالي ما دامت بلاغة القرآن لا تزيد على بلاغة سائر الناس، فمؤدى كلامهم: أن يكون القرآن من جنس
كلام البشر (^٢)
وحول كيفية انتقال القول بالصرفة إلى رحاب المسلمين يوضح ويجلي ذلك
الرافعي حيث يقول ﵀: (^٣)
"لما نجَمَت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعة من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شؤون أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على كونها نظرًا صرفًا، وبين الدين على كونه يقينًا محضًا … فذهب شيطانُ المتكلمين أبو إسحاق إبراهيم النَّظام (^٤) إلى أن الإعجاز كان بالصَّرْفة، وهي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصرف خارقًا للمادة (^٥).
وقد تكلم عدد من الباحثين حول قضية نشأة القول بالصرفة وذكروا أقوالًا مفادها أنه
لا علاقة بالبراهمة بهذا القول، ولا يوجد أحد من القدامى أشار أو نبه على ذلك الأمر.
ومما ذكر في ذلك قول أحد الباحثين:
" .... ويبدو الرأي الثاني - أي أن هذا القول من بيئة العرب قولًا خالصًا لا من غيرهم - في نظري هو الأقرب للصواب، نظرًا لعدم ورود أي إشارة من العلماء القدامى الذين تحدّثوا عن هذه القضية تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى كون الفكرة مستقاة من البراهمة أو من غيرهم ". (^٦).
المطلب الثالث: أقوال العلماء في إثبات تلقي النَّظام لفكرة القول بالصرفة
ويبدوا أن أصحاب هذا الرأي لم يقفوا على ما ذكره بعض المتقدمين، ونسوق بعض أقوالهم ليتبين ويتضح بالبرهان الساطع منشأ القول بالصَّرْفة ومصدر تلقيه الأول كان من البراهمة، وأن أصحاب هذا الرأي قد أصابوا الحق فيه ومن هذه الأقوال
_________
(^١) يُنظر: المعجزة الكبرى - القرآن: لمحمد أبي زهرة - ص ٦٩ - ٧١، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة - (د- ت).
(^٢) - إعجاز القرآن الكريم بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: ١٥/ ٦/ ٢٠٠٦ م. بتصرف.
(^٣) - مصطفى صادق الرافعي (١٢٩٨ - ١٣٥٦ هـ = ١٨٨١ - ١٩٣٧ م)، مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعى:
عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتاب. أصله من طرابلس الشام، ومولده في بهتيم (بمنزل والد أمه) ووفاته في طنطا (بمصر) أصيب بصمم فكان يكتب له ما يراد مخاطبته به. شعره نقي الديباجة، على جفاف في أكثره. ونثره من الطراز الأول. له عدد من الدواوين الشعرية والأدبية، وغيرها من المصنفات.
يُنظر: المنتخب من أدب العرب ١: ٥٥ ومحمود بسيوني، في مجلة الرابطة العربية ١٨ ربيع الأول ١٣٥٧ والمقتطف ٧٣: ٣٥٢ وتراجم علماء طرابلس ٢١١ في آخر ترجمة عمه عبد الحميد بن سعيد الرافعي ومعجم المطبوعات ٩٢٦ والفهرس الخاص - خ وتعليقات عبيد.
مع تصرف واختصار يسير من الباحث.
(^٤) - إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظّام، من أئمة المعتزلة، ذكروا أن له كتبًا كثيرة في الفلسفة والاعتزال، وقال عنه الجاحظ: في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحًا فأبي إسحاق من أولئك. (ت: ٢٣١ هـ). الأعلام: (١/ ٤٣)، فوات الوفيات: (١/ ٢٣).، وقيل: (ت: ٢٢٤ هـ).
(^٥) - الرافعي، مصطفى صادق بن عبد الرزاق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثامنة - ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٥ م، (ص ١٠١).
(^٦) - التركي، إبراهيم بن منصور، القول بالصرفة في إعجاز القرآن الكريم، بحث منشور على الشبكة بصيغة: بي دي إف، (ص: ٧).
60 / 95
١ - قول أبي منصور البغدادي التميمي (ت: ١٠٣٧ هـ) حيث يقول ﵀ عن النَّظام: "وأعجب - أي النَّظام - بقول البراهمة بإبطال النبوات ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا من السيف فأنكر إعجاز القران في نظمه وأنكر ما روى في معجزات نبينا ﷺ". (^١).
٢ - قول أبي المظفر الإسفراييني (^٢) حيث يقول ﵀ عن النَّظام:
"كَانَ يصحب ملحدة الفلاسفة (^٣) وقال عنه أيضًا: وَمن فضائحه - النَّظام - قَوْله فِي الْقُرْآن أَنه لَا معْجزَة فِي نظمه وَكَانَ يُنكر سَائِر المعجزات مثل انشقاق الْقَمَر وَأَنْ كَانَ قد نطق بِهِ الْقُرْآن (^٤) فِي قَوْله ﴿اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر﴾ (القمر: ١) وَكَذَلِكَ كَانَ يُنكر تَسْبِيح الْحَصَى فِي يَده ونبوع المَاء من بَين أَصَابِعه وَكَانَ فِي الْبَاطِن يمِيل إِلَى مَذْهَب البراهمة الَّذين يُنكرُونَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء فَتكلم بِهَذَيْنِ المذهبين اللَّذين يبطل أَحدهمَا حدث الْعَالم وَالْآخر يبطل ثُبُوت النُّبُوَّة وَكَانَ لَا يقدر على إِظْهَار مَا كَانَ يضمره من الْإِلْحَاد (^٥).
٣ - قول عضد الدين الإيجي (^٦) حيث يقول ﵀ عن النَّظام:
" … النَّظام وهو من شياطين القدرية طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة (^٧) وتابع عنه وعن أتباعه بتأثرهم في الفلاسفة وأنه مال في بعض المسائل إلى قول الطبيعيين، إلى أن قال: وقالوا نظم القرآن ليس بمعجز إنما المعجز إخباره بالغيب من الأمور السالفة والآتية، وصرف الله العرب عن الاهتمام بمعارضته حتى لو خلاهم لأمكنهم الإتيان بمثله بل بأفصح منه (^٨).
"وبعد هذه النقول يتبين لنا أصل موضوع الصَّرْفة، ومن ثم يتبين لنا كذلك أول من قال بها ممن ينتسب للمسلمين وروجها، فمصدرها البراهمة وأخذها النَّظام، والقدماء نسبوها له بشكل مستفيض، وعلى زعم أن النَّظام لم يقل بهذا لم يرد ولو نص واحد ينسب للنَّظام لا له ولا لتلامذته ولا لمخالفيه يقول بعكس ما نسب إليه من القول بالصَّرْفة، فلو وجد لسطر كما سطرت أقواله الأخرى، وكما ينقل عن الكثير من الأئمة أقوالهم، ولو كانت متعددة حتى ولو في المسألة الواحدة، فهناك الكثير من أراء ومسائل لعلماء نقلت إلينا آرائهم في المسألة الواحدة ربما أكثر من خمسة أراء، فإذا لم يوجد يبقى الرأي المنسوب إليه منصوب على قدميه، حتى يأتينا ما يخالفه أو يناقضه، أو ما يرده، وإلى ذلك الوقت سيبقى ما نسب إليه منسوب". (^٩)
المبحث الثاني: أبرز أقوال القائلين بالصرفة من المعتزلة وغيرهم
وفيه خمسة مطالب:
وبين يدي هذا المبحث الهام جدير بنا أن نعرف بالمعتزلة ومنهجهم في
_________
(^١) - البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي أبو منصور، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة الثانية، ١٩٧٧،
(^٢) - شَاهْفُوْرُ أَبُو المُظَفَّرِ طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ، العَلاَّمَةُ، المُفْتِي، أَبُو المُظَفَّرِ طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسفرَايينِيّ، ثُمَّ الطُّوْسِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ (التَّفْسِيْر الكَبِيْر).
كَانَ أَحَدُ الأَعْلَامِ. حَدَّثَ عَنِ: ابْنِ مَحمِش، وَأَصْحَاب الأَصَمّ. رَوَى عَنْهُ: زَاهِرٌ الشَّحَّامِيّ، وَغَيْرهُ.
صَاهر الأُسْتَاذ أَبَا مَنْصُوْرٍ البَغْدَادِيّ. تُوُفِّيَ: بطُوسَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة. سير أعلام النبلاء (١٨/ ٤٠١).
(^٣) - الإسفراييني، طاهر بن محمد أبو المظفر، ت ٤٧١ هـ، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، المحقق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب - لبنان، الطبعة: الأولى، ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٣ م، (ص ٧١).
(^٤) - عبارة "نطق بِهِ الْقُرْآن" وما في نحوها لا تليق بالقرآن أبدًا، لأن الذي ينطق ويتكلم هو المخلوق، والقرآن الذي هو كلام الله "منزل غير محلوق". الباحث.
(^٥) - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ص ٧٤
(^٦) عَضُد الدين الإِيجي: (..... ٧٦٥ هـ- ..... -١٣٥٥ م)
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو الفضل، عَضُد الدين الإيجي: عالم بالأصول والمعاني والعربية. من أهل إيج (بفارس) ولي القضاء، وأنجب تلاميذ عظامًا. وجرت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، فمات مسجونًا.
يُنظر: بغية الوعاة ٢٩٦، ومفتاح السعادة ١: ١٦٩، والدرر الكامنة ٢: ٣٢٢ وطبقات السبكي ٦:، والكتب خانة ٤: ١٤٥ ثم ٧: ١٦٠، ومعجم المطبوعات ١٣٣١
(^٧) - الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٧، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، (ج ٣، ص ٦٦١).
(^٨) - السابق، ص ٦٦٣
(^٩) - يُنظر: الصرفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض لمحمد فقهاء، بحث عن موقع الألوكة: (ص: ٢٠).
60 / 96
خطوات مختصرة جدًا على النحو التالي:
أولًا: التعريف بالمعتزلة
المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية. (^١)
ثانيًا: منهجها
"وهي فرقة عقلانية كلامية فلسفية، تتكون من طوائف من أهل الكلام، الذين خلطوا بين الشرعيات والفلسفة والعقليات في كثير من مسائل العقيدة، وقد خرجت المعتزلة
عن السنة والجماعة في مصادر التلقي ومناهج الاستدلال ومنهج تقرير العقيدة وفي أصول الاعتقاد". (^٢)
ثالثًا: نشأتها
الواقع أن نشأة الاعتزال كانت ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية، وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية؛ فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي، على أن هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية؛ فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي (^٣). وقيل أيضًا: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية (^٤) قد أدت إلى تشكيكه في دينه، وابتداعه لنفي الصفات، كما أن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تُعدُّ موردًا من موارد الفكر الاعتزالي؛ إذ إنه كان يقول بالأصلح، ونفي الصفات (^٥) الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية (^٦).
رابعًا: بروزها
وقد برزت المعتزلة بعد ذلك كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الذي كان تلميذًا للحسن البصري، وذلك عندما دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفِّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء (^٧): أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا، بل هو في
_________
(^١) - الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، المؤلف: د. مانع بن حماد الجهني (ت: ١٤٢٣ هـ)،، الناشر: دار الندوة للنشر; عدد المجلدات: ٢. (ص: ٦٩).، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: (ص: ٧٣).
(^٢) - ناصر العقل: الجهمية والمعتزلة ص ١٢٧.
(^٣) - شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى: (٥/ ٢٠)
(^٤) -السمنية: بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات. يُنظر: شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى: (٥/ ٢٢).
(^٥) نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبِّه وهم -عند من أقر بها- نافون للمعبود، والحق فيها ما قال القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة نبيه ﷺ وهم أئمة الجماعة. يُنظر: شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى (٣/ ٢٦٤. (
(^٦) - يُنظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة: (ص: ٦٤) وما بعدها.
(^٧) - واصل بن عطاء الغزَّال، البصري المتكلم، كبير المعتزلة، ولد سنة (٨٠ هـ) ومات سنة (١٣١ هـ)، كان تلميذًا للحسن البصري فحصل خلاف بينه وبين شيخه الحسن البصري، فطرده من مجلسه.
60 / 97
منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة (^١). ولأجل هذا سمَّاهم المسلمون معتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها (^٢).
وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون: إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن؛ لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى، ولمعرفته بأن ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام، وعلى هذا القول مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين. (^٣)
خامسًا: انتشارها
ولقد "انتشرت حركة الاعتزال في أنحاء الممالك الإسلامية واستقطبت شخصيات بارزة، أمثال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النَّظام وغيرهم، وقد كان لهذه الشخصيات تأثير بعيد المدى في مختلف ميادين الحياة العقلية، فنظرية المعرفة عندهم كانت تستند على العقل، كونهم أطلقوا العنان للعقل في البحث في جميع المسائل من غير أن يحده أي حد، وجعلوا له الحق في أن يبحث في السماء، وفي الأرض، وفي ذات الله تعالى، وفي الإنسان، وفيما دق وجل. " (^٤)
سادسًا: انقسامها
لقد انقسمت المعتزلة إلى فرق شتى، تسمى كل منها باسم زعيمها، ومن أبرز تلك الفرق:
أ- الواصلية: (أصحاب واصل بن عطاء المخزومي- مولاهم-) (ت: ١٣١ هـ)
ب- النَّظامية: (أصحاب إبراهيم بن سيار النَّظام). (ت: ١٨٥ هـ)
ج- الجاحظية: (أصحاب الجاحظ) أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري (ت: ٢٥٥ هـ)
سابعًا: أصوله مذهبها
ورغم عن هذا الانقسام، إلا أن ثمة أصول خمسة ظلت تجمع فرق المعتزلة ألا وهي: التوحيد، العدل، الوعد، الوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي نحو ذلك يقول الخياط أحد كبرائهم في كتابه "الانتصار":
" ليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس، فهو معتزلي". (^٥)
ثامنًا: أبرز أسباب توسع أفكارها عن الأصول الخمسة
إن المعتزلة كغيرها من الفرق بدأت بأفكار ومعتقدات مختصرة ومحدودة ومحصورة في أصولهم الخمسة التي
_________
(^١) - الشهرستاني: الملل والنحل ١/ ٦١، ٦٢.
(^٢) -البغدادي: الفرق بين الفرق: (ص ١٠٥).
(^٣) -المرجع السابق نفسه: (ص ١٠٨).
(^٤) - ضحى الإسلام - أحمد أمين: (٣/ ٨٦). بتصرف.
والكاتب "أحمد أمين" -هذا- أحد رؤوس العصرانيين " العقلانيين " في عصرنا، ممن عظموا العقل حتى ردوا به أحاديث المعصوم ﷺ، وانتصروا للمعتزلة ضد أهل السنة - وطالع ما يقول عنه ولده جلال في مذكراته: (ص ٣٠٣ - ٣٠٤) يتبين لك أمر الرجل.
(^٥) - الانتصار: (ص: ١٢٦).
60 / 98
ذكرها الحياط آنفًا. ولكن تعمقهم وتوسعهم في بحثها والتنقيب عن شرح معانيها، فتفرع عن بحثهم وتنقيبهم هذا مسائل فرعية عدة منبثقة عن تلك الأصول الخمسة وعن غيرها أيضًا، وكان ذلك لأسباب عدة لعل من أبرزها.
أ- أنهم يتقيدوا بنصوص وحيي التنزيل "الكتاب والسنة"، واعتمدوا على العقل وبالغوا في ذلك حتى قدموه على النقل، مما كان له أعظم وأبلغ الأثر في وقوع الخلاف والاحتدام فيما بينهم البعض.
ب- أنهم انفتحوا على مطالعة ومدارسة كتب الفلسفة اليونانية، فقد استمدوا أفكارها منها ومزجوها وخلطوها بالعقيدة الإسلام الصحيحة المنبثقة من الوحي المنزل، فتشعبت بهم الأهواء بسبب سوء المصدر الفلسفي اليوناني وعدم لزومهم وتقيدهم بنصوص الكتاب والسنة، فنتج عن ذلك اختلاف في الآراء، وزاد بينهم الجدل العقيم، واشتد بينهم الحوار والتنازع والانقسام إلى فرق شتى أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين فرقة، وأصبح لكل فرقة منها رؤساؤها وآراؤها وأفكارها الخاصة بها.
وهذا أمر لا غرابة فيه، فالسنة تجمع والبدعة تفرق، فأهل الحق سُمُوا بـ "أهل السنة والجماعة" بسبب لزومهم السنة واجتماعهم عليها، وأهل الباطل سُمُوا بـ " أهل البدعة والاختلاف" بسبب تفرقهم وتنازعهم.
نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام والسنة والجماعة حتى نلقاه سبحانه، وحتى نرد حوض المعصوم ﷺ ونشرب منه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا يوم يقول لأهل البدع سحقًا سحقًا، فقد ثبت في الصحيحين من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعدي ﵁ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي". (^١).
يقول الإمام الشاطبي ﵀: (ت: ٧٩٠ هـ)
"ولقوله: (قد بدلوا بعدك)، ولو كان الكفر: لقال: " قد كفروا بعدك"
، وأقرب ما يحمل عليه: تبديل السنة، وهو واقع على أهل البدع
ومن قال: إنه النفاق: فذلك غير خارج عن مقصودنا؛ لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً، لا تعبدًا، فوضعوها غير مواضعها، وهو عين الابتداع
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنَّة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا، لا على التعبد بها لله تعالى؛ لأنه تبديل لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي". (^٢)
قال النووي ﵀ معلقًا على الحديث: (ت: ٦٧٦ هـ)
"هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال: ..... والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم
_________
(^١) - رواه البخاري: (٦٢١٢)، ومسلم: (٢٢٩٠).
(^٢) - الاعتصام: (١/ ٩٦).
60 / 99
عن الإسلام". (^١)
قال القرطبي ﵀: (ت: ٦٧١ هـ)
"قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكلُّ مَنْ ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله: فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طردًا: مَنْ خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ، والأهواء والبدع". (^٢)
المطلب الأول: أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة
كان إبراهيم النَّظام الذي هو أحد رؤوس هؤلاء المعتزلة، هو أول من قال بالصَّرْفَةِ منهم وفي ذلك يقول عنه محمد أبو زهرة:
"فهو أول من جاهر به، وأعلنه ودعا إليه، ولاحى عنه، كأنه مسألة من مسائل علم الكلام، ونقول إنه أول من جهر به، ولا نقول إنه أول من فكر فيه، أو أول من ابتدأ القول به، لأن الأفكار لا يعرف ابتداؤها وهي تتكون في خلاياها، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر، ويجاهر بها.
جاهر بها، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان، وإن لم يكن مستقيم الفكر، بل إنه يظن الظن فيحسبه يقينًا، ثم يبني عليه ويقايس، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح". (^٣).
يقول عنه تلميذهُ الجاحظ: (ت: ٢٥٥ هـ)
"وَإنما كان عيبُهُ الذي لا يفارقه سوءَ ظنِّهِ وجَودة قياسِهِ عَلَى العارض والخاطر،
كان يظنُّ ثمَّ يقيس عليه وينسى أنَّ بدءَ أمرِه كان ظَنًّا فإذا أتقنَ ذلك وأيقنَ جَزَم عليهِ". (^٤)
"ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية؛ ليكون الرد على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتي". (^٥)
وليتجلى الأمر بصورة أوضح
فقد "كان النَّظام - ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري من الموالي، وإليه تنتسب الفرقة النظامية (^٦) -أول من اقترن اسم الصَّرْفَةِ باسمه، واشتهر أنه أول المنادين بها، وقيل له - النَّظام - لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، تتلمذ على خاله أبي الهذيل العلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكون مذهبًا خاصًا به، مات في ريعان شبابه (سنة ٢٣١ للهجرة) عن ست وثلاثين عامًا، وكان أستاذ - الجاحظ - (^٧)، ترجم له أبو منصور البغدادي - في كتابه - الفرق بين الفرق - عند ذكره الفرقة النظامية فقال: - (عاشر النَّظام في شبابه قومًا من الثنوية (^٨) وقومًا من السمنية (^٩) القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط قومًا من ملاحدة الفلاسفة، ثم
_________
(^١) -شرح النووي على مسلم: (٣/ ١٣٦، ١٣٧).
(^٢) - التذكرة في أحوال الموتى والدار الآخرة: (ص ٣٥٢)
(^٣) - يُنظر: أبو زهرة، المعجزة الكبرى للقرآن، ص: ٥٩، الشاملة الحديثة.
(^٤) - الحيوان للجاحظ: (٢/ ٢٢٩ - ٢٣٠ (.
(^٥) - يُنظر: أبو زهرة، المعجزة الكبرى للقرآن، (ص: ٥٩)، الشاملة الحديثة.
(^٦) -النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظّام طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة. يُنظر: الملل والنحل-الشهرستاني: (١/ ٦١).
(^٧) -المعتزلة - زهدي حسن جار الله - منشورات النادي العربي في يافا - ١٩٤٧ م - ص ١٢٠ - ١٢٩.
(^٨) -الثنوية: قوم يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، يُنظر: الملل والنحل: للشهرستاني: الإمام أبي الفتح بعد الكريم (ت: ٥٨٤ هـ) ج ١/ ص ٨٠ بهامش الفصل. دار صادر - بيروت.
(^٩) - السمنية: فرقة هندية قالت بقدم العالم وبتناسخ الأرواح -يُنظر: الفرق بين الفرق - للبغدادي الفصل الثاني عشر ص ٢٧٠.
60 / 100
دون مذاهب الثنوية، وبدع الفلاسفة، وشبه الملاحدة في دين الإسلام، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا من السيف، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه، وأنكر ما روي في معجزات نبينا ﷺ من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء من بين أصابعه، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا ﵇ الى إنكار نبوته، ثم أنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار رفعها، فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع، وحجية القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة من الأخبار التي توجب العلم الضروري ثم إنه ذكر الصحابة بما يقرؤها غدًا في صحيفة مخازيه، وطعن في فتاوى أعلام الصحابة ﵃ ثم قال: - والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النَّظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته، ليست بمعجزة للنبي ﵊، ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه، ما فيه من الإخبار بالغيوب، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته، فان العباد قادرون على مثله، وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف" (^١).
وقد تبنت الفرقة - النَّظامية - بالإضافة الى ما تقدم من مخالفات لجماعة المسلمين، آراء شاذة في العقائد منها: أن الله لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح فيه، ولا أن يزيد وينقص من عقاب وثواب، والتواتر يحتمل الكذب، وأوجبوا النص على الإمام، وثبوت الإمامة لعلي ﵁ -لكن عمر- ﵁ كتمه … (^٢).
وقال الشهرستاني في الملل والنحل: (ت: ٥٤٨ هـ)
"والنظَّامية: أصحاب ابراهيم بن سيار بن هانئ النظَّام.، وإبراهيم النظَّام قد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل منها: قوله في إعجاز القرآن أنه من حيث إخباره عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب من الاهتمام به جبرًا وتعجيزًا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغة، وفصاحة، ونظمًا .... " (^٣)
ففي رأي - النَّظام - إذن: أن الله قد صرف أوهام العرب عن معارضة القرآن، فانصرفوا عن ذلك، وتعذرت عليهم المعارضة، لا لأن القرآن في حد ذاته خارج عن طوق البشر، أو خارقًا لمقدرتهم، ومألوف عادتهم، فهو في ذلك لا يتفوق على البليغ الفصيح من كلام العرب، ولا تكاد تكون له مزية أو فضل في ذلك، ولو ترك لهم المجال، وأفسح أمامهم الطريق، لأتوا بمثل القرآن فصاحة، وبلاغة، وحسن نظم، وتأليف .... (^٤)
نعوذ بالله من الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المطلب الثاني: القائلون بالصرفة من المعتزلة غير "النظّام "
ليس القول بالصرفة مقصورًا على النظّام كما يظنه البعض بل لقد سلك هذا الطريق أقوام كُثُر سواء من المعتزلة أو من غيرهم كذلك.
وإن كان النظّام أبرز من قال بالصرفة من المعتزلة، فقد تابعه عليه كذلك أقوام وكان من أبرز هؤلاء كل من:
_________
(^١) - الفرق بين الفرق: لعبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت ٤٢٩ هـ) ص ١٢٨ - ١٥٠، تحقيق - لجنة إحياء التراث العربي - بيروت - ١٩٨٧ م.
(^٢) - مباحث في إعجاز القرآن - د. مصطفى مسلم، الطبعة الثانية - دار المسلم بالرياض - سنة ١٩٩٦ م، نقلا عن لوامع الأنوار لمحمد بن أحمد السفاريني - ج ١/ ص ٧٨.
(^٣) -الملل والنحل - للشهرستاني: ج ١/ ص ٦٧ بهامش الفصل.
(^٤) - إعجاز القرآن الكريم (مرجع سابق) بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: ١٥/ ٦/ ٢٠٠٦ م. بتصرف.
60 / 101
١ - عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى المُزدار (ت: ٢٢٦ هـ): كان معروفًا بالناسك وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم عنه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة. (^١)، وقد تلمذ له أيضًا الجعفران،
والجعفران هما:
أ- جعفر بن حرب الثقفي المعتزلي العابد أبو الفضل: (ت: ٢٣٤ هـ) من نساك القوم وله تصانيف.
ب- وجعفر بن مبشر الهمداني المعتزلي البغدادي أبو محمد: (ت: ٢٣٦ هـ) الفقيه البليغ كان مع بدعته يوصف بزهد وتأله وعفة.
وكان الجعفران سيدا معتزلة بغداد في عصرهما، ومضربا المثل في العلم والعمل عندهم.
كما تلمذ له أيضًا أبو زفر وهو من مصنفي المعتزلة، ومحمد بن سويد المعتزلي.
وصحبه (أبو جعفر) محمد بن عبد الله الإسكافي وعيسى بن الهيثم وجعفر بن حرب الأشج. وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا: إن الله تعالى خلق القرآن (^٢) في اللوح المحفوظ ولا يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرؤه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا. (^٣).
وقد تولى المُزدار رئاسة المعتزلة ببغداد (^٤).
وقال في القرآن: إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظمًا وبلاغة،
وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه. (^٥)
وهو الذي نُسِبَ إليه القول بأن: (الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو أفصح منه). (^٦)
٢ - عباد بن سليمان الصخري: معتزلي من أهل البصرة من تلامذة هشام بن عمرو القوطي. (^٧)
٣ - القاضي هشام بن عمرو القوطي: بصري، عدّه القاضي في نهاية الطبقة السادسة من المعتزلة كان يحظى باحترام المأمون. (^٨)
٤ - أبو إسحاق النصيبي: من الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة وكان يشك في النبوات كلّها. (^٩)
٥ - "الجاحظ" أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي (^١٠).
ولقد فنَّد (الجاحظُ) دعوى أستاذه (النظّام) في كتابٍ مفقودٍ سماهُ "الاحتجاج لنظم القرآن".
قال في مقدمته:
"فلم أدع فيه مسألةً لرافضي ولا لحديثي، ولا لحشوي ولا لكافر مباد، ولا لمنافق
مقموع، ولا لأصحاب النظّام، ولمن نجم بعد النظّام ممن يزعم أن القرآن حق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل، وليس ببرهان ولا دلالة". (^١١)
ورجّح (الرافعي) أن الجاحظ تابع طائفته المعتزلة في القول بالصَّرْفة، وإن
_________
(^١) الملل والنحل للشهرستاني: (١/ ٦٨). بتصرف يسير.
(^٢) - وذلك لأن المعتزلة يقولون بخلق القرآن، وأما أهل السنة فيقولون بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. الباحث.
(^٣) - المرجع السابق: (١/ ٦٩).
(^٤) -طبقات المعتزلة ص ٧٠ الفرق بين الفرق ص ١٥٤ د، عمر السلامي؛ الإعجاز الفني في القرآن ص ٥٢ - ٦٥
(^٥) -الملل والنحل للشهرستاني: (١/ ٦٨).
(^٦) - الفرق بين الفرق - ص ١٥٤.
(^٧) - ابن النديم؛ الفهرست ٢٦٩ ــ ٢٨٠
(^٨) - طبقات المعتزلة ٦٩
(^٩) - أبو حيان التوحيدي الإمتاع والمؤانسة: (١/ ١٤١).
(^١٠) - العلامة المتبحر، ذو الفنون، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي، صاحب التصانيف. أخذ عن النظام. وروى عن: أبي يوسف القاضي، وثمامة بن أشرس. قال ثعلب: ما هو بثقة. قلت: كان ماجنًا قليل الدين، له نوادر مات سنة خمسين ومائتين. وقال الصولي: مات سنة خمس وخمسين ومائتين. . سير أعلام النبلاء: (١١/ ٥٢٧). بتصرف.
(^١١) - نقلًا عن الإعجاز البياني: (ص: ٣٦٠).
60 / 102