فقال الشعبي: لا والله.
قال الأمير: أفتدري لم أدخلناك؟ ... لتحدث بما رأيت.
ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة، فأمره أن يعطيه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا.
قال الشعبي: فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به: بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابا، وبنظرة من عائشة بنت طلحة!
وكلام العالم المحدث هنا يتمم كلام الأمير المكافح المقدام، كلاهما شاهد على شأن الغزل في ذلك الجيل، حتى ليحسب العالم النظرة من الحسناء جائزة تقرن بعشرة آلاف درهم، وحتى ليحكي الأمير مواقف الشعراء العشاق، ويود أن يتحدث الناس بغرامه، كما يتحدثون بغرام أولئك الشعراء.
ومتى اشتغل مصعب بالغزل هذا الاشتغال، فقل ما شئت فيمن هو أفرغ للمنادمة والسمر وأحاديث الحسان والعشاق، إنهم خلقاء ألا يفرغوا لحظة من هذه الأحاديث، وألا يزالوا بحاجة إلى الشعراء المنشدين يرددونها نظما وغناء، وهي عندهم أحب ما يستحب فيه الترديد.
ذلك شأن الحواضر الحجازية، وليست البادية من حولها بأقل غزلا أو نظما في الغزل من الحواضر على اختلافها، وإن تباينت الأساليب والآداب.
فلا يفوتنا أن البادية أفرغ للغزل وأرحب به مجالا من الحاضرة، على غير ما يتبادر إلى الذهن من الخطرة الأولى؛ لأن البدوي والبدوية يستعيضان بالغزل عن عشرات من الملاهي الحضرية، التي تدور عليه وتحوم حوله في المدينة الكبيرة.
وإن شئنا أن نعرف حاجة البدو إليه، فلنذكر أنواع الفنون التي يستغرقها الحضريون في صدد العلاقات بين الرجل والمرأة ولا يتاح نظيرها لأبناء البادية.
فالمسارح، والأندية، ودور الصور المتحركة، والقصص المطبوعة، والمراقص، والمنازه التي يشترك فيها الرجال والنساء، والأغاني، والقصائد، وفروع كثيرة من التصوير والنحت والنقش والزينة - كلها معارض لتمثيل الغزل بأنواعه في الحاضرة، ولا يقابلها في البادية إلا غزل الشاعر بالحسناء، وما ينسج حوله من الأحاديث والدسائس والوشايات.
Unknown page