عصر جميل
عاش جميل في القرن الأول للهجرة.
وهو قرن حافل بأحداث السياسة، تحولت فيه الدولة الإسلامية من نظام إلى نظام، ومن قطر إلى قطر، ومن سيرة إلى سيرة، فخرجت من الخلافة إلى الملك الموروث، ومن الحجاز إلى الشام، ومن بساطة الحياة الدينية إلى بذخ المعيشة الحضرية، التي جمعت بين بقايا حضارة الفرس وبقايا حضارة الروم.
وليس بنا في هذه العجالة أن نسجل حوادث العصر كله، أو نتعقبها من بدايتها إلى نهايتها تعقب تفصيل أو تعقب إجمال، فكل أولئك لا يعنينا فيما نحن فيه إلا من طرف واحد؛ وهو الطرف الذي يتصل بحياة شاعرنا جميل، ومن شابهه من الشعراء في بيئته وزمانه.
وأوجز ما يقال في تلك البيئة: إنها البيئة التي تخرج أمثال جميل من شعراء البادية المحيطين بالحضارة الحجازية، والمتصلين بحواضر الإسلام في مصر والشام.
فالعصر الذي عاش فيه جميل بالحجاز كان عصر استئناف للحياة الحجازية قبل ظهور الدعوة الإسلامية، ولكن على نحو جديد.
وكان المعول الأكبر في الحجاز على حياة المدن التي يقصدها الناس للتجارة وقضاء المناسك السنوية، وقد طال عهد تلك المدن بالتجارة واستقبال القصاد، فاجتمع فيها الثراء بأيدي السراة وأصحاب القوافل والأموال الغادية الرائحة بين رحلة الصيف ورحلة الشتاء، واجتمع مع الثراء ما يتبعه أبدا من الترف واللهو والإباحة وإيثار الدعة والرخاء.
ثم ظهرت الدعوة الإسلامية، فشغلت الناس عن ذلك كله بالجهاد بين المسلمين والمشركين، ثم علت كلمة الدين في عهد النبي - عليه السلام - وفي عهد خلفائه الراشدين، فعز على أصحاب اللهو والترف أن يتمادوا فيما كانوا فيه، فاهتدى منهم من اهتدى، واستتر منهم من بقي على ضلاله، ووجد أكثرهم منصرفا له عن معيشته الأولى في هذه المعيشة الدينية الجديدة، وفي شواغل السياسة والحرب التي كانت تزدحم بها عواصم الدولة الإسلامية، وهي يومئذ عواصم الحجاز.
ثم ارتفعت رقابة الخلفاء الراشدين عن تلك العواصم، وتيسر للمترفين ما كان متعسرا قبل ذلك من ضروب اللهو والمتعة، مع اختلاف محسوس تقضي به رعاية الدين.
وانتقلت الدولة من عواصم الحجاز إلى عواصم الشام، فتفرغ أولئك المترفون لحياة الفراغ التي لا رقابة عليها، وربما تجاوز الأمر قلة الرقابة إلى التشجيع على حياة المجون والبطالة؛ لأن أصحاب الدولة الجديدة كانوا يخشون من أبناء الرؤساء في الحجاز أن ينصرفوا عن حياة الفراغ إلى حياة الجد والطموح، فليس في جدهم وطموحهم أمان للدولة الجديدة، وإنما الأمان لها - كل الأمان - أن يلعبوا ويرتعوا، ويجتمعوا على اللغو والفضول وإيثار الدعة والرخاء.
Unknown page