فاتسع ميدان الغزل حاضرا وباديا، وظهر شعراء النسيب بنوعيه، تغنيا بامرأة واحدة كما يغلب على شعراء البادية، أو تغنيا بالحسان جميعا كما يغلب على شعراء الحاضرة، وتهيأ العصر لطائفة من شعراء المدرستين على رأسهم عمر بن أبي ربيعة يتغنى بحسان مكة وكل حسناء تقبل عليها، وجميل بن معمر يتغنى بصاحبته بثينة ويعيش ويقضي نحبه على هواها. •••
وما فتئت البادية العربية منذ القدم ميدانا فسيحا للقوالين والرواة؛ لأنهم سلاح من أسلحتها ومصلحة من مصالحها وثقافة أدبية تعدل عندها ثقافة الفنون والآداب والتواريخ في أمم الحضارة.
ولها معهم عرف ذو وجهين يجري على الرياء والمداراة، ولا سيما في الغزل والفخر الحماسي. وهما قوام الشعر البدوي أو قوام كل شعر على الفطرة عنيت بحفظه الجماعات الأولى.
فهي تحرم الغزل ببناتها ولكنها تحفظ للأعقاب منظومات شعرائها، ولو كان عرفها في هذا الباب ذا وجه واحد لما بقيت لنا قصيدة من قصائد العشاق ولا خبر من أخبارهم، ولا قصة من قصص الشعراء الواصفين والحسان الموصوفات.
ولكنهم كما رأيناهم قد عنوا بكل كلمة قالها شاعر في حسناء وبكل مساجلة بين عاشقين كأنها من وثائق التاريخ التي لا تنسى، وما ذاك لأنهم يحبون الرياء أو يقصرون في كراهة المحظورات، فإنهم في الواقع يبلغون من كراهتها أقصى ما في وسعهم أن يبلغوه، ولكنهم يفعلون ذلك؛ لأن بواعث الحب في الفطرة الإنسانية أقوى من أن يكبحها العرف أو يقضي فيها بقضاء واحد، فلا بد من التجوز والإغضاء، أو لا بد هنا من عرف ذي وجهين.
أما الفخر الحماسي فموضع الرياء فيه مع شعرائهم أنهم يزدرون الشاعر ويفخرون بكلامه، فربما ارتفعت قبيلة بكلام شاعر، وهو بينهم في مكان غير رفيع، وربما كان تحريمهم زواج الفتاة بمن ينظم فيها الغزل ضربا من ازدراء الشعراء، كما كان ضربا من حماية العرض ومنع الذمار. إلا أنهم في الفخر كانوا أصرح منهم في الغزل والنسيب؛ فربما اجتمعت القبائل علانية لسماع شاعرين يتراجزان ويتناجزان، ويذكران الأعراق والأوطان، ولم تأذن بإعلان الغزل على هذا النحو ولا بتناقله بينهم إلا من وراء أذن السامع وعين المشيح.
وقد كان لجميل حظه الوافي من الحالين في الغزل والفخر على السواء، فسارت الركبان بأحاديث هواه و«تجمعت الأعاريب أرسالا» لسماع أراجيزه في الفخر بذويه، وخرج من حلبة الفن بنصيبين متناقضين: فأما شخصه فقد جنى عليه شعره، وحال غزله بينه وبين صاحبته على ما كان له بين قومه من مكانة وثراء، وأما شعره فقد ظفر بكل عناية في وسع قبيلة بادية، ولا سيما الغزل الذي منعوه وأوشكوا من أجله أن يقتلوه.
ومهما يكن من عرف العصر والقبيلة فقد كان عرفا يسمح بغزله ويستدعيه ويستبقيه، أو كان عرفا صالحا لتشجيع العاشقين، وإن لم يكن صالحا بينهما لوئام الزوجين.
وتاريخ الآداب لا يجمع عقود الزواج ولا دعوات الزفاف، ولكنه يجمع الشعر الذي قاله العاشق ولو جنى عليه؛ وهكذا صنع بشعر جميل.
من هما؟
Unknown page