بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد الله الذي خلق الإنسان، وجعله أفضل أنواع الأكوان، وصيره نسخة لما أوجده من عوالم الإمكان، أظهر فيه عجائب قدرته القاهرة. وابرز فيه غرائب عظمته الباهرة، ربط به الناسوت باللاهوت، وأودع فيه حقائق الملك والملكوت، خمر طينته من الظلمات والنور، وركب فيه دواعي الخير والشرور، عجنه من المواد المتخالفة، وجمع فيه القوى والأوصاف المتناقضة، ثم ندبه إلى تهذيبها بالتقويم والتعديل، وحثه على تحسينها بعد ما سهل له السبيل، والصلاة على نبينا الذي أوتي جوامع الحكم، وبعث لتتميم محاسن الأخلاق والشيم، وعلى آله مصابيح الظلم، ومفاتيح أبواب السعادة والكرم صلى الله عليه وعليهم وسلم.
أما بعد فيقول طالب السعادة الحقيقية (مهدي بن أبي ذر النراقي) بصره الله نفسه، وجعل يومه خيرا من أمسه: إنه لا ريب في أن الغاية من وضع النواميس والأديان، وبعثة المصطفين من عظماء الإنسان، هو سوق الناس من مراتع البهائم والشياطين، وإيصالهم إلى روضات العليين، وردعهم عن مشاركة أسراء ذل الناسوت، ومصاحبة قرناء جب الطاغوت إلى مجاورة سكان صقع الملكوت، ومرافقة قطان قدس الجبروت، ولا يتيسر ذلك إلا بالتخلي عن ذمائم الأخلاق ورذائلها، والتحلي بشرائف الصفات وفضائلها.
فيجب على كل عاقل أن يأخذ أهبته، ويبذل همته في تطهير قلبه عن أوساخ الطبيعة وأرجاسها، وتغسيل نفسه عن أقذار الجسمية وأنجاسها قبل أن يتيه في بيداء الشقاق، ويهوي في مهاوي الضلالة والهلاكة، ويصرف جده ويجتهد جهده في استخلاص نفسه عن لصوص القوى الأمارة ما دام الاختيار بيده، إذ لا تنفعه الندامة والحسرة في غده.
ثم لا ريب في أن التزكية موقوفة على معرفة مهلكات الصفات ومنجياتها، والعلم بأسبابها ومعالجاتها، وهذا هو الحكمة الحقة التي مدح الله أهلها،
Page 30
ولم يرخص لأحد جهلها، وهي الموجبة للحياة الحقيقية، والسعادة السرمدية، والتارك لها على شفا جرف الهلكات، وربما أحرقته نيران الشهوات.
وقد كان السلف من الحكماء يبالغون في نشرها وتدوينها، وجمعها وتبيينها، على ما أدت إليه قوة أنظارهم، وأدركوه بقرائحهم وأفكارهم، ولما جاءت الشريعة النبوية " على صادعها ألف صلاة وتحية " حثت على تحسين الأخلاق وتهذيبها، وبينت دقائقها وتفصيلها بحيث اضمحل في جنبها ما قرره أساطين الحكمة والعرفان، وغيرهم من أهل الملل والأديان، إلا أنه لما كان ما ورد منها منتشرا في موارد مختلفة، ومتفرقا في مواضع متعددة، تعسر أن يحيط به فلا بد من ضبطه في موضع واحد ليسهل تناوله للكل، فجمعت في هذا الكتاب خلاصة ما ورد من الشريعة الحقة، مع زبدة ما أورده أهل العرفان والحكمة على نهج تقربه أعين الطالبين، وتسر به أفئدة الراغبين.
ونذكر أولا بعض المقدمات النافعة في المطلوب، ثم نشير إلى أقسام الأخلاق، ومبادئها من القوى ونضبطها بأجناسها وأنواعها ونتائجها وثمراتها، ثم إلى المعالجة الكلية لذمائم الأخلاق والجزئية لكل خلق مذموم: مما له اسم مشهور، وما ينشأ عنه من الأفعال المذمومة، وفي تلوه نذكر ضده المحمود، وما يدل على فضله عقلا ونقلا، لأن العلم بفضيلة كل خلق والمداومة على آثاره أقوى علاج لإزالة ضده، ولا نتابع القوم من تقديم الرذائل بأسرها على الفضائل، بل نذكر أولا ما يتعلق بالقوة العقلية من الفضائل والرذائل على النحو المذكور، ما يتعلق بالغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق باثنتين منها أو ثلاث، لأن ذلك أدخل في ضبط الأخلاق، ومعرفة أضدادها، والعلم بمبادئها وأجناسها، وهو من أهم الأمور لطالبي هذا الفن.
وما تعرضت لتدبير المنزل وسياسة المدن، لأن غرضنا في هذا الكتاب إنما هو مجرد إصلاح النفس، وتهذيب الأخلاق، وسميته " بجامع السعادات " ورتبته على ثلاثة أبواب.
Page 31
الباب الأول في المقدمات انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار - تجرد النفس وبقاؤها - التذاذ النفس وتألمها - فضائل الأخلاق ورذائلها - الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف - حصول الملكات بتضاعف الأعمال - العمل نفس الجزاء - القول بتجسد الأعمال والملكات - المضادة بين الدنيا والآخرة - للجبلة والمزاج دخل في جودة الملكات ورداءتها - حقيقة الخلق وماهية الملائكة - الأقوال في تبدل الأخلاق والملكات - شرف علم الأخلاق - تعريف النفس وأساميها باختلاف الاعتبارات - في الإشارة إلى اعتبار مدافعة القوى الأربع - إنقهار النفس بتسخير القوة العالية - اختلاف الصفات يوجب اختلاف النفوس - إئتلاف حقيقة الإنسان من الجهات المتقابلة - حقيقة الخير والسعادة - والجمع بين الأقوال المختلفة فيها - شرائط حصول السعادة - غاية ما يمكن الوصول إليه من السعادة - تقسيم اللذات والآلام - اللذة في الحقيقة هي العقلية دون الحسية - إيقاظ فيه موعظة ونصيحة - التنبيه على أن الفائت لا يتدارك.
فصل انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار إعلم أن الإنسان منقسم إلى سر وعلن وروح وبدن ولكل منهما منافيات وملائمات، وآلام ولذات، ومهلكات ومنجيات.
ومنافيات البدن وآلامه هي الأمراض الجسمانية وملائماته هي الصحة واللذات الجسمانية. والمتكفل لبيان تفاصيل هذه الأمراض ومعالجاتها هو علم الطب. ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه وتشقيه، وصحته رجوعه إلى فضائلها التي تسعده وتنجيه وتوصله إلى مجاورة أهل الله ومقربيه. والمتكفل لبيان هذه الرذائل ومعالجاتها هو (علم الأخلاق).
ثم إن البدن مادي فان، والروح مجرد باق، فإن اتصف بشرائف الصنات كان في البهجة والسعادة أبدا، وإن اتصف برذائلها كان في العذاب والشقاوة مخلدا، ولا بد لنا من الإشارة إلى تجرده وبقائه بعد خراب البدن ترغيبا للطالبين على السعي في تزكيته وحفظه عن الشقاوة الأبدية.
Page 32
فصل في تجرد النفس وبقائها لا ريب في تجرد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن. أما الأول (والمراد به عدم كونها جسما وجسمانية) فيدل عليه وجوه:
(منها) إن كل جسم لا يقبل صورا وأشكالا كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان مثله، والنفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات والمعقولات من دون أن نزول الأولى بورود الأخرى، بل كلما قبلت صورة ازدادت قوتها على قبول الأخرى، ولذلك تزيد القوة على إدراك الأشياء بالرياضيات الفكرية وكثرة النظر، فثبت عدم كونها جسما.
و (منها) إن حصول الأبعاد الثلاثة للجسم لا يتصور إلا بأن يصير طويلا عريضا عميقا وحصول الألوان والطعوم والروائح له لا يتصور إلا بأن يصير ذا لون وطعم ورائحة وهي تحصل للنفس وقوتها الوهمية بالإدراك من غير أن تصير كذلك، وأيضا حصول بعضها للجسم يمنع من حصول مقابله له، ولا يمنع ذلك في النفس بل تقبلها كلها في آن واحد على السواء.
و (منها) أن النفس تلتذ بما لا يلائم الجسم من الأمور الإلهية والمعارف الحقيقية، ولا تميل إلى اللذات الجسمية والخيالية والوهمية، بل تحن أبدا إلى الابتهاجات العقلية الصرفة التي ليس في الجسم وقواه فيها نصيب، وهذا أوضح دليل على أنها غيرهما، إذ لا ريب في أن ما يحصل لبعض النفوس الصافية عن شوائب الطبيعة من البهجة والسرور بإدراك العلوم الحقة الكلية والذوات المجردة النورية القدسية، وبالمناجاة والعبادات والمواظبة على الأذكار في الخلوات مع صفاء النيات لا مدخلية للجسم فيها وقواه الخيالية والوهمية وغيرهما، إذ النفس قد تغفل في تلك الحالة عنها بالكلية، وربما استغرقت بحيث لا تشعر بالبدن ولا تدري أن لها بدنا فكأنها منخلعة عنه، فهذا يدل على أنها من عالم آخر غير عالم الجسم وقواه، إذ التذاذهما منحصر بالملائمات الجزئية التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة.
و (منها) أن النفس تدرك الصور الكلية المجردة فتكون محلا لها، ولا ريب في أن المادي يكون محلا للمجرد إذ كل مادي ذو وضع قابل
Page 33
للانقسام، وكون المحل ذا وضع قابل للانقسام يستلزم أن يكون حاله أيضا كذلك كما ثبت في محله، والمجرد لا يمكن كذلك وإلا خرج عن حقيقته، فالنفس لا تكون مادية وإذا لم تكن مادية كانت مجردة لعدم الواسطة.
و (منها) أن القوى الجسمية الباطنية لا تكتسب العلوم إلا من طريق الحواس الظاهرة إذ ما لم يدرك الشئ بها لم تتمكن الحواس الباطنة أن تدركه وهذا وجداني وضروري. والنفس قد تدرك ما لا طريق الشئ من الحواس إلى إدراكه كالأمور المجردة والمعاني البسيطة الكلية، وأسباب الاتفاقات والاختلافات التي بين المحسوسات، والضرورة العقلية قاضية بأنه لا مدخلية لشئ من الحواس في إدراك شئ من ذلك.
وأيضا تحكم بأنه لا واسطة بين النقيضين، وهذا الحكم غير مأخوذ من مبادئ حسية إذ لو كان مأخوذا منها لم يكن قياسا أوليا، فمثله مأخوذ من المبادئ الشريفة العالية التي تبنى عليها القياسات الصحيحة.
وأيضا هي حاكمة على الحس في صدقه وكذبه وقد تخطئه في أفعاله وترد عليه أحكامه كتخطئته للبصر فيما يراه أصغر ما هو عليه في الواقع أو بالعكس، وفيما يراه مستديرا وهو مربع، أو مكسورا وهو صحيح، أو معوجا وهو مستقيم، أو منكوسا وهو منتصب، أو مختلفا في وضعه الواقعي، وفي رؤيته للأشياء المتحركة على الاستدارة كالحلقة والطوق، وكتخطئته للسمع فيما يدركه في المواضع الصقيلة المستديرة عند الصدى، وللذوق في إدراكه الخلو مرا ومثله، كذا الحال في الشم واللمس، ولا ريب في أن تخطئة النفس الحواس في هذه الإدراكات وحكمها بما هو المطابق للواقع إنما يكون مسبوقا بالعلم الذي لا يكون مأخوذا من الحس، لأن الحاكم على الشئ أعلى رتبة منه فلا يكون علمه الذي هو مناط مأخوذا عنه.
ومما يؤكد ذلك أنها عالمة بذاتها وبكونها مدركة لمعقولاتها. ومعلوم إن هذا العلم مأخوذ من جوهرها دون مبادي، أخر.
و (منها) إنا نشاهد أن البدن وقواه يضعفان في أفعالهما وآثارهما، والنفس تقوى في إدراكاتها وصفاتها، كما في سن الكهولة، أو يكونان قويين في الأفعال مع كونها ضعيفة فيها كما في سن الشباب، فلو كانت جسما أو
Page 34