جامع العلوم والحكم
في
شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
تأليف
زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن أحمد بن رجب
الحنبلي البغدادي
من علماء القرن الثامن الهجري
المتوفى سنة ٧٩٥ هـ
(١ - ٣)
المحقق
الدكتور محمد الأحمدي أبو النور
مدير الأوقاف وشئون الأزهر سابقا
دار السلام
للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
1 / 1
بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِمَة الطَبعَتَين: الأولى والثَانية (^١)
ابنْ رَجَب المُحَدث
وكتَابُ "جَامِع العُلُوم وَالحِكَمِ"
هو زين الدين: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن بن محمد بن مسعود السلامي البغدادي، الحنبلي، المشهور بابن رجب.
ولد ابن رجب عام ست وثلاثين وسبعمائة -ببغداد- وتفتحت براعمه في كنف دوحة علمية باسقة؛ فقد توارثت أسرته العلم، وتصدَّر آباؤه لحمله وأدائه، وتأثَّروا به في أنفسهم، ثم ترجموه عقيدة وسلوكا، وأثَّرُوا به في مجتمعهم، وتفاعلوا به مع الحياة.
* * *
كان جده: أحمد بن الحسن فقيهًا عالما له حلقة علمية ببغداد، يفد إليها طلاب العلم، ورُوَّاد المعرفة.
وابن رجب نفسه يشهد بذلك فيقول:
"قرئ على جدي: أبي أحمد: رجب بن الحسن -غير مرة، ببغداد- وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة".
أما أبوه: أحمد بن رجب فقد نشأ في هذه البيئة العلمية، قرأ بالروايات، وسمع من مشايخها، ورحل إلى دمشق -بأولاده- فأسمعهم بها وبالقدس، وجلس للإقراء بدمشق، وانتُفع به، وكان ذا خير ودين وعفاف، كما ذكر ذلك ابن حجر.
وقد تلمذ لأبيه، وانتفع به، وكان أبوه حريصا على تزويده من مناهل العلم والمعرفة منذ نعومة أظفاره، فكان يصطحبه معه في السماع من الأشياخ، وممن سمع معه منهم: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الخباز، وإبراهيم بن داود العطار.
_________
(^١) تتكامل الدراسة الخاصة عن المؤلف وكتابه -عدا ما هو مذكور بين يدي هذه الطبعة- ونرجو من الله عونه وسداده؛ لتكون في جزء مستقل بمشيئته سبحانه.
1 / 5
ثم رحل معه إلى مصر، فسمع بها من صدر الدين: أبي الفتح الميدومي، وأبي الحرم: محمد بن القلانسي وغيرهما.
ورحل معه كذلك إلى مكة فسمع من الفخر: عثمان بن يوسف.
وكما رافق أباه في حلقات العلم: رافق زين الدين العراقي -شيخ ابن حجر- أستاذ مدرسة تخريج الحديث في عصره. ثم لازم ابن القيم إلى أن مات عام ٧٩٥ هـ.
ووسط هذا الحقل العلمي الخصيب استحصد ابن رجب، واستوى على سوقه، وما لبث أن خرج إلى الحياة يؤدي دوره، ويسدد دَيْنَه، وينهض بمسئوليته نحو الدين والعلم والمجتمع، فكانت حلقاته العلمية، ووعظه السديد، وكانت مؤلفاته العديدة، وآثاره الخالدة، وكانت آراؤه الصائبة، وخلقه القويم!!.
وابن رجب هو علم أسرته الذي رفع في محيط العلم ذكرها، وفرعها الباسق الذي خلَّد على مر العصور أثرها!!.
ولقد استطاع مع هذه الطائفة الجليلة من العلماء الذين تخرج بهم، وتفقه عليهم أن يستوعب مكتبة علمية حفيلة في علوم القرآن، والسنة، والتاريخ، والتصوف، والعقيدة، والفلسفة، والفقه، والأصول، والأدب.
وظهر أثر ذلك كلِّه بيِّنا قويا في مؤلفاته.
فهو عندما يؤلف كتابا يعمِد إلى ما قرأه من مؤلفات، ويأخذ ما يريد، أخذ العليم البصير. ولا تختفي شخصيته وراء ما يأخذ من نقول، وإنما تبرز قوية في التنسيق، والنقد، والمقارنة، والتحليل، والاستنباط، والرأي الشجاع، يجهر به دون مواربة.
وكتابه: "جامع العلوم والحكم" خير مثال لما نقول؛ فهو يشرح فيه خمسين حديثًا من جوامع الكلم، ولكنه يحشِدُ في شرحه لكل حديث: ما يراه واجبَ الذكر من كل ما طوَّف به خلال رحلاته العلمية، أو قراءاته في المصادر المختلفة.
وإذا شئنا أن نتحدث عن المصادر العلمية التي أخرج عنها كتابه هذا ورجع إليها في تأليفه لاستفاض بنا الحديث. وحسبنا أن نشير إلى طرف منها يبين لنا مدى اطلاع الرجل؛ سيما في الناحية الحديثية. محيلين إلى فهرس الكتب آخر الكتاب إن شاء الله.
فمما سيرى القارئ نقولًا منه، أو اختصارا له، أو رجوعًا إليه بين ثنايا الكتاب:
١ - الكتب الستة.
1 / 6
٢ - مسانيد أحمد والطيالسي والبزار.
٣ - المستدرك للحاكم.
٤ - معاجم الطبراني الثلاثة.
٥ - الزهد لابن المبارك.
٦ - الورع للمروزي، والصلاة له.
٧ - الحجة للمقدسي.
٨ - غريب الحديث للخطابي، ومعالم السنن له.
٩ - المواعظ لأبي عبيد، والطلاق له.
١٠ - الشهاب في الحكم والآداب للقضاعي.
١١ - الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة لأبي بكر بن السني.
١٢ - الورع لأسد بن موسي.
١٣ - الأدب لحميد بن زنجويه.
١٤ - المصنف لابن أبي شيبة.
١٥ - مصنف عبد الرزاق.
١٦ - القدر لأبي داود.
١٧ - سنن الدارقطني.
١٨ - السنن الكبرى للبيهقي والقدر له.
١٩ - تفسير الطبري.
٢٠ - الجامع للخلال.
٢١ - المراسيل لأبي داود.
٢٢ - المراسيل للقاسم بن مخيمرة.
٢٣ - المراسيل لأبي المتوكل الناجي.
٢٤ - "الإخلاص والنية" و"الصمت" لابن أبي الدنيا.
٢٥ - الكامل لابن عدي.
٢٦ - صحيح ابن حبان.
1 / 7
٢٧ - التوحيد لابن منده.
٢٨ - البعث لهشام بن عمار.
إلى غير ذلك.
* * *
مؤلفات ابن رجب:
ولابن رجب مؤلفات أخرى عدا "جامع العلوم والحكم" منها ما طبع، ومنها مالا يزال مخطوطًا.
فمن المطبوع:
١ - ذيل طبقات الحنابلة طبع الجزء الأول منه بدمشق سنة ١٣٧٠ = ١٩٥١. وطبع الأول والثاني بالقاهرة بعد ذلك.
٢ - الاستخراج لأحكام الخراج طبع بمصر بالمطبعة الإسلامية بالأزهر سنة ١٣٥٢ = ١٩٣٤. وطبع دار الكتب العلمية بيروت ١٤٠٥ - ١٩٨٥ وطبع مكتبة الرشد بالرياض بتحقيق الأستاذ جندي محمود الهيتي - الطبعة الأولى ١٤٠٩ = ١٩٨٩.
٣ - تحقيق كلمة الإخلاص طبع بمصر سنة ١٣٦٩ وبدمشق ١٣٩٠ هـ = ١٩٦١ م.
٤ - نور الاقتباس في مشكاة النبي ﷺ لابن عباس، طبع بمصر سنة ١٣٦٥ = ١٩٤٦.
٥ - كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة طبع بمصر عام ١٤٠٢ هـ ١٩٨٢ م بتحقيق السيد / محمد أحمد عبد العزيز - المكتبة القيمة بالقاهرة، وعام ١٤٠٤ بتحقيق الدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة - دار الفتح - بالقاهرة - وكان قد طبع بمصر بمطبعة المنار ١٣٤٠ هـ وبالمنيرية ١٣٥١ هـ.
٦ - القواعد الفقهية طبع بمصر ١٣٥٢ هـ.
٧ - مكفرات الذنوب ودرجات الثواب ودعوات الخير - نشر مكتبة التراث الإسلامي بجوار الأزهر وطبع مطبعة التقدم بالمنيرة - القاهرة - الطبعة الأولى سنة ١٤٠٢ هـ.
٨ - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار - تحقيق الدكتور / محمد جميل غازي طبع مطبعة المدني بالعباسية - القاهرة ١٤٠١ هـ وبتحقيق الدكتور الجميلي - بيروت.
٩ - الخشوع في الصلاة تحقيق السيد / حسين إسماعيل حسين / الطبعة الخامسة نشر المكتبة القيمة للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة سنة ١٤٠٧ هـ، ١٩٨٧ م.
1 / 8
١٠ - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف طبع ونشر دار الجيل بيروت لبنان سنة ١٣٤١ هـ وطبع دار ابن كثير بدمشق ١٤١٣ هـ - ١٩٩٢ م بتحقيق الأستاذ ياسين محمد السواس.
١١ - تفسير سورة النصر تحقيق الدكتور / حسن ضياء الدين عتر طبع: دار البشائر الإسلامية - بيروت لبنان - الطبعة الثانية سنة ١٤٠٧ هـ، سنة ١٩٨٦ م وكان قد طبع بلاهور ١٣٣٩ هـ.
١٢ - بغية الإنسان في وظائف رمضان تحقيق الأستاذ / زهير الشاويش نشر المكتب الإسلامي. دمشق وبيروت الطبعة الثانية ١٣٩٨ هـ.
١٣ - اختيار الأولى. شرح حديث اختصام الملأ الأعلى تحقيق وتخريج الأستاذ / حسين الجمل - نشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان - الطبعة الأولى ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م.
١٤ - الفرق بين النصيحة والتعبير. تحقيق السيد / نجم عبد الرحمن خلف - نشر المكتبة القيمة بالقاهرة سنة ١٣٩٩ هـ.
١٥ - شرح علل الترمذي:
أ - تحقيق السيد / صبحي جاسم الحميدي - مطبعة العاني ببغداد - عام ١٣٩٦ هـ نشر وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقية.
ب - بتحقيق ودراسة الأستاذ / الدكتور همام عبد الرحيم سعيد - نشر مكتبة المنار - الأردن - الزرقاء.
١٦ - شرح حديث: "ما ذئبان جائعان". تحقيق وتعليق الدكتور / أسامة محمد عبد العظيم حمزة - دار الفتح بالقاهرة - سنة ١٤٠٤ هـ، سنة ١٩٨٤ م - وقد طبع في لاهور سنة ١٣٢٠ هـ. وفي مصر مع جامع بيان العلم وفضله بالمطبعة المنيرية.
١٧ - "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور" طبع في أم القرى بمكة المكرمة ١٣٥٧ هـ.
١٨ - مورد الظمآن إلى معرفة فضائل القرآن بتحقيق الأستاذ يسري عبد الغني البشري، نشر مكتبة القرآن بالقاهرة ١٩٩٠ م.
ومن المخطوط:
١ - فتح الباري بشرح صحيح البخاري وصل فيه إلى كتاب الجنائز، مخطوط بدار
1 / 9
الكتب المصرية ٣٨٩ حديث تيمور (^١)، وقطعة منه في المكتبة الظاهرية بدمشق ٣٧٧ من ٥٠ - ٢٥٠. (^٢).
٢ - شرح جامع الترمذي (^٣) وتوجد منه قطعة تقع في عشر ورقات بالظاهرية.
٣ - تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال (^٤).
٤ - شرح حديث: "إن أغبط أوليائي عندي … ".
٥ - شرح حديث: "يتبع الميت ثلاث".
٦ - صدقة السر وفضلها.
٧ - مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم والسارق.
٨ - ذم الخمر وشاربها وهي كلها في مكتبة الفاتح باستنبول رقم ٥٣١٨.
٩ - نزهة الأسماع في مسألة السماع مخطوط بدار الكتب المصرية (^٥).
١٠ - "ذم قسوة القلب" - شهيد علي باستنبول رقم ٥٤٣. (^٦).
١١ - "وقعة بدر".
١٢ - "الكشف والبيان عن حقيقة النذور والأيمان".
١٣ - شرح حديث: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما".
والظاهرة الواضحة في آثاره هي العناية بالجانب الحديثي وما يتصل به من علوم والناظر في كتبه يلمس صدق ما قاله فيه ابن حجر:
"وقد مهر في فنون الحديث: أسماء ورجالًا، وعللًا وطرقًا، واطلاعًا على معانيه".
فهو في كتبه التاريخية كذيل طبقات الحنابلة لا ينسى أن يعطي القارئ صورة عن مدى صلة المترجم بالحديث وعلومه؛ فتارة يروي ما وقع له عاليًا من طريق المترجم.
_________
(^١) كما ذكر الدكتور همام عبد الرحيم سعيد في دراسته لآثار ابن رجب راجع تحقيقه لشرح علل الترمذي ١/ ٢٦٦. وقد طبع أخيرًا طبعتين محققتين.
(^٢) كما ذكر السيد صبحي جاسم الحميد في مقدمة تحقيقه ودراسته لشرح العلل الترمذي ص ٧.
(^٣) كما ذكر ابن رجب في شرحه لحديث "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" ص ٥،٦ فقد خرج الحديث وذكر طرقه، ورواته من الصحابة ثم قال: وقد ذكرتها كلها والكلام عليها في كتاب شرح الترمذي … إلخ، وأورد ذلك عنه المباركفوري في مقدمته لتحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ص ١٨٦.
(^٤) كما ذكر ذلك الدكتور همام في الموضع الآنف.
(^٥) وقد طبع أخيرًا بالرياض بتحقيق أم عبد الله بنت محروس العسيلي.
(^٦) راجع شرح علل الترمذي بتحقيق الأستاذ الدكتور همام عبد الرحيم سعيد في هذا وفيما قبله.
1 / 10
كما روى حديث أبي هريرة: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمن وجَنَّةُ الكَافِرِ" (^١) في ترجمة أبي علي البناء ١/ ٤٥.
وتارة ينقل آراء المترجَم في تفضيل بعض كتب السنة على بعض كما ذكر في ترجمة عبد الله الأنصاري رأيه في تفضيل الترمذي على الصحيحين حيث قال:
"إن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينها وفصلها، فيصل إلى فائدته كل أحد من الناس: الفقهاء، والمحدثين، وغيرهم".
* * *
_________
(^١) رواه مسلم في صحيحه ٥٣ - كتاب الزهد والرقاق ٤/ ٢٢٧٢ ح ١ - (٢٩٥٦).
وأحمد في المسند ٢/ ٣٢٣، ٣٨٩، ٤٨٥.
والترمذي في جامعه: ٣٧ - كتاب الزهد: ١٦ - باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ٤/ ٥٦٢ ح ٢٣٢٤ وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وهذا حديث حسن صحيح.
وابن ماجه في السنن: ٣٧ - كتاب الزهد: ٣ - باب مثل الدنيا ٢/ ١٣٧٨ ح ٤١١٣.
والبغوي في شرح السنة ١٤/ ٢٩٧ ح ٤١٠٥.
وابن حبان في صحيحه ٢/ ٣٨ ح ٦٨٦، ٦٨٧ وعنون للأول بقوله: ذكر البيان بأن الله جل وعلا جعل الدنيا سجنًا لمن أطاعه، ومخرقًا لمن عصاه.
وعنون للثاني بقوله: ذكر البيان بأن الدنيا إنما جعلت سجنًا للمسلمين ليستوفوا بترك ما يشتهون في الدنيا من الجنان في العقبى.
كلهم من حديث أبي هريرة.
وانظر المجمع ١٠/ ٢٨٨ - ٢٨٩.
1 / 11
منْهج ابْن رَجَبْ في "جَامِع العُلوُمِ وَالحِكَمِ"
قدم ابن رجب لكتابه فتحدث عن معنى جوامع الكلم، والعنوان الذي وضعه لكتابه، ومن ألف في جوامع الكلم، ثم تحدث عن تدرج عدة الأحاديث الجامعة في كتابه هذا منذ الخطابي .. إلى النووي .. إلى أن أتمها ابن رجب خمسين حديثًا. ثم تحدث عن منهجه في الكتاب، فقال:
"قد أعلمتك أنه ليس غرضي في غير شرح معاني كلمات النبي ﷺ الجوامع، وما تتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع، وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده، ليُعلَمَ بذلك صحته وقوته وضعفه، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ (النووي) وإن لم يكن في الباب غيره، أو لم يكن يصح فيه غيره - نبهت على ذلك كله".
وقد وفى "ابن رجب" بما التزم به في المنهج إلى مدى بعيد، وفي ضوء ما سنحدث عنه، ولعل هذا يلقي لنا مزيدًا من الضوء على الجانب الحديثي عند الرجل.
وسيرى القارئ مع كل حديث من الشرح والتوضيح، ومن النصوص والآثار، ما يدل على سعة اطلاعه، وغزارة مادته.
هذا فضلا عما سيقف عليه من مصادر الأحاديث ودرجتها من الصحة أو الضعف، ودرجة رواتها من العدالة والضبط؛ حتي يكون على بينة من أمر دينه، ويسير في حياته على هدى وعلى بصيرة.
* * *
ملحوظات على ابن رجب:
ومع هذا وذاك فإن القارئ للكتاب سوف يلحظ ملاحظ شتى، منها:
١ - أنه سوف يحس أنه أمام ناصح أمين؛ يرى أن إبلاغ الحقيقة، ونشر العلم: أمانة دينية، ومسئولية كبرى؛ فهو يورد في شرح حديث النصيحة أن من النصيحة لله الإيمانَ بكتابه، وتدُّبرَ آياته، والدعاءَ إليه، وذبَّ تحريفِ الغالين، وطعنِ الملحدين عنه. ومن النصيحة لرسوله: إحياءَ سنته، واستنشارَ علومها ونشرها. ومن النصيحة لأئمة المسلمين: معاونَتَهُم على الحق، وطاعتَهُم فيه، وتذكيرَهم به، وتنبيهَهُم في رفق
1 / 12
ولطف.
ومن النصيحة لعامة المسلمين: إرشادَهُم إلى مصالحهم، وتعليمَهُم أمورَ دينهم ودنياهم، وستْرَ عوراتهم، وسدَّ خلَّاتِهم، ونُصْرَتهم على أعدائهم، والذبَّ عنهم … إلخ.
وما أحسَب إلا أن كتابه هذا تعبير عملي عن قيامه بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
* * *
٢ - ومن هذه الملاحظ أن غرض المؤلف من شرحه ليس مجرد إظهار العلم أو التعالم، إنما هو ابتغاء إصلاح العقيدة، وتقويم السلوك؛ فلا يلجأ في الوعظ إلى زخرف القول، ولا إلى أسلوب القُصَّاص، وإنما يعتمد على الحقائق الموضوعية، والنصوص الصحيحة، ويكامل بين جوانب الموضوع وعناصره، ويزيل ضبابَ الوهم والخرافة، ويسفِرُ عن وجه الحقيقة، ويربِطُ بين الدين والحياة.
٣ - وابن رجب يورد في أواخر شروح الحديث طائفة مناسبة من أقوال عقلاء الصوفية، وحكماء الزهاد؛ تناسب مضمون الحديث. وتصل بصدقها وبلاغتها إلى أعماق النفوس.
٤ - ويوفي موضوع الحديث، فإن كان في اللغة أفاض فيه، وإن كان في الفقه عقد مقارنة بين المذاهب، وإن كان متعلقًا بالطب أورد من أقوال أطباء عصره ما يوضح المعنى، ويكشف عن كنه الحديث.
٥ - قد يقول: روى مسلم في صحيحه كذا .. ويسوق الحديث - فليس معنى هذا دائما أنه يلتزم إيراد الحديث بلفظه؛ بل قد يريد إيراده بمعناه، وسيتبين ذلك للقارئ من تعليقاتي على الأحاديث، ويكون معنى ذلك أن أصل الحديث عند مسلم.
٦ - قد يقول كذلك: قال الخطابي: ثم يسوق قوله .. وليس معنى هذا أيضًا أنه يسوق قوله كما هو، بل قد يختصره، كما سيتبين ذلك في شرح حديث النصيحة.
* * *
1 / 13
مَع ابْن رَجَبٍ في تخريج الحَدِيثِ
استطاع ابن رجب أن يعطينا بين دفتي هذا الكتاب تراثا علميا ضخمًا، وثروة حديثية طائلة.
ولقد رأيناه في تخريج الحديث وما يتعلق ببيان درجته، وضبط رواته وعدالة نقلته، كالملاح الماهر يغوص في محيط المصنفات الحديثية، ويمخر عباب فن الجرح والتعديل، فيستخرج ما يتعلق بالحديث وإسناده من لآلئ ودرر حتى يقف بالقارئ عند مرفأ الحقيقة؛ حيث يستروح الوجدان برد الطمأنينة، ويستمتع العقل بثلج اليقين.
* * *
وابن رجب بما منحه الله من موهبة نادرة، وبما اكتسب من ثقافة حديثية واسعة يرتاد هذا المجال عن تمكن واقتدار.
لكن هل أبرز ابن رجب في كتابه هذا كل ما لديه من خبرة ومن معرفة؟ ثم ما هو الطابع العام له في تخريج هذه الأحاديث الخمسين وما حشد معها من أحاديث وآثار؟
والجواب المنصف عن هذا لا يستبين إلا بالتحليل الدقيق لهذه الأمور التالية، وموقف ابن رجب منها:
١ - تتبع مصادر الحديث لدى من أخرجه في مصنفه.
٢ - عزو الحديث إلى هذه المصادر، ونسبته إلى راويه.
٣ - النص عند كل حديث على درجته، ووقف القارئ على ضعفه أو قوته.
١ - تتبع مصادر الحديث:
في هذه الناحية لم يعن ابن رجب بالنص على مصادر الحديث كلها، فهو عندما يورد حديثًا ما، ويقول مثلا: خرجه "البخاري ومسلم" أو أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، يكون مراده الإشارة إلى مصادر للحديث قد تكون هي المصادر الوحيدة، وقد لا تكون، حيث يُروَى الحديث في مصادر أخرى سواها.
ونستطيع أن نقول، إن ابن رجب لا يجهد نفسه في تخريج الحديث، وتتبع مصادره، أو لا يهتم بالنص على هذه المواضع، وحسبه أن يذكر بعض هذه المصادر، بالقدر الذي يطمئن القارئ إلى أن للحديث أصلا صحيحًا.
ونذكر على سبيل المثال: الحديثَ الذي أورده من رواية أبي موسى الأشعري رضي
1 / 14
الله عنه عن النبي ﷺ من قوله: "مَنْ قَاتَلَ لتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيل الله".
وهو حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. وقد أورده ابن رجب في شرحه للحديث الأول.
ومع هذا فقد اقتصر ابن رجب على ذكر الصحيحين كمصدرين للحديث.
وعامة تخريج ابن رجب -هنا- على هذا النسق .. !
ولم أشأ أن أزيد في تخريج الحديث مصدرًا عما ذكر ابن رجب. ولقد كان ذلك ميسورًا في كثير من الأحاديث. غير أنني اكتفيت -فيما عدا ما دعت إليه الضرورة- بتحقيق وجود الحديث في المصدر الذي عزا إليه، وذلك بتتبع نطاق الحديث فيه حينا، واستقراء المرجع كله أحيانًا.!
ذلك أن ابن رجب لا يريح من يعمل معه، ولا يكفيه مؤنة البحث، فهو يكتفي بعزو الحديث إلى كتاب أو كتب من مصنفات الحديث، فيقول مثلا: "في صحيح البخاري" أو في "مسند أحمد" أو في "معجم الطبراني" حديث كذا.
وتمام الفائدة من هذه الإشارة لا يكون إلا بتحديد الكتاب، والباب والجزء والصحيفة التي يوجد بها الحديث، وهل هو في المصدر الذي يشير إليه أو أنه ليس بهذا المصدر؟ وإذا كان بالمصدر المشار إليه فهل هو من رواية الصحابي الذي عزا إليه المؤلف أو من رواية غيره؟ وإذا كانت النسبة إلى المصدر والراوي صحيحة فهل ما نقله المؤلف بلفظه ومعناه أو بمعناه فقط؟
وتحديد وجود الحديث في المصدر المشار إليه -بالمقارنة والملاحظة- هو ما يقفنا على وجه الحق في ذلك كله.
ومن هنا كان ذلك أمرا واجبا وجوب النص على درجة الحديث ذاتها! فقد يصحح هذا التحقيق خطأ وقع فيه مؤلف الكتاب أو ناسخه أو مؤلفه أو أولئك جميعًا كما حدث في هذا الكتاب:
أخطأ ابن رجب في عزو حديث لصحيح مسلم بينما الحديث في صحيح ابن حبان! وقد تبين هذا من مراجعة صحيح ابن حبان وصحيح مسلم من جهة، ومن كلام ابن رجب نفسه عن الحديث في موطن آخر من جهة أخرى.
وانظر في هذا ما أورده ابن رجب في الحديث الثاني وما علقنا به على هذه المسألة.
1 / 15
وأخطأ ابن رجب في نسبة حديث لمسند أحمد من رواية العرباض بن سارية.
والحديث ليس في مسند أحمد من رواية العرباض، وإنما هو فيه من رواية النواس بن سمعان، وتأكد هذا برواية الترمذي، والنسائي وغيرهما للحديث وبمراجعة مسند أحمد في مسندي النواس والعرباض كليهما، كما بينا ذلك في موضعه.
وأخطأ ابن رجب حين أدمج حديثين في حديث، ووصل بينهما بكلمة من عنده، واعتبرهما بهذه الإضافة حديثًا واحدًا مرويًّا عن النبي ﷺ في صحيح الحاكم!؟ والحاكم لم يروه حديثًا واحدًا، ولا روى هذه اللفظة المقحمة، وإنما رواهما حديثين بإسنادين مختلفين. راجع شرح الحديث الثاني من هذا الجزء، وما علقنا به على هذه المسألة.
ولقد توارد على هذه الأخطاء جميعها ناسخو الكتاب وناشروه من النسخة التي عرضت على المؤلف، وأقرها، وكتب بخطه عليها حتى الطبعة التي صدرت بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ﵀.
وقد اكتفيت بتحقيق المصادر التي نص عليها ابن رجب؛ لهذا، ولئلا أخرج بالكتاب عن الإطار الذي أراده له مؤلفه، ولا عن الحجم الذي أريد له في إخراجه.
٢ - نسبة الحديث إلى راويه وإلى مصدره:
لم يكن لابن رجب في هذا منهج ملتزم، ولا سَنَن متبع؛ فهو تارة ينسب الحديث إلى راويه من الصحابة، وإلى من خرجه من المحدثين، وتارة يقتصر على ذكر الراوي فتط كقوله في هذا الجزء ص: (١٧٤ - ١٧٥).
"وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال: أوَّل مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وهو حديث مذكور في كثير من المصادر كجامع الترمذي، وسنن أبي داود، ومسند الطيالسي.
بيد أن ابن رجب لم يذكر من مصادر الحديث شيئًا.
وقد لا يذكر الراوي ولا المرجع كقوله ص (١٨٩) من هذا الجزء:
وأما المعاملات كالعقود .. فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية كجعل عقوبة الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك فإنه مردود؛ ويدل لهذا أن النبي ﷺ قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا على فلان فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم فقال النبي ﷺ
1 / 16
"الْمائَة شَاةٍ وَالخْادِم رَدٌّ علَيكَ، وَعلَى ابْنِكَ مَائةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ".
وهو حديث متفق عليه من رواية أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني كما ذكرنا في موضعه، ولكن هكذا ساقه ابن رجب!!
وإذا كان الحديث في الصورة التي يذكر فيها الراوي والمرجع محتاجا في تحقيقه إلى الجهد الكبير الذي أشرنا إليه، فكيف به في مثل هاتين الصورتين؟!
وما أعتقد أن هذا أمر يمكن قبوله أو تحمله من محدث كابن رجب؛ مقتدر على البيان في موضع حاجتنا إليه، مستبحر في علم الحديث بنوعيه: الرواية والدراية!
* * *
٣ - النص على درجة الحديث:
في هذه المسألة نجد لابن رجب موقفين:
الأول: خاص بالأحاديث الرئيسة في الكتاب، وهي الخمسون.
والثاني: خاص بالأحاديث الفرعية، وهي ما عدا ذلك.
فنحن نراه في النوع الأول لا يألو فيه جهدًا، ولا يخبأ فيه علما، ولا يستطرد إلى قول لا حاجة بالحديث إليه.
* * *
وإذا كان النووي يكتفي عقب كل حديث أورده بمثل قوله: "أخرجه البخاري ومسلم" أو "أخرجه الترمذي" فابن رجب لا يكتفي بما ذكره النووي، وإنما يتتبع طرق الحديث في المصنفات الحديثية الأخرى، ويورد صيغه عن هذه المصنفات برواية الصحابي الذي ذكره النووي، ثم براوية غيره من الصحابة إن كان للحديث روايات أخرى؛ لما في ذلك من الفوائد الجليلة.
ومثال ذلك ما صنع في الحديث الثاني الذي قال فيه النووي: "رواه مسلم" فقد ذكر ابن رجب عقب هذا أن مسلمًا تفرد به عن البخاري من طريق كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر .. ثم تتبع طرقه، ووجوهه الأخرى في صحيح مسلم، والبخاري وابن حبان، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم، ومسندى البزار، وابن مردويه، وسنن الترمذي .. وهو في هذا كله يقارن، ويحلل، ويستنبط، ويذكر أوجه الخلاف والاتفاق بين هذه الروايات، وما يمكن أن
1 / 17
يستفاد منها، مبينا الصحيح منها وغير الصحيح، ونحو ذلك.
وقد استغرق ذلك من صحيفة ٩٧ إلى ١٠٤.
* * *
وابن رجب مولع بتفصيل ما أجمله النووي:
ففي الحديث التاسع: ص ٢٥١ "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوه … "
قال النووي: "رواه البخاري ومسلم".
وقال ابن رجب: هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة.
وخرجاه من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:
"دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ إِنَّمَا أَهْلَكَ منْ كَانَ قَبْلكُمْ سُؤَالُهُمْ واخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهمْ فإِذَا نَهيْتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعتُم".
وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه.
وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث .. إلخ ..
وساق الرواية، ثم سار في التتبع كما سار في الأحاديث الأخرى.
* * *
وهو حريص على بيان أصح الروايات في الطرق التي يوردها، كما يفعل الترمذي في كثير من أحاديث جامعه:
ففي الحديث السادس: يذكر حديث النعمان بن بشير: "الْحَلالُ بَيِّنٌ والْحَرَامُ بَيِّن .. " ويعقب على قول النووي: "رواه البخاري ومسلم" بقوله: "هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي، عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص. والمعنى واحد أو متقارب.
وقد روى عن النبي ﷺ حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس. وحديث النعمان أصح أحاديث الباب".
وهو -وإن كان ينحو منحى الترمذي في هذا: إلا أنه ينقل منه، ولا يعتمد عليه ولئن كان هذا هو ما اشتهر عن منهج الترمذي في جامعه فإنه لم يزد في التعقيب على
1 / 18
هذا الحديث أن قال:
هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه غير واحد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير".
* * *
وقد كشف ابن رجب في مواطن كثيرة عن السرِّ في انفراد البخاري بهذا الحديث أو ذاك، أو انفراد مسلم برواية حديث آخر دون البخاري.
ففي الحديث السادس عشر المروي عن أبي هريرة ﵁: أنَّ رجلا قال للنبي ﷺ: أَوْصِني. قَالَ: "لا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لا تَغْضَبْ".
قال النووي: رواه البخاري.
وقال ابن رجب: هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة .. ثم قال:
ولم يخرجه مسلم؛ لأن الأعمش رواه عن أبي صالح. واختلف عليه في إسناده .. إلخ وفي الحديث السابع عشر، المروي عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ قال: "إنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كلِّ شيء؛ فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ".
قال النووي: "رواه مسلم".
وقال ابن رجب: "هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس".
وتركه البخاري؛ لأنه لم يخرج في صحيحه لأبي الأشعث شيئًا.
* * *
وقد أبان ابن رجب عن علة ضعف بعض الروايات التي يتابع بها الحديث الأصلي كالرواية التي ذكرها عن سفيان بن عيينة: أن حديث "أمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلَّا الله … " كان في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة.
فقد قال ابن رجب: هذا ضعيف جدًّا، وفي صحته عن سفيان نظر؛ فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله ﷺ في المدينة، وبعضهم تأخر إسلامه.
ثم قوله: "عَصَمُوا مِنِّي دمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ" يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورًا
1 / 19
بالقتال، وبقتل من أبى الإسلام.
وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة .. إلى آخر ما ذكر ابن رجب في هذا التعليل.
أما في الأحاديث الفرعية فإن "ابن رجب" لم يكن معها بهذه القوة، ولا أبان لنا في بعض الأحاديث ما يجب أن يبينه، ولم يكن له في تخريجها منهج ملتزم، فتارة كان يخرج الحديث ويبين درجته، وتارة أخرى كان يهمل البيان مع شدة الحاجة إلى هذا البيان!!.
والحديث الذي يساق إلى القراء والباحثين دون أن تذكر معه درجته ومرجعه: حديث لا يجمل الاعتماد عليه، ولا الاطمئنان إليه، وقد ينظمه المؤلف في سياق يوهم أنه صحيح، فيؤسس عليه قاعدة كلية، أو يستدل به لقضية جزئية، وهو لا يصلح لهذا ولا لذاك؛ لأنه في ذاته غير صحيح.
وحين لا تتوفر للمؤلف براهين الصحة أو الضعف في حديث ما، أو حين تتعارض هذه الأدلة أمامه، فيؤثر التوقف يكون له مندوحة في عدم البيان.
أما حين تتوفر الأدلة، وينتفي التعارض، أو حين ينص المصنف لمرجع ينقل عنه على درجة الحديث سيما في حالة الضعف والوهاء فما أعتقد أن عدم النص في مثل هذه الحال مما يتفق مع واجب الأمانة في النقل، أو بذل النصيحة في العلم.
وابن رجب حين يتصدى لبيان درجة الحديث والحكم عليه يبين بما عهد عنده من طول الباع، وغزارة المادة!.
وما أكثر ما تراه يقول فيما أورد من أحاديث:
"خرج الإمام أحمد بإسناد صحيح" أو "أخرج الطبراني بإسناد فيه نظر" أو "بإسناد ضعيف" أو "بإسناد جيد" أو "خرج ابن عبد البر في التمهيد بإسناد فيه نظر".
إلى غير ذلك من التعبيرات الاصطلاحية، وقد يستطرد فيعلل القول الذي يحكم به على الحديث.
لهذا وذاك طال عجبي من أنه لم يبين درجة بعض الأحاديث التي أوردها مع وجوب بيان تلك الدرجة، سيما عندما يُنَصُّ عليها في المصنَّف الذي ينقل عنه الحديث، أو عندما يكون الحديث في ذاته ضعيفًا!!.
في ص ٧٨ يقول ابن رجب:
1 / 20
خرج الترمذي من حديث كعب بن مالك، عن النبي ﷺ قال:
"مَنْ طَلَبَ الْعلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهاءَ، أو يُجَارِي بِه الْعُلَمَاءَ" .. الحديث.
وإذا رجعنا إلى الترمذي الذي خرج منه الحديث ألفيناه يعقب عليه بما يدل على أنه ضعيف وذلك قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وإسحاق بن يحيى -أحد رواة الحديث- ليس بذلك القوي عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه.
ولم يشر ابن رجب إلى ضعف الحديث ولا نقل عبارة الترمذي.
وفي ص ١١٥ نقل عن ابن ماجه حديثا من رواية عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله ﷺ: "يَا عَدِيُّ! أَسْلِم تَسْلَمْ".
قُلْتُ: وَمَا الإسْلَامُ؟ قَالَ: "أن تَشْهدَ أنْ لا إلَه إلَّا الله، وَتُؤْمِنَ بِالأَقدَار كُلّهَا" الحديث.
ورتب ابن رجب عليه قضية عامة حين قال عقبه: فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام.
مع أن الحديث ضعيف كما ذكر صاحب الزوائد.
وفي ص ١٤٦ أورد عن ابن ماجه حديث ابن عباس مرفوعًا: "أراكم ستشرِّفون مساجدَكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى بِيَعَها".
ولم يبين درجته. وقد ذكر صاحب الزوائد أن إسناده ضعيف؛ لضعف أحد رواته واتهامه بالكذب.
إلى غير هذا وذاك من الأحاديث التي سوف نستدرك في تعليقاتنا عليها ما فات ابن رجب من وقف القارئ على مدى صحتها أو ضعفها.
* * *
1 / 21
طَبَعَاتُ الكِتَابِ
وقد طبع الكتاب في الهند في بلدة "أمر تسر" دون أن تذكر النسخة التي طبع عنها ولا السنة التي طبع فيها. لكن مصححيه: عبد الغني وعبد الواحد الغزنويين قالا في آخر الكتاب:
"ولما لم يتيسر لنا نسخة صحيحة، فالمرجو من الناظرين أن يعذرونا في العثرات ويرحم الله من عفا عن الخطأ والخطل، وسدَّ ما رأى من الخلل، ولنعم ما قيل:
إن تحد عيبًا فسُدَّ الخللا … جلَّ من لا عيب فيه وعلا
ثم طبع -عن هذه الطبعة- في مصر عام ١٣٤٦ هـ بمطبعة مصطفى البابي الحلبي، وهي طبعة تجارية ليس فيها تحقيق لأية لفظة، ولا تصويب لأي خطأ وقع في الطبعة الهندية، وهي في حقيقة أمرها صورة كاملة منها بأوهامها وتحريفاتها، ومن أمثلة ما وقع فيها من التصحيف والتحريف وصوبناه في هذه الطبعة ما يلي:
١ - ص ٤٨ قال النووي، والصواب: قال الزهري.
٢ - ص ٥٠ عن أبىِ سالم الحبشي، والصواب: عن أبي سلام.
٣ - ص ٦٠ طاهر بن مفون، والصواب: ابن مفوز.
٤ - ص ٦٨ زيد الشامي، والصواب: زبيد اليامي.
٥ - ص ٧٩ مرئيات المخلوقين، والصواب: مرآة المخلوقين.
٦ - ص ٩٢ سميط الدوسي، والصواب: سميط السدوسي.
٧ - ص ١٠٢ فهو متهم من الإسلام يتركه، والصواب: فهو سهم من الإسلام يدعه.
٨ - ص ١٢٣ عن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ أنه قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
والصواب: عن العرباض بن سارية أن النبي ﷺ قال: "إِنَّمَا الْمؤمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ حَيثُمَا قِيدَ انْقَادَ". وقال الله ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
٩ - ص ١٣٦ مالك بن مغفل، والصواب: مالك بن مغول.
١٠ - ص ١٤٣ بل همته في حياة المال، والصواب: في جباية المال.
١١ - ص ١٦٣ ولم يوجد في إسقاط ذكر، ثم قيل ثلاثين ولا لأنثى، والصواب: ولم يوجد في الإسقاط ذَكَرٌ تم قبل ثلاثين يوما ولا أنثى …
1 / 22
١٢ - ص ١٧٦ رواه مسلم بن كهيل، والصواب: سلمة بن كهيل.
١٣ - ص ١٩٣ عبيد الله بن الحسن البصري، والصواب العنبري.
١٤ - ص ٢١١ الذي تباح معه الزوجة بدون زوج بعقد جديد وإصابة وبينِ تحريم الطلاق الثلات الذي لا تباح معه وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله، والصواب: الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد بين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله.
١٥ - ص ٢١٢ فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس واتبع حكم الله أحدهما.
والصواب: واتبع علمه في ذلك وأما من لم يعلم حكم الله فيها فهم قسمان أحدهما ..
١٦ - ص ٢١٩ المشابهة: والصواب، المثابة.
١٧ - ص ٢٨٤ "يبنونه"، والصواب: ينسبونه.
١٨ - ص ٢٨٥ "والزمان" والصواب: والضمان.
ثم حقق المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر إلى الحديث الثامن من الكتاب في أربع رسائل انصرفت العناية فيها إلى تحقيق النص مع بعض المباحث الحديثية واللغوية بين الحين والحين. ولم يعط فيها عناية كافية لتخريج الأحاديث.
وكان هذا وذاك دافعًا لي إلى وجوب إخراج الكتاب في ثوب جديد بنهج يوازي أصالته، وجهد يساوق أثره وقيمته، سيما بعد وقوفي على نسخه الخطية.
1 / 23