Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
[الرعد: 12] فوحد المسخر وذكره، كما قال: هذه تمرة وهذا تمر كثير في جمعه، وهذه نخلة وهذا نخل. وإنما قيل للسحاب سحاب إن شاء الله لجر بعضه بعضا وسحبه إياه، من قول القائل: مر فلان يجر ذيله: يعني يسحبه. فأما معنى قوله: { لآيات } فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كله ومنشئه إله واحد، { لقوم يعقلون } لمن عقل مواضع الحجج وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عباده بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبرا لذوي العقول والتمييز دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب وعليهم العقاب.
فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } الآية في توحيد الله، وقد علمت أن أصنافا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة؟ قيل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية دليلا على خالقه وصانعه، وأن له مدبرا لا يشبهه شيء، وبارئا لا مثل له. وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حاج بذلك قوما كانوا مقرين بأن الله خالقهم، غير أنهم يشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان فحاجهم تعالى ذكره فقال إذ أنكروا قوله: { وإلهكم إله واحد } وزعموا أن له شركاء من الآلهة: إن إلهكم الذي خلق السموات، وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما، وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر، وذلك هو معنى قوله: { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } وأنزل إليكم الغيث من السماء، فأخصب به جنابكم بعد جدوبه، وأمرعه بعد دثوره، فنعشكم به بعد قنوطكم، وذلك هو معنى قوله: { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها }. وسخر لكم الأنعام فيها لكم مطاعم ومآكل، ومنها جمال ومراكب، ومنها أثاث وملابس، وذلك هو معنى قوله: { وبث فيها من كل دابة }. وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسير لكم السحاب الذي بودقه حياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم وذلك هو معنى قوله: { وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض }. فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم، وتفرد لهم بها. ثم قال: { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي ندا وعدلا؟ فإن لم يكن من شركائكم من يفعل ذلكم من شيء، ففي الذي عددت عليكم من نعمتي وتفردت لكم بأيادي دلالات لكم إن كنتم تعقلون مواقع الحق والباطل والجور والإنصاف، وذلك أني لكم بالإحسان إليكم متفرد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادا. فهذا هو معنى الآية. والذين ذكروا بهذه الآية واحتج عليهم بها هم القوم الذين وصفت صفتهم دون المعطلة والدهرية، وإن كان في أصغر ما عد الله في هذه الآية من الحجج البالغة، المقنع لجميع الأنام، تركنا البيان عنه كراهة إطالة الكتاب بذكره.
[2.165]
يعني تعالى ذكره بذلك: أن من الناس من يتخذ من دون الله أندادا له، وقد بينا فيما مضى أن الند العدل بما يدل على ذلك من الشواهد فكرهنا إعادته، وأن الذين اتخذوا هذه الأنداد من دون الله يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله، ثم أخبرهم أن المؤمنين أشد حبا لله من متخذي هذه الأنداد لأندادهم. واختلف أهل التأويل في الأنداد التي كان القوم اتخذوها وما هي؟ فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. ذكر من قال ذلك. حدثنا بشر بن معاذ، ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } من الكفار لأوثانهم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره: { يحبونهم كحب الله } مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد. { والذين آمنوا أشد حبا لله } من الكفار لأوثانهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } قال: هي الآلهة التي تعبد من دون الله. يقول: يحبون أوثانهم كحب الله { والذين آمنوا أشد حبا لله } ، أي من الكفار لأوثانهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، { والذين آمنوا أشد حبا لله } من حبهم هم آلهتهم. وقال آخرون: بل الأنداد في هذا الموضع إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله. فإن قال قائل: وكيف قيل كحب الله، وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان متخذو الأنداد يحبون الله فيقال يحبونهم كحب الله؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما نظير ذلك قول القائل: بعت غلامي كبيع غلامك، بمعنى: بعته كما بيع غلامك وكبيعك غلامك، واستوفيت حقي منه استيفاء حقك، بمعنى: استيفائك حقك. فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطب اكتفاء بكنايته في «الغلام» و«الحق»، كما قال الشاعر:
فلست مسلما ما دمت حيا
على زيد بتسليم الأمير
يعني بذلك: كما يسلم على الأمير. فمعنى الكلام إذا: ومن الناس من يتخذ أيها المؤمنون من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. القول في تأويل قوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب }. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة أهل المدينة والشام: { ولو ترى الذين ظلموا } بالتاء إذ يرون العذاب بالياء { أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } بفتح «أن» و«أن» كلتيهما، بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وظلموا أنفسهم حين يرون عذاب الله ويعاينونه، أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب. ثم في نصب «أن» و«أن» في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله لأقروا. ومعنى ترى: تبصر أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ إذا فتحت «أن» على هذا الوجه متروكا قد اكتفي بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح أن على قراءة من قرأ: { ولو ترى } بالتاء. والوجه الآخر في الفتح، أن يكون معناه: ولو ترى يا محمد إذ يرى الذين ظلموا عذاب الله، لأن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب، لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف اللام فتفتح بذلك المعنى لدلالة الكلام عليها. وقرأ ذلك آخرون من سلف القراء: { ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب } بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا حين يعاينوا عذاب الله لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه بعد تمام الخبر الأول، فقال: إن القوة لله جميعا في الدنيا والآخرة دون من سواه من الأنداد والآلهة، وإن الله شديد العذاب لمن أشرك به وادعى معه شركاء وجعل له ندا. وقد يحتمل وجها آخر في قراءة من كسر «إن» في «ترى» بالتاء، وهو أن يكون معناه: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذاب، يقولون: إن القوة لله جميعا، وإن الله شديد العذاب. ثم تحذف القول وتكتفي منه بالمقول. وقرأ ذلك آخرون: { ولو يرى الذين ظلموا } بالياء { إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } بفتح الألف من أن وأن، بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذاب الله الذي أعد لهم في جهنم لعلموا حين يرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، إذ يرون العذاب. فتكون «أن» الأولى منصوبة لتعلقها بجواب «لو» المحذوف، ويكون الجواب متروكا، وتكون الثانية معطوفة على الأولى وهذه قراءة عامة القراء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن تأويل قراءة من قرأ: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } بالياء في يرى وفتح الألفين في «أن» و«أن»: ولو يعلمون، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم، فإذا قال: «ولو ترى»، فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كسر «إن» على الابتداء إذا قال : «ولو يرى» جاز، لأن «لو يرى»: لو يعلم، وقد يكون «لو يعلم» في معنى لا يحتاج معها إلى شيء، تقول للرجل: أما والله لو يعلم ولو يعلم، كما قال الشاعر:
إن يكن طبك الدلال فلو في
سالف الدهر والسنين الخوالي
Unknown page