296

Jamic Bayan

جامع البيان في تفسير القرآن

قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس فخبران لا تثبت بهما حجة لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها. والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل، فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاد فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنون بها فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدي به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه، فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليك بذلك إليه فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" " إن الله حرم مكة "

لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به، دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاء والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، لزم العباد فرضه دون غيره. فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين، أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" إن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر "

وخبر جابر وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

" اللهم إن إبراهيم حرم مكة "

وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر كما ظنه بعض الجهال. وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها، وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه. وقول إبراهيم عليه السلام:

ربنآ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم

[إبراهيم: 37] فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلائه من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك. وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر }. وهذه مسألة من إبراهيم ربه أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات دون كافريهم. وخص بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده ، والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر، خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر، وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلا. وأما «من» في قوله: { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } فإنه نصب على الترجمة، والبيان عن الأهل، كما قال تعالى:

يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه

Unknown page