Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
ولم يجر لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله: { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل في هذه الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم. فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب إن كان الخبر عنه صحيحا، مع أن ابتداء الخبر بعد قول: { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } بالواو بقوله: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، وتركه وصل ذلك بأوله بالفاء، وأن يكون: «إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا»، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، أوضح الدلائل على أن الخبر بقوله: «ولا تسأل»، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: «وما تسأل» وفي قراءة ابن مسعود: «ولن تسأل» وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه دون النهي. وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم التاء، وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك قراءته: «ولا تسأل»، بفتح التاء وضم اللام على وجه الخبر بمعنى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك. وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك يرفعهما ما روي عن ابن مسعود وأبي من القراءة لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من ما، ولن يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: { ولا تسأل } وإذا كان ابتداء لم يكن حالا. وأما أصحاب الجحيم، فالجحيم هي النار بعينها إذا شبت وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
إذا شبت جهنم ثم دارت
وأعرض عن قوابسها الجحيم
[2.120]
يعني بقوله جل ثناؤه: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }: وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا، وذلك مما لا يكون منك أبدا، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل، وأما الملة فإنها الدين وجمعها الملل. ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: «لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى }: { إن هدى الله هو الهدى } يعني أن بيان الله هو البيان المقنع والقضاء الفاصل بيننا، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل، وأينا أهل الجنة، وأينا أهل النار، وأينا على الصواب، وأينا على الخطأ وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به. القول في تأويل قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير }. يعني جل ثناؤه بقوله: { ولئن اتبعت } يا محمد هوى هؤلاء اليهود والنصارى، فيما يرضيهم عنك من تهود وتنصر، فصرت من ذلك إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة، { ما لك من الله من ولي }. يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به، ولا نصير ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك إن أحل بك ذلك ربك. وقد بينا معنى الولي والنصير فيما مضى قبل. وقد قيل إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.
[2.121]
اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: { الذين آتيناهم الكتاب } فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من أصحابه: ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { الذين آتيناهم الكتاب } هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة، فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، والتصديق بما جاء به من عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فاولئك هم الخاسرون } قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون. وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله، وتأولهم إياه على غير تأويله، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر، فيكون قوله: { الذين آتيناهم الكتاب } موجها إلى الخبر عنهم، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه في الآية قبلها والآية بعدها، وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: { الذين آتيناهم الكتاب } الذي قد عرفته يا محمد، وهو التوراة، فقرءوه واتبعوا ما فيه، فصدقوك وآمنوا بك، وبما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حق تلاوته. وإنما أدخلت الألف واللام في «الكتاب» لأنه معرفة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به. القول في تأويل قوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته }. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: { يتلونه حق تلاوته } فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، وعبد الأعلى، وحدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا ابن أبي عدي جميعا، عن داود ، عن عكرمة، عن ابن عباس: { يتلونه حق تلاوته } يتبعونه حق اتباعه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة بمثله. وحدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة بمثله. حدثني الحسن بن عمرو العبقري، قال: حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: { يتلونه حق تلاوته } قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: { يتلونه حق تلاوته } فذكر مثله إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا المؤمل، قال: ثنا سفيان قال: ثنا يزيد، عن مرة، عن عبد الله في قول الله عز وجل: { يتلونه حق تلاوته } قال: يتبعونه حق اتباعه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: قال عبد الله ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود في قوله: { يتلونه حق تلاوته } أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا الزبيري، قال: ثنا عباد بن العوام عمن ذكره، عن عكرمة، عن ابن عباس: { يتلونه حق تلاوته } يتبعونه حق اتباعه. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عباد بن العوام، عن الحجاح، عن عطاء، بمثله. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: { يتلونه حق تلاوته } قال: يتبعونه حق اتباعه. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، وحدثني المثنى، قال: حدثني أبو نعيم ، قال: ثنا سفيان، وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد: { يتلونه حق تلاوته } قال: عملا به. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن قيس بن سعد: { يتلونه حق تلاوته } قال: يتبعونه حق اتباعه ألم تر إلى قوله:
والقمر إذا تلاها
[الشمس: 2] يعني الشمس إذا تبعها القمر. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء وقيس بن سعد، عن مجاهد في قوله: { يتلونه حق تلاوته } قال: يعملون به حق عمله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: يتبعونه حق اتباعه.
Unknown page