277

Jamic Bayan

جامع البيان في تفسير القرآن

[البقرة: 93] وما أشبه ذلك. ومعنى الآية إذا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته فولوا وجوهكم أيها المؤمنون نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي. فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص وذلك أن قوله: { فأينما تولوا فثم وجه الله } محتمل: أينما تولوا في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه الله كما قال ابن عمر والنخعي ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا. ومحتمل: فأينما تولوا من أرض الله فتكونوا بها فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال أبو كريب: قال ثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل: { فأينما تولوا فثم وجه الله } قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد، قال: حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها، قال: الكعبة.

ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت:

ادعوني أستجب لكم

[غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت: { فأينما تولوا فثم وجه الله }. فإذ كان قوله عز وجل: { فأينما تولوا فثم وجه الله } محتملا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: { فأينما تولوا فثم وجه الله } معني به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم. ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى. ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت. ولا هي إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم، او معناها: في حال دون حال إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا. وقد دللنا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام»، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفي حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه غير محتمل بظاهره وباطنة غير ذلك. فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه، ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: { فأينما تولوا فثم وجه الله } بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ. وأما قوله: { فأينما } فإن معناه: حيثما. وأما قوله: { تولوا } فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون تولون نحوه وإليه، كما يقول القائل: وليت وجهي نحوه ووليته إليه، بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة الله. وأما قوله: { فثم } فإنه بمعنى: هنالك. واختلف في تأويل قوله: { فثم } وجه الله فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك: وجهه الذي وجههم إليه.

ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: { فثم وجه الله } قال: قبلة الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني إبراهيم، عن مجاهد، قال: حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها. وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل { فثم وجه الله } فثم الله تبارك وتعالى. وقال آخرون: معنى قوله: { فثم وجه الله } فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم. وقال آخرون: عنى بالوجه: ذا الوجه، وقال قائلوا هذه المقالة: وجه الله صفة له. فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟ قيل: هي لها مواصلة، وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه، فإن وجهه هنالك يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله تبتغون به وجهه. القول في تأويل قوله تعالى: { إن الله واسع عليم }. يعني جل ثناؤه بقوله: { واسع } يسع خلقه كلهم بالكفاية والأفضال والجود والتدبير. وأما قوله: { عليم } فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.

[2.116]

يعني بقوله جل ثناؤه: { وقالوا اتخذ الله ولدا } الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، { وقالوا } معطوف على قوله: { وسعى في خرابها }. وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنفيا ما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم. { سبحانه } يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل: «سبحان الله» بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا، ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن إما في السموات، وإما في الأرض، ولله ملك ما فيهما؟ ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده في ظهور آيات الصنعة فيه. القول في تأويل قوله تعالى: { كل له قانتون }. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { كل له قانتون }: مطيعون. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: { كل له قانتون } قال: مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { كل له قانتون } يقول: كل له مطيعون يوم القيامة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عمن ذكره، عن عكرمة: { كل له قانتون } قال: الطاعة. حدثت عن المنجاب بن الحرث، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قانتون: مطيعون. وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: { كل له قانتون } كل مقر له بالعبودية. وقال آخرون بما: حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { كل له قانتون } قال: كل له قائم يوم القيامة. وللقنوت في كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والآخر القيام، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه.

وأولى معاني القنوت في قوله: { كل له قانتون } الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: بل له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله: { كل له قانتون } خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام». وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بالعبودية عقيب قوله: { وقالوا اتخذ الله ولدا } فدل ذلك على صحة ما قلنا.

[2.117]

يعني جل ثناؤه بقوله: { بديع السموات والأرض } مبدعها. وإنما هو «مفعل» صرف إلى «فعيل»، كما صرف المؤلم إلى أليم، والمسمع إلى سميع. ومعنى المبدع: المنشىء والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:

Unknown page