جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر
مع أهم تعقبات الشيخ على دائرة المعارف الإسلامية
جمعها وأعدها واعتنى بها
عبد الرحمن بن عبد العزيز بن حماد العقل
[الجزء الأول]
Unknown page
الطبعة الأولى
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للمؤلف
رقم الْإِيدَاع: ١٤٧٨٤/ ٢٠٠٥
دَار الرياض
٤٠ ش مُحَمَّد كَمَال - غرب
أَرض اللِّوَاء
خلف مَدِينَة المهندسين - جيزة
ت: ٧١٥٨١٠٠
يُطْلَب مِنْ:
هَاتِف: ٠٥٠٥٤٧٠٢٦٠ الرياض
بريد إلكتروني: [email protected]
1 / 2
الإِهْدَاءُ
إلى حضرة سيدى الوالد ..
عبد العزيز بن حماد بن عبد الله العقل
حُبًّا وَبرًّا وَإِجلالًا
وَتَقْدِيرًا لأَفضَالِه الَّتِى طَوَّقَتْ عُنُقِى
اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ ذَنْبه كلَّه وأَسعِده
وَارفَعْ دَرَجَتَهٌ فِي الدَّارَيْنِ
اللَّهُمَّ آمين
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طلائع الجَمْهَرة
الحمد لله القاهر فوق عباده، بيده ملكوت السموات والأرض، لا إله إلا هو الكبير المُتعال. وصلى الله على البشير الدَّاعينا بترغيبه إلى جنته، والنذير المُبْعِدِنا بترهيبه عن ناره صلاةً تُبْلِغُنا رضاه سبحانه، وتحفُّنَا برَفْرَف رحمته يوم لا ظل إلا ظله، وتُصّفي كَدَرَ أعمالنا يومَ لا يشفع شافع إلا من بعد إذنه، وهو الغفور الرحيم، يُقيل عثرة عباده برأَفته، ويتغَّمد إساءتهم بإحسانه.
وبعد، فقد كان العلّامة المصري الشيخ أحمد محمد شاكر مُتفننًا وعالمًا مُبرَّزًا في علوم كثيرة؛ فهو إمام أهل عصره في علم الحديث، وفقيه مجتهد، ومُفسر رَكين، وعالم باللغة، وبحاثّة ثَبْت مع فكر درّاك وعلم واسع، وريادة فذّة في ميدان تحقيق التراث ونشره.
وقد انتقل إلى رحمة الله في يوم السبت ٢٦ من ذي القعدة سنة ١٣٧٧ هـ الموافق ١٤ من يونيه سنة ١٩٥٨ م، ومضت الأيام، وصَمَتَ أصدقاؤه وتلاميذه ومحبوه فلم يخصوه بدراسة جَادّة، وظَلّ تراثه العلمي مُوزعًا في تَضاعيف المجلات والدوريات المختلفة مع نُدرته ونَفَاسته، واحتفاء العلماء بآراء الشيخ أحمد شاكر وتحقيقاته واضح كل الوضوح، ومع ذلك أطبقوا على العقوق، فلم يقضوا حق العلم والتاريخ (١).
_________
(١) انظر: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (٢/ ٨٩).
1 / 5
حين ذلك صحَّت عزيمتي على جمع مقالات العلّامة أحمد محمد شاكر ونشْرها أداءً لهذا الدين. وجَعلْتُ بين يدي هذه المقالات ترجمة لحياته الشخصية ومسيرته العلمية. وقد رَتبتُ المقالات ترتيبًا موضوعيًا، على نحو ما يلي:
° تحقيق الترات.
° التعريف بالكتب.
° نقد الكتب والمقالات.
° بين أحمد شاكر وحامد الفقي.
° الدفاع عن الحق.
° مسائل علمية.
° تراجم وأعلام.
° مناسبات.
وختمت الكتاب: بأهم تعقبات الشيخ على دائرة المعارف الإسلامية، وهذه الدائرة موسوعة علميّة كتبها لفيف من المستشرقين، رُتبت موادها على حروف المعجم، واشتملت على ألوان متفرقة من العلوم.
وكان للمستشرقين فيها مغالطات ظاهرة، وشُبه وسموم نثروها في تضاعيف هذه الدائرة، وقد شارك الشيخ أحمد شاكر في التعقيب والمناقشة ودفع الشبه ما أمكن. ورغبتُ في إلحاقها بالمقالات لأَهميتها وغفلة أهل العلم عنها.
الحقّ أنّ الشيخ أحمد شاكر حَمَلَ أمانة هذا القلم وصدع بالحق في غير جَمْجَمَة ولا إدْهان فصال وجال في الدفاع عن العربية والإسلام؛ قاوم الدعوة إلي كتابة اللغة العربية بحروف اللاتينية، وقاوم دعاة التجديد من شُذّاذ الآفاق، أولئك الذين يأتون كل حين
1 / 6
ببدعة يزينونها ويزعمون أنّ بها نجاح العرب والمسلمين؛ بدعة التبرج والسفور، وبدعة العامية، وبدعة اللادينية، والانبهار الأعمى بكل ما هو غربي، وكم ذا شغلت هذه البدع - وأمثالُها كثير - هذا الشرقَ المستبَدَّ به عن مطامحه العليا، وأضاعت من مجهوداتٍ جليلةٍ هي ذَوْب القلوب الملتاعة، وحرارة الإيمان الصادق؟ (١)
وهذا الرجل الفذّ نَسِيج وحْدِه فقد كانت جهوده في نشر التراث بَعْثًا جديدًا لذخائر الأمة وإحياءً لثمرات عقولها، ويلحظ المُتَتبَّع لجهوده أن له يدًا باسطة في غير عِلْمٍ من عُلومِ الثقافةِ العربيةِ الإسلاميةِ من فقهٍ وأصولٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وعربيةٍ (٢).
ويوم أن مضى أحمد شاكر لِطَيَّتِه توجّع أخوه محمود شاكر لفقده، وقد كان شريكه ودليله في تحقيق تفسير الطبري، فكتب كلمة عالية تفيضُ صدقًا وإحساسًا: "وبعد، فقد أبليت شبابي وصدرًا من كُهُولتِي، وأخي يومئذٍ رُكنٌ من العلم باذخٌ، آوي إليه إذ حزبني أمرٌ، أو ضاقَ عليَّ مسلك. فأصبحت فإذا الركنُ قد سَاخَ، وإذا أنا قد أُفْرِدْتُ إفرادَ الساري في فَلاة بغير دليلٍ. كان نُورًا يضيءُ الطريق، فلما طَفِئَ، أصبحتُ في ظلماءَ يَنهاني سوادُها أن أسير.
وكنتُ أعمل في هذا التفسير وحدي بعيدًا عنه، هكذا كان. لم يكن يشاركني في قراءة نَصَّه، ولا في كشف مُبْهمِه، ولا في تقويم ما اعوَجَّ من نَهْجِه، ولا في تخِريج ما تولَّيتُه من رواية حديثه. وَقَضيتُ دهرًا وأنا أظنُّ أنَّ الأمر كُلَّه ثَمرةُ جُهْدي وعملي! ! فلمَّا قبضَ الله عبدَه الصالحَ - رحمة الله عليه - وبقيتُ أيضًا أعمل وَحدي بعيدًا عنه
_________
(١) انظر: انظر مجلة الزهراء رمضان وشوال سنة ١٣٤٦ هـ.
(٢) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج ص ٣٢
1 / 7
أيَّ بُعْدٍ! ! فعندئذٍ وجَدتُ مَسَّ الحقَّ في فقده، وإذا هو كانَ يكون مَعِي وإن خِلْتُه بعيدًا، وكانَ يكونُ مُعيني وإن لم أسْتَعِنْه، وكان يكون نورَ طَريقي، وإن خلتُ الطريقَ مُضيئًا من ذات نَفْسِه!
فأَيُّ هَدْي طُمِس عنَّي بفقْدِك! وأَيُّ دليلٍ نأى عنِّي برحيلك! وأَي نورٍ غارَ عني بغيابِك! وأَيُّ حُزْنٍ بَقِي لي بفَنائِك! فيا ابنَ أبي وأمَّي:
لَوْ كَانَ يُنجِي من الرَّدَى حَذَرُ ... نَجَّاكَ مِمَّا أصابَكَ الحَذَرُ
يَرْحَمُكَ الله من أَخِي ثِقةٍ ... لمَ يْكُ في صَفْوِ وُدَّهِ كَدَرُ
فَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ ويَفْنَى العِلمُ فِيِه وَيدْرُسُ الأَثَرُ" (١)
وسيظل هذا الرجل أثرًا ضخمًا في ضمير هذه الأمة بما أسداه للعربية والإسلام من آثار علمية ذاهبة في الندرة والنفاسة، وجهاد صادق في الدفاع عن الحق.
رحمك الله يا أبا الأشبال رحمة واسعة، وبَرَّدَ مضجعك، وجعلَ ما قدمته في ميزان حسناتك يوم تلقاه.
أسأل الله أن يمهد لي طريق الصواب، وأن يغفر لي زلتي، وأن يعينني بحوله وقوته، فقد برئت إليه سبحانه من كل حول وقوة، وهو وحده المستعان، وله الحمد والمنة، ومنه الجزاء والثواب، وإليه المرجع والمآب.
عبد الرحمن بن عبد العزيز بن حمَّاد العقل
_________
(١) انظر: مقدمة محمود شاكر لتفسر الطبري الجزء الرابع عشر.
1 / 8
العلّامة أحمد محمد شاكر
حياته الشخصيّة ومسيرته العلميّة
وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته
المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته
المبحث الثالث: شيوخه وأساتيذه
المبحث الرابع: مذهبه الفقهي وعقيدته
المبحث الخامس: آثاره العلمية
1 / 9
المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته
أحمد بن محمد شاكر بن عبد القادر، من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب ﵄ وسماه أبوه (أحمد شمس الأئمة أبو الأشبال).
ولد بعد فجر يوم الجمعة ٢٩ من جمادى الآخرة سنة ١٣٠٩ هـ، الموافق ٢٩ من يناير سنة ١٨٩٢ م (١).
إلماعة عَجْلى عن أسرة أحمد شاكر
والده هو: الشيخ محمد شاكر، شخصية أزهرية كبيرة، ومن كبار علماء مصر، ولد بجِرْجَا (٢) في منتصف شوال سنة ١٢٨٢ هـ، وحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ التعليم، ثم رحل إلى القاهرة، إلى الأزهر الشريف، فتلقى العلم فيه عن كبار الشيوخ في ذلك العهد، وفي ١٥ رجب سنة ١٣٠٧ هـ، عين أمينًا للفتوى مع أستاذه الشيخ العباسي المهدي (٣)، مفتي الديار المصرية إذ ذاك.
_________
(١) انظر: مجلة المجلة، العدد (١٩) سنة ١٩٥٨ م (ص ١٢٠) من مقال كتبه محمود شاكر، بعنوان: (أحمد محمد شاكر إمام المحدثين).
(٢) قرية بصعيد مصر في غربي النيل لها نهر مفرد وليست بشارفة على النيل. انظر: معجم البلدان (٣/ ٢٢٤).
(٣) هو: محمد العباسي ابن الشيخ محمد أمين الحنفي ابن الشيخ محمد المهدي =
1 / 11
ثم ولي منصب نائب محكمة مديرية القليوبية في ٧ شعبان سنة ١٣١١ هـ، ومكث فيه أكثر من ست سنين. وكانت له جهود في إصلاح أحوال المحاكم الشرعية، ثم ولي منصب قاضي قضاة السودان في يوم ١٠ ذي القعدة سنة ١٣١٧ هـ. وفي سنة ١٩٠٤ م صدر الأمر بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية، فبعث فيها نهضة علمية عمّت أرجاء مصر، فوضع أسس النظام في التعليم، وأحسن اختيار الكتب والمقررات في الدراسة، وجعل من المقررات بعض العلوم الحديثة مع علوم الدين والعربية.
وفي أواخر سنة ١٣٢٤ هـ، نُدب للقيام بأعباء منصب مشيخة الجامع الأزهر بالإضافة إلى عمله في مشيخة الإسكندرية، أربعة أشهر فقط.
وفي سنة ١٣٢٧ هـ صدر الأمر بتعيينه وكيلًا لمشيخة الجامع الأزهر فسار فيه سيرته في الإصلاح، وظَلَّ في منصبه إلى أن أنشئت
_________
= الكبير الشافعي، ولد بالإسكندرية سنة ١٢٤٣ هـ، فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة ١٢٥٥ هـ، فأتم حفظه واشتغل بالعلم وقرأ على الشيخ إبراهيم السقا، وخليل الرشيدي وغيرهما، وولي إفتاء الديار المصرية سنة ١٢٦٤ هـ، وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، ولم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير. ثم أكب على الاشتغال بالعلم خصوصًا الفقه حتى نال منه حظًّا وافرًا، وجلس للتدريس بالأزهر، وباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم، وعدم ممالأة الحكام، توفي ﵀ سنة ١٣١٥ هـ.
انظر: أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث للعلّامة أحمد تيمور باشا (ص ٦٢ - ٧٢).
1 / 12
الجمعية التشريعية سنة ١٩١٣ م، فعُيِّن عضوًا فيها، واعتزل وظائف الحكومة، وتوفي ﵀ سنة ١٣٥٨ هـ (١).
وجده لأمه هو: العلامة الكبير الشيخ هارون بن عبد الرازق بن حسن بن أبي زيد البنجاوي الأزهري، ولد بقرية (بنجا) بالصعيد في يوم الخميس ٢٥ جمادى الأولى سنة ١٢٤٩ هـ، إمام من أئمة العربية، كان شيخ رواق الصعايدة في الأزهر، ثم من أعضاء مجلسه الأعلى، ومن مصنفاته: حسن الصياغة في فنون البلاغة، وعنوان الظرف في علم الصرف، والمبادئ النافعة في تصحيح المطالعة، توفي ﵀ بالقاهرة سنة ١٣٣٦ هـ (٢).
وأمه هي: أسماء هارون عبد الرازق، توفيت - رحمها الله - بعد ظهر يوم الأحد ٢٢ شعبان ١٣٤٤ هـ، بمنزل والده محمد شاكر بشارع رحبة عابدين بالقاهرة (٣).
وأشقاء الشيخ أحمد شاكر ثلاثة ذكور، وثلاث إناث:
أَسنّ الذكور - بعد أحمد - عليّ، وُلد بالقاهرة وقت أذان العصر من يوم السبت ٢٦ ذي الحجة سنة ١٣١١ هـ، ونال شهادته العالِمية من
_________
(١) انظر: محمد شاكر، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، عدد أغسطس ١٩٣٩ م؛ ومقال آخر للأستاذ محمد عبد الغني حسن بعنوان: محمد شاكر، في مجلة الكتاب عدد يولية ١٩٤٦ م.
(٢) انظر: محمد شاكر، مقال كتبه أحمد شاكر في مجلة المقتطف، عدد أغسطس ١٩٣٩ م، والأعلام للزركلي (٨/ ٦١).
(٣) انظر: محمود محمد شاكر قصة قلم، لعايدة الشريف، (ص ٢٢٣).
1 / 13
الجامع الأزهر في يوم الاثنين ١٤ محرم سنة ١٣٣٩ هـ، وعين قاضيًا بالمحاكم الشرعية في رمضان سنة ١٣٤٥ هـ (١)، ثم كان عضوًا عاملًا بالحزب الوطني (٢)، وساهم مع أخيه أحمد في نشر عددٍ من كتب التراث العربي، وله من الأبناء: عبد الرحمن وزهير وعلي (٣).
وثاني الأشقاء محمد، ولا أعرف عنه شيئًا سوى أنه لم يُكمل تعليمه (٤).
وأصغرهم محمود، وقد تَسنَّم ذُرى المجد الأدبي، وطارت شهرته في الآفاق.
ولد ﵀ بالإسكندرية يوم الاثنين، العاشر من المحرم سنة ١٣٢٧ هـ، وفي صيف ذلك العام الذي ولد فيه انتقل إلى القاهرة، حين عُيّن والده وكيلًا للجامع الأزهر. وحصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) القسم العلمي سنة ١٩٢٥ م (٥).
وفي أثناء ذلك، وتحديدًا في بداية العشرينيّات، اتصلت أسباب محمود بأسباب اثنين من كبار أهل العلم بالأدب هما: سيد بن علي
_________
(١) انظر تقدمة أحمد شاكر لجامع الترمذي (١/ ١٠)
(٢) انظر: دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أديب العربية الكبير أبي فهر محمد محمود شاكر بمناسبة بلوغه السبعين (ص ١٤).
(٣) انظر: محمود محمد شاكر قصة قلم لعايدة الشريف (ص ١٦١).
(٤) أفدت ذلك من العلامة أحمّد المانع، وكان ملحقًا ثقافيًا في مصر، ومن المقربين للأديب الكبير العلامة محمود شاكر ﵀.
(٥) انظر: تاريخ نشر التراث العربي، لمحمود الطناحي (ص ١٠٤).
1 / 14
المرصفي (١)، ومصطفى صادق الرافعي (٢)، أما المرصفي فهو إمام العربية في زمانه، وكان له أكبر الأثر في تشكيل ملكة التذوق والنقد لدى محمود (٣).
أما الرافعي فقد ملك على محمود نفسه، ورأى فيه الأديب "الذي شارك الأوائل عقولَهم بِفكْرِهِ، ونَزعَ إليهم بحَنينه، وفَلَجَ أهل عصره بالبيان حين استعجمت قلوبُهم، وارتَضَختْ عَربيتُهم لُكْنَةً غير عربية" (٤).
وطَفَحَ قلب محمود بحب الرافعي فَطَفِقَ يقول: "وتبدت لي إنسانيةُ هذا الرجل كأنها نغمة تجاوب أختها في ذلك الأديب الكاتب الشاعر، وظفرت بحبيب يحبني وأحبه؛ لأن القلب هو الذي كان
_________
(١) هو: سيد بن علي المرصفي الأزهري، إمام من أئمة الأدب واللغة، مصري، كان من جماعة كبار العلماء في الأزهر، من آثاره: رغبة الآمل شرح الكامل. توفي سنة ١٩٣١ م. انظر: الأعلام (٣/ ١٤٧).
وألمع زكي مبارك إلى جوانب من شخصية المرصفي في كتابه البدائع (١/ ٦٤ - ٧٩).
(٢) هو: مصطفى صادق بن عبد الرازق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي، عالم بالأدب شاعر، من كبار الكتاب، أصله من طرابلس الشام، أصيب بصمم، وكان شِعْرُه نقي الديباجة على جفاف في أكثره، ونثره من الطراز الأول، توفي بطنطا سنة ١٣٥٦ هـ، ومن كتبه: وحي القلم، تاريخ آداب العرب، المساكين، وغيرها.
انظر: الأعلام (٧/ ٢٣٥)، و(حياة الرافعي) للعريان، ومقدمة كتاب الرافعي (على السّفود).
(٣) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج، لعمر القيَّام (ص ٣٩).
(٤) تقدمة محمود شاكر لكتاب حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان (ص ٩).
1 / 15
يعمل بيني وبينه، وكان في أدبه مسُّ هذا القلب؛ فمن هنا كنت أتلقى كلامه فأفهم عنه ما يكاد يخفى على من هو أَمثلُ مني بالأدب، وأَقْومُ على العلم، وأبصَرُ بمواضع الرأي" (١).
وفي سنة ١٩٢٦ م، التحق محمود بالجامعة المصرية طالبًا في كلية الآداب: قسم اللغة العربية، لكن مكثه لم يَطُلْ في الجامعة، فقد نشب بينه وبين أستاذه طه حسين (٢) خلاف حول منهج دراسة الشعر الجاهلي، وظهر له مدى انبهار أستاذه بالمناهج المنتزعة من ثقافات أخرى، واتكائه على نتائج البحث الاستشراقي دون إدراك صحيح للعلاقة بين المنهج والثقافة التي أَنْتجتْه (٣).
وأفضى ذلك الخلاف إلى هجرته إلى الحجاز سنة ١٣٤٧ هـ - ١٩٢٨ م، وفي جدة أنشأ بناءً على طلب من الملك عبد العزيز آل سعود مدرسة جدة السعودية الابتدائية، وعمل مديرًا لها، ولكن ما لبث أن عاد إلى القاهرة في أواسط عام ١٩٢٩ م. وانصرف إلى
_________
(١) تقدمة محمود شاكر لكتاب حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان (ص ٨).
(٢) هو: طه بن حسين بن علي بن سلامة، حصل على الدكتوراه من السوربون في فرنسا سنة ١٩١٨ م، ولما عاد إلى مصر عُين محاضرًا في كلية الآداب بجامعة القاهرة. ثم كان عميدًا لتلك الكلية، فوزيرًا للمعارف، وقد كان من دعاة التغريب، ومن ذيول الاستعمار في مصر، توفي سنة ١٣٥٤ هـ.
انظر: الأعلام للزركلي (٣/ ٢٣١)؛ ومقال للدكتور زكي مبارك، بعنوان: الدكتور طه حسين بين البغي والعقوق، من كتاب البدائع (٢/ ١٦٩)؛ والاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين (٢/ ٢٢١).
(٣) انظر: محمود محمد شاكر الرجل والمنهج، للقيَّام (ص ٤٧).
1 / 16
الأدب بكُليّته، فتأهل، وبلغ في العربية المبالغ.
قال إحسان عباس (١): "معرفة محمود بالتراث، وإحاطته به، وتمثله لأبعاده المختلفة، وحضوره في وجدانه أمر كالنهار لا يحتاج إلى دليل" (٢).
وقد حارب أديب العربية الكبير محمود شاكر في جبهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة؛ حارب الدعوة إلى العامية، وكتابة اللغة بحروف لاتينية، وكشف القناع عن وجه الاستشراق، وأهدافه الخفية في مصر (٣).
أما جهوده في نشر التراث فهي من أدل الشواهد على نبالة قدره، وعلو كعبه في العلوم التي عُني بنشرها، وتجلّى ذلك في ما نشره من ذخائر التراث:
طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وتفسير الطبري، وأجزاء من تهذيب الآثار، وجمهرة نسب قريش، وغيرها.
وشقيقات أحمد شاكر: عزيزة، وصفية، وفاطمة الزهراء.
وله من الولد ثلاثة بنين، وست بنات.
_________
(١) من تلاميذ محمود شاكر، وهو من كبار محققي التراث، ونقاد الأدب العربي المعاصر.
انظر: سيرته الذاتية (غربة الراعي).
(٢) دراسات عربية (ص ٩).
(٣) انظر: تاريخ نشر التراث العربي، لمحمود الطناحي (ص ١٠٥ - ١٠٩).
1 / 17
أَسنّ الذكور أسامة، وحصل على الشهادة الجامعية في تخصص العلوم السياسية من كلية التجارة بجامعة فؤاد سنة ١٩٤٥ م، وعمل في المكتب الفني لوزير التجارة، ثم في وزارة الاقتصاد، ثم في مصلحة الشركات، ثم بديوان محافظة القاهرة، ووصل إلى منصب مدير عام الشؤون المالية إلى أن بلغ سن التقاعد. ويقيم الآن بالقاهرة. ويجيد اللغة الإنجليزية، واستفاد منه الشيخ أحمد في ترجمة مقدمة كتاب (الكامل للمبرد) للنسخة المطبوعة في أوربة (١).
الثاني: فرناس، وحصل على الثانوية العامة، ثم التحق بكلية الهندسة، ولم يكمل دراسته، وسافر إلى ألمانيا، وجلس بها أربع سنوات، ثم التحق بهيئة قناة السويس، ووصل إلى منصب كبير مراقبي حركة قناة السويس، ثم انتقل إلى المعاش في سبتمبر ١٩٩١ م، ويقيم بالإسماعيلية.
الثالث: سعود، وحصل على شهادة عليا، ويمتلك محلًّا تجاريًّا في القاهرة.
وبنات الشيخ: كوثر، وتماضر الخنساء، وسبا شجرة الدر، ورباب، ونعمت الله، وفاطمة الزهراء.
وتوفيت شجرة الدر في يناير سنة ١٩٩٠ م، ونعمت الله في سنة ١٩٣٥ م، عليهما رحمة الله (٢).
_________
(١) انظر: مقدمة الجزء الثاني من كتاب الكامل الذي حققه أحمد شاكر.
(٢) انظر: العلّامة الشيخ أحمد شاكر وجهوده في السنة المطهرة للدكتور علاء عنتر (ص ١٠ - ١١).
1 / 18
المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته
لما صدر الأمر بإسناد منصب قاضي قضاة السودان إلى والده الشيخ محمد شاكر، في ١٠ من ذي القعدة سنة ١٣١٧ هـ، رحل بولده إلى السودان؛ فألحق ولده (أحمد) بكلية غوردون، فبقي تلميذًا بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية سنة ١٣٢٢ هـ، فألحق ولده من يومئذٍ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه.
وفي الإسكندرية توجهت همته لطلب العلم، وشغف في أول أمره بحب الأدب والشعر، ثم انصرف في سنة ١٣٢٧ هـ، إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل.
ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلًا لمشيخة الأزهر في ربيع الآخر سنة ١٣٢٧ هـ، التحق أحمد شاكر بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور كتبها، وكانت القاهرة يومئذٍ مستردًا لعلماء البلاد الإسلامية.
وهذا الإكباب الدائم على العلم، واللقاء المتتابع للعلماء؛ هو الذي مهَّد لظهور هذا العالم المتفنن، حتى استطاع أن يقف في منتصف القرن السابق علمًا مشهورًا في غير علم من علوم الإسلام من حديث وفقه ولغة وأدب.
1 / 19
ولما حاز شهادة العالِمية من الأزهر في سنة ١٩١٧ م، عُين مدرسًا بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عُين موظفًا قضائيًا ثم قاضيًا، وظلّ في القضاء حتى أُحيل إلى المعاش في سنة ١٩٥١ م (١).
رحلاته:
في سنة ١٣٤٧ هـ، سافر الشيخ أحمد شاكر إلى مكة لأداء فريضة الحج، وكان يتردد في مكة على المكتبات الخاصة والعامة، وعند الشيخ عبد الوهاب الدهلوي (٢) وجد نسخة جيدة من كتاب (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث) للعلّامة عبد الغني النابلسي (٣)، مكتوبة بخط أحد أحفاد المؤلف، وتاريخ نسخها سنة ١٢١٥ هـ، وكتاب الذخائر من الكتب النادرة جدًا في زمن الشيخ أحمد شاكر، لذلك حرص الشيخ على استعارة النسخة من الشيخ
_________
(١) انظر: مجلة المجلة، العدد (١٩) سنة ١٩٥٨ م مقال كتبه محمود شاكر، بعنوان: (أحمد محمد شاكر إمام المحدثين).
(٢) قال أحمد شاكر عنه: "أحد كبار الأعيان والتجار من الهنود بمكة".
انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة، صحيفة (ض)
(٣) هو: عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي، شاعر، عالم بالدين والأدب، مكثر من التصنيف، ولد ونشأ في دمشق، ورحل إلى بغداد، وعاد إلى سورية، وتوفي سنة ١١٤٣ هـ.
انظر: الأعلام للزركلي ٤/ ٣٢.
1 / 20
الدهلوي من أجل طبعها (١)
وسافر إلى الرياض سنة ١٣٦٨ هـ، وقابل فيها الملك عبد العزيز ﵀ وعرض على مسامعه حاجة العلماء والطلاب إلى اقتناء المسند للإمام أحمد بقيمة ميسرة بعد نفاد الطبعة الأولى من الجزء الأول؛ فأمر بطبعه مرة أخرى (٢).
وسافر إلى الرياض في جمادى الأولى سنة ١٣٧٣ هـ، والتقى بمفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ﵀ وأخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم (٣)، وطلبا منه تصحيح شرح الطحاوية لابن أبي العز وطبعه في مصر (٤).
ومن الرحلات المهمة في حياة الشيخ رحلته إلى دمشق، وزيارته للمكتبة الظاهرية، واطلاعه على ما فيها من نوادر الكتب المطبوعة،
_________
(١) انظر: تقدمة أحمد شاكر لكتاب مفتاح كنوز السنة، صحيفة (ض)
(٢) وقد وفق الله الشيخ محمود ربيع أحد علماء الأزهر، فشرع في طبع الكتاب. كما ذكر ذلك الشيخ أحمد شاكر.
تقدمة شاكر للمسند، حاشية (١/ ١٦).
(٣) هو: عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في الرياض سنة ١٣٥١ هـ، وكان ملازمًا لأخيه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ونائبًا له في رئاسة المعاهد والكليات، توفي سنة ١٣٨٦ هـ.
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون ٣/ ٥٥٣.
(٤) انظر: تقدمة أحمد شاكر لشرح الطحاوية لابن أبي العز (ص ٦).
1 / 21
ونفائس المخطوطات. وحفلت زيارته للمكتبة الظاهرية بلقاء عددٍ من العلماء وطلبة العلم؛ منهم الشيخ ناصر الدين الألباني ﵀ (١).
صلاته وصداقاته:
من الجوانب التي لا تُغفل في مسيرة الشيخ أحمد شاكر العلمية، تلك الصداقات التي انعقدت مع صفوة من الأدباء والعلماء والمحققين والناشرين، والصلات الفكرية مع ثُلّة من دعاة الإصلاح ورجال العلم والأدب في عصره.
وتتبع هذه الروابط يكشف عن جوانب مهمة في شخصية أحمد شاكر.
ومن الأعلام الذين وقفت على أسمائهم ما يلي:
١ - مصطفى صادق الرافعي:
الشيخ أحمد شاكر شديد الإعجاب بالرافعي وبأسلوبه النثري، وكان يصفه بـ "الأستاذ الحجة البليغ" (٢).
٢ - محمد خميس هيبة:
والشيخ محمد من أصدقاء الشيخ أحمد شاكر القدماء.
قال أحمد شاكر: "صديقي وزميلي من أول طلب العلم، العالم
_________
(١) ذكر خبر هذه الرحلة صاحب كتاب الصبح السافر في حياة العلّامة أحمد شاكر (ص ١٧)، نقلًا عن شريط مسجل بصوت الشيخ ناصر الدين الألباني.
(٢) تقدمة أحمد شاكر لمفتاح كنوز السنة، صحيفة (د).
1 / 22