قبل أن تقرأ
شكر واجب
موسكو 1973
قبل أن تقرأ
شكر واجب
موسكو 1973
الجليد
الجليد
تأليف
صنع الله إبراهيم
Unknown page
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
شكر واجب
Unknown page
للدكتورة نادية محمد يوسف الجندي
والدكتور إيمان يحيى
على ملاحظاتهم عند قراءة المخطوطة،
كما يشكر المؤلف الأستاذ عادل الغرباوي
على ما بذله من جهد
في إعداد الرواية للطبع.
موسكو 1973
1
ظهرت القومندانة قرب الظهر على باب الحجرة بوجهها المستدير المتجهم الذي يجلله شعر رمادي. ملأت فتحته بجسدها البدين. قالت إنها ستضم إلينا طالبا روسيا. قلت لها إن هناك ثلاثة أسرة فقط، فأشارت إلى واحد مفكوك وملقى فوق الدولاب. قلت: سني 35 ولا أحتمل التكدس والضجة، ثم إني مفروض أن أقيم في غرفة مفردة كبقية طلاب الدكتوراه. نظرت إلي برهة كأنما تقيس حجمي الضئيل وإذا ما كنت أستحق فعلا غرفة كاملة. قالت:
تفاريش (رفيق)
Unknown page
شكري ،
لادنا (حسنا) ستبقون ثلاثة كما أنتم.
أصلح
ماريو
البرازيلي بعد انصرافها من وضع تقويم العام 1973 المثبت على الحائط قرب الباب. كان نحيفا في طولي، ذا عينين ضيقتين عصبيتين، ويرتدي قميصا صوفيا مخططا وبنطلونا من الجينز. قال وهو يعبث بالحلق المدلى من إحدى أذنيه: إنهم يحرصون على وضع طالب روسي مع الأجانب لينقل أخبارهم. قال
جلال الدينوف ، الطويل ذو الملامح الآسيوية، ابن جمهورية
قرغيزيا ، إحدى جمهوريات
الاتحاد السوفييتي ، كأنما يحاول درء الشبهة عنه: ليس هناك ما يستحق النقل.
ارتديت معطفي ووضعت
الشابكا (القبعة الصوفية) فوق رأسي، ولففت الكوفية حول عنقي، وارتديت الحذاء المبطن بالفراء ذا النعل المناسب للمشي فوق الجليد. تأكدت من وجود القفاز في جيبي، هبطت الدرج النظيف إلى الطابق الأرضي ووجهت التحية إلى
Unknown page
الدجورنايا (حارسة الباب) ثم غادرت
الأبشجيتي (بيت الطلاب). كانت الشمس قد اختفت وهاجمني الثلج المتساقط والهواء البارد. سالت إفرازات أنفي، وأنزلت زائدتي
الشابكا
اللتين تغطيان الأذنين، وارتديت القفاز. مشيت فوق الجليد بحذر. كانت الواجهة الزجاجية
للمجازين (الحانوت) مكدسة - مثل كل الحوانيت - بأهرامات من العلب المعدنية للبن المركز، ولا شيء غيرها. وتمتد في أعلاها لافتة من القماش تحمل هذه العبارة: «نحن ننفذ الخطة. إلى الأمام نحو الشيوعية». وتجمع عند المدخل عدد من السكارى، ضم أحدهم إصبعين فوق ياقة سترته؛ دعوة للاشتراك مع اثنين آخرين في زجاجة فودكا.
لم يكن الاختيار صعبا بسبب محدودية المعروضات. فوقفت في طابور الشراء أتأمل صورة
بريجنيف
المعلقة على الجدار. اختفت إحدى البائعات اللاتي يرتدين معاطف بيضاء. وانهمكت أخرى في حديث طويل مع ثالثة. أخذت إيصالا بما أريده. ثم انتقلت إلى طابور آخر للدفع، وحسبت البائعة ثمن مشترياتي على الحاسبة الخشبية: 310
كبيكات (بيض)، 30
كيفير (لبن رائب)، 463 فودكا و80 خبز. دفعت وأخذت إيصالا بالمبلغ ثم انتقلت إلى طابور ثالث لأستلم مشترياتي.
Unknown page
أردت أن أنتقي الخبز بيدي المجردة فنهرتني العاملة في عنف، واستخدمت شوكة معدنية في التقاط الخبز. غادرت الحانوت ووقفت أتفرج على شرطي دفع رجلا إلى الحائط وأخذ يضربه بوحشية بالغة، ثم ألقى به في سيارة الشرطة.
تجاوزت عجوزا في معطف أبيض وبوط أسود خلف صندوق لفطائر
البيروشكي . فتحته لتبيع واحدة فلفحها البخار المتصاعد منه. اتجهت إلى كشك السجائر الذي يتولاه عجوز أشيب الشعر. عندما أصبحت أمام نافذة الكشك فوجئت بالبائع يغلقها وينهمك في مراجعة عدة صناديق من السجائر طبقا لكشف في يده. كان يفعل ذلك ببطء شديد ويده ترتجف. راجع محتويات الكشف مرة أخرى، ثم عد النقود المتحصلة لديه، ثم بحث عن شيء ما. خلال ذلك تكون طابور خلفي وأخذت أتقافز فوق قدمي لأبث فيهما الدفء. سمعت من يقول إن الحرارة تحت الصفر بعشر درجات. وقال آخر: العجوز يبحث عن قضيبه. وسأل ثالث: هل وجده؟ أجاب الأول: طبعا لا. أخذ البائع يصف أصنافا جديدة من السجائر خلف الزجاج ويضع عليها علامات بأسعارها. وانفلتت إحدى العلامات فأعاد تثبيتها في بطء. وأخيرا فتح النافذة. اشتريت علبة سجائر
تيو 144
وعدت إلى
الأبشجيتي .
كانت يداي قد تجمدتا من البرد، فأسرعت إلى حمام الطابق الأرضي، ووضعتهما تحت الماء البارد كما نصحت بأن أفعل. وشعرت بالألم في أطراف أصابعي عندما بدأت تدب فيهما الحرارة.
قابلت القومندانة وأخذت منها ملاءات نظيفة. كدت أصطدم
بفيرا
اليهودية التي ترتدي دائما جوبات قصيرة. صعدت إلى غرفتي في الطابق الرابع. لم يكن بها أحد. أعددت ثلاث بيضات في المطبخ المشترك للطابق. أكلتها ثم أعقبتها بكوب من الشاي الجورزيني (الجيورجي) الجيد، نسبة إلى جمهورية
Unknown page
جورجيا
السوفييتية. أشعلت سيجارة وسحبت الدخان بقوة فقفز الفلتر في فمي. شعرت بالرغبة في النعاس، فاستلقيت فوق فراشي القائم في الركن الأيمن مقابل فراش
ماريو
في الركن الأيسر. وكان سرير
جلال الدينوف
ملاصقا لسريري يصنع معه خطا مستقيما بحيث يرقد عند أقدامي.
أيقظني
جلال الدينوف
عند دخوله. استند إلى الدولاب الخشبي الصغير وقال:
تفاريش شكري ، أعرف أن المصريين كرماء، وأنا مسلم مثلك وأريد معروفا. قلت: تكلم. قال إن له صديقة روسية في بلده ينوي الزواج بها وليس معها تصريح بالإقامة في
Unknown page
موسكو ، فهل يستطيع إحضارها لتقيم معنا؟ سألته: كيف ستنام؟ قال: في سريري، وسنضع ستارة حولنا. سألته: هل أخذت رأي
ماريو ؟ أجاب: نعم، وافق. أبديت موافقتي، فتهلل وجهه وأخذ يعد حقيبته للسفر كي يحضر صديقته.
علمت منه أن
ماريو
سيسافر بالليل إلى
ليننجراد ، نزلت إلى الطابق الأرضي ووضعت اثنين من
الكبيكات
في جهاز التليفون العمومي. تلفنت
لمادلين
في معهد اللغات. انتظرت حتى تم استدعاؤها ثم دعوتها للمجيء في الغد. سألت: و
Unknown page
ماريو ؟ لا أريد أن يراني. قلت: سيسافر الليلة.
2
حلقت ذقني بالموس السوفييتي الحديدي وأنا أتعجب من أمر السوفييت؛ يصنعون الصواريخ وعاجزون أو غير مهتمين بصناعة موس آدمي. حملت ملابس نظيفة ونزلت إلى الحمام العام في الطابق الأرضي. استحممت بالمياه الساخنة. صعدت إلى حجرتي فألقيت بالمنشفة فوق الشوفاز الساخن لتجف. وفي الخامسة وفدت
مادلين
بعد أن تركت بطاقة هويتها لدى الحارسة. كانت برازيلية في منتصف العشرينيات، دقيقة الحجم، سوداء الشعر، أسنانها العلوية بارزة بعض الشيء. وكنت قد تعرفت بها هي و
ماريو
أثناء دراسة اللغة. احتضنتها وأحضرت إبريق الشاي من المطبخ. أرتني في انفعال أسطوانة
روبرتو كارلوس
البرازيلي الذي يغني بالبرتغالية وأهدتني عطرا رجاليا رشاشا. وضعنا الأسطوانة فوق البيك أب الصغير وأغلقت الباب بالمفتاح. خلعت بنطلوني وبقيت بالسروال الصوفي الداخلي وخلعت هي الكولون السميك الخمري اللون. تحسست فخذيها المبلولين. كنت أسألها عادة عن الفترة الآمنة، ونحسب الأيام التي انصرمت منذ آخر دورة شهرية. لكني نسيت هذه المرة وتذكرت وأنا داخلها. سألتها فلم تنزعج. كانت تستسلم لي دائما قائلة إنها تثق في وإني أعرف كل شيء. حاولت أن تقبلني لكني أبعدت فمي عنها فلم أكن أحب شفتيها. تجنبت ثدييها لأنها لم تكن تشعر بشيء من مداعبتهما. قالت بعد لحظة: اضربني! لم أفعل لأني لم أكن أحب ذلك أيضا.
عاودتني الآلام في قضيبي عندما انتهينا، أما هي فقد تنهدت في ارتياح قائلة: لم أعد أتألم كما كان يحدث مع صديقي
Unknown page
هرمان
بسبب قضيبه الثخين، يبدو أني اتسعت من المران.
3
طرق الباب. سألت :
كتو تام ؟ (من هناك؟) فتحت
لهانز
الألماني الوسيم. في الثلاثين من عمره وأطول مني، يتدلى شعره الأشقر الناعم فوق جبهته مفروقا من الوسط، وله شفتان غليظتان. كان يأتي من
ألمانيا
الشرقية عدة مرات في السنة ليلقى الأستاذ المشرف على رسالته. حياني:
بريفيت . قال إن معه طالبتين روسيتين من ساكنات الطابق الخامس. سألني أن أنضم إليهم لأن
Unknown page
فريد
و
حميد
السوريين اللذين يشاطرانه الغرفة غائبان.
رافقته إلى غرفته حاملا البيك أب وأسطوانة الموسيقى العربية. كانت الفتاتان في بداية العشرينيات:
زويا
نحيفة في طولي أو أطول قليلا ذات وجه طفولي وعينين زرقاوين وشعر أشقر قصير وصدر صغير، متزوجة بمجند في الجيش يعسكر في منطقة بعيدة. والأخرى شقراء أيضا تدعى
تاليا
ذات ملامح عادية.
كانت الغرفة تحوي فراشين متقابلين وثالثا خلف الخزانة الخشبية التي وضعت بعرض الغرفة عند المدخل. وضعت البيك أب فوق المكتب الذي توسط الفراشين أسفل النافذة وأدرت أسطوانة الموسيقى العربية. أنصتت الفتاتان في وجوم، ثم قالت
Unknown page
تاليا : أليس لديك موسيقى راقصة؟ أحضرت من غرفتي ثلاث أسطوانات غربية لموسيقى حديثة. وضعت واحدة فصفقت
زويا .
قدم لنا
هانز
فودكا وقطعة جبن وخبزا متجلدا. صب لنا وجرع كأسه قائلا:
نازدروفيا (نخب الصحة). رفعت كأسي إلى فمي وأخذت منه رشفة. قالت
زويا : ليس هكذا، يجب أن تشرب الكأس كله مرة واحدة. قلت: لا أريد أن أسكر. قالت: سأعلمك كيف تتجنب ذلك: في البداية تشم الفودكا ثم تأخذ رشفة وتبقيها لحظة في فمك، ثم تبتلعها وتجرع الكأس كله وعلى الفور تأكل شيئا. جرعت كأسي حسب تعليماتها ثم تناولت قطعة من الخبز. قالت إن أباها لم يكن يشرب إلا الكحول المركز، ويرفض خلطه بالماء أو أي شيء، وللتأكد من تركيزه يملأ كأسا ويشعل فيها النار، فإذا اشتعلت أطفأها وشرب. قالت
تاليا : الخبز الطازج المصنوع من الدقيق النقي يوجد فقط في أماكن محددة؛
كوتوزوفسكي بروسبكت
قرب منزل
Unknown page
بريجنيف
وحانوت في شارع
جوركي
وسينما الفنون في
الأرباط . اعتذرت عن كأس أخرى، فقال
هانز : يجب أن ننهي الزجاجة، فلا توجد وسيلة لإغلاقها بعد فتحها. أزاحت
زويا
خصلة من شعر رأسها تدلت فوق عينها وثبتتها خلف أذنها. سألتني عن مصير الأراضي التي احتلتها
إسرائيل
في البلاد العربية. قلت إنها لن تتحرر إلا إذا تغيرت الأنظمة الحاكمة. قالت: لكن بعضها يؤمن بالاشتراكية؟ قلت: هذا ما يزعمونه. حكيت لهم عن حرب الاستنزاف التي نخوضها منذ سنوات ضد الاحتلال.
Unknown page
كانت
زويا
تجلس بجوار
هانز
فوق فراشه واستلقت
تاليا
بعرض الفراش المقابل مسندة رأسها إلى الحائط. وجلست أنا على المقعد الوحيد بجوار المائدة. سألتني
تاليا
عما إذا كنت اشتركت في القتال. قلت إني كنت مجندا في أحد المكاتب العسكرية بعيدا عن الجبهة ثم عدت للتدريس في الجامعة، وحصلت على منحة من برنامج التبادل الثقافي مع الاتحاد السوفييتي. اقترحت
زويا
Unknown page
إطفاء النور وأشعلنا شمعة. جذبها
هانز
ليرقصا فاستسلمت لأحضانه. لم أتحرك من مكاني. كان بصري معلقا بوجهها وساقيها العاريتين. تأملتني
تاليا
واجمة. سألتني عن وضع المرأة في
مصر . قلت إنه تحسن كثيرا بعد الثورة؛ فخلعت البرقع والنقاب وأصبحت تمارس كثيرا من المهن، حتى إنها عملت أخيرا محصلة في سيارات الباص. بعد قليل وقفت قائلة: سأذهب لأن عندي دراسة. وخاطبت صديقتها: ألن تأتي معي؟ قال
هانز : دعيها تبقى قليلا. انصرفت
تاليا
وواصل الاثنان الرقص. ثم جلسا فوق الفراش. وساد الصمت بيننا. قمت واقفا مستأذنا في الانصراف وحملت البيك أب وأسطواناتي ومضيت إلى حجرتي.
4
Unknown page
لم أجد مياها ساخنة لحلاقة ذقني فتمتمت ساخطا: يا فتاح يا كريم! عثرت على بيضة وحيدة فأخذتها إلى المطبخ ووضعتها في قليل من المياه على نار البوتاجاز. عدت إلى الغرفة وأنا أغني: هذه بيضتي أنا. على نسق إحدى الأغاني الوطنية التي تقول: «هذه أرضي أنا، وأبي قال لنا مزقوا أعداءنا.»
ترجمت
لماريو
ما قلته بالإنجليزية التي يجيدها. فضحك. سألني ماذا ستفعل الليلة؟ قلت: لم أقرر بعد. وأنت؟ قال إنه سيقضي الليلة مع أبناء جلدته. سألته:
مادلين ؟ قال: هي وصديقتها
إيزادورا
وآخرين.
كانت
إيزادورا
سمراء متفجرة بالأنوثة ذات ملامح أفريقية وكبرياء. وكنت معجبا بها لكني تهيبتها فاهتممت بصديقتها
Unknown page
مادلين . أما هي فارتبطت بشاب من بلدها اسمه
هيكتور . كان وسيما ورياضيا، ويبدو من أبناء العائلات البورجوازية الذين تتاح لهم أوجه كثيرة من النشاط الاجتماعي والرياضي.
خرج
ماريو
إلى المعهد. تقدمت من النافذة. وقفت أتأمل الثلج المتساقط. جذبت المصراع الزجاجي. كان خلفه مصراع زجاجي آخر - به كوة صغيرة تفتح للتهوية - وبينهما مساحة تقوم بدور الثلاجة نودع بها ما لدينا من زبد وجبن و
كلباسا (اللحم البارد). أخرجت الزبد ووضعته على المائدة إلى جوار الخبز الأسود والجبن والمربى. وذهبت إلى المطبخ فغليت مياه الشاي وعدت بها إلى الغرفة. وكما توقعت قرع
فريد
بابي. كان قصير القامة بدينا ذا صوت جهوري وشارب كث. وتعود أن يبدأ يومه بزيارتي وتناول الإفطار معي. جلسنا نأكل وهو يثرثر. حدثني عن زميله
حميد
الذي سينهي دراسته هذا العام وعن
Unknown page
هانز
وعن غزوات الاثنين النسائية المتتابعة. وكالعادة شعرت بصوته يكاد يخرق أذني. وانتابني هبوط مألوف وتمنيت أن ينصرف.
5
انطلقت إلى معهد «التاريخ المعاصر» سيرا على الأقدام رغم الجليد. كانت الشوارع مليئة ببقايا أشجار عيد الميلاد الخضراء الصغيرة، وشرفات البلوكات السكنية مزدانة بالمصابيح الملونة والشعارات: الحزب والشعب متحدان، المجد للعمل، تعيش الشعوب السوفييتية بناة الشيوعية. استوقفني في المدخل حارس بلباس رسمي أسود مزين بأزرار نحاسية. أريته بطاقتي ودفعت الباب الزجاجي. طالعني وجه
لينين
محفورا في الخشب وفوقه لافتة تعلن: «إلى الأمام نحو انتصار الشيوعية». خلعت معطفي وسلمته في ركن المعاطف ومعه الكوفية و
الشابكا .
حضرت درس اللغة الروسية. كانت المعلمة في منتصف الثلاثينيات، وترتدي جوبة قصيرة فوق كولون أبيض. ثم تناولت الغداء في مطعم المعهد: حساء كرنب له رائحة مياه غسيل الملابس، مع خبز أسود و
جولاش
به نتف من اللحم، وشاي.
Unknown page
6
اقترح
هانز
أن نخرج للتنزه مع
زويا
و
تاليا
لأن اليوم سبت. وفي آخر لحظة اعتذرت
تاليا
فصرنا ثلاثة فقط. قال إننا في حاجة إلى فتاة إذ لا يعقل أن نكون اثنين مع واحدة. اتصلت
Unknown page
زويا
بصديقة لها لتأتي معنا فاعتذرت هي الأخرى. قالت:
نيتشيفو ، لا بأس، نذهب نحن.
مضينا سيرا على الأقدام إلى الغابة القريبة تحت الثلج المتطاير. عائلات بكاملها تمارس الانزلاق على الجليد. أطفال في ملابس ثقيلة أقاموا رجلا من الثلج. غطت
زويا
رأسها
بشابكا
صغيرة من الصوف المطرز، كشفت أطراف شعرها الذهبي. لم تكن لغتي الروسية قادرة على ملاحقة الحديث الذي تبادلاه بحماس. اكتفيت بالإنصات إلى صوتها الموسيقي. وأحيانا كان
هانز
يترجم ما قالته إلى الإنجليزية. كانت تتحدث بلهجة طفولية شاعرية عن مظاهر الطبيعة وعن طفولتها. وفجأة دمعت عيناها، واكتشفت أنها تتحدث عن موت
Unknown page