20 «وأما الزيبق فإن طبعه البرد والرطوبة في ظاهره والرخاوة، وباطنه حار يابس صلب بلا شك؛ فظاهره زيبق وباطنه حديد، كما أن باطن الحديد زيبق وظاهره حديد؛ فإن أردت نقل الزيبق إلى أصله، فالوجه أن تصيره أولا فضة، وهو أن تبطن رطوبته وتظهر يبوسته، فإنه يصير حينئذ فضة، وقد تمت المرتبة الأولى، فإن أردت تمام ذلك فاقلب الفضة كما هي حتى يرجع ظاهرها باطنا وباطنها ظاهرا في الطبيعتين جميعا: الفاعلة والمنفعلة، فيكون ظاهرها حارا رطبا ذهبا، وباطنها باردا يابسا حديدا، فهذا ما في الزيبق.»
21 «وأما الفضة فأصلها الأول ذهب، ولكن أعجزها البرد واليبس فأبطنت في باطنها الذهب فظهر الطبع الذي غلب فصار ظاهرها فضة وباطنها ذهبا؛ فإن أردت ردها ذهبا فأبطن برودتها فإن حرارتها تظهر، ثم أبطن بعد ذلك اليبس فإن الرطوبة تظهر وتصير ذهبا؛ فهذا ما في الأجسام كلها من التدابير والسلام.»
هذه مقالة بأسرها نقلناها لك بنصها عن جابر بن حيان؛ لأنها في صناعته أساس ومحور؛ فالأساس - كما ترى - هو أن الطبائع الرئيسية لشتى المعادن - بل للكائنات كافة - هي أربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فلو عرفت طبع الشيء الذي تريد أن تحصل عليه، كان في وسعك أن تلتمسه بتحويل طبائع المادة التي بين يديك حتى ترتد إلى الطبع المقصود؛ وهو كلام بعيد عما تألفه آذاننا اليوم؛ لكننا لو أردنا أن نسبغ عليه من الألوان ما يقربه إلى مفاهيمنا العلمية اليوم - وليس هذا بالأمر الضروري في تاريخ الفكر؛ فليس عالم الأمس مسئولا أمام عالم اليوم مهما يكن بينهما من اختلاف بعيد، لكنه لولا عالم الأمس لما كان عالم اليوم - أقول برغم ذلك إننا لو أردنا أن نسبغ على نظرية جابر - وهي نظرية العلم القديم كله - لونا يقربها إلى عقولنا اليوم، لما كان علينا إلا أن نتذكر أساس النظرية الطبيعية في عصرنا الراهن، وهو أن كل ما تحويه الطبيعة من أشياء مركب من ذرات، ومهما اختلفت هذه الذرات في أوزانها، فمادتها الخامة مؤلفة من ثلاثة أصول: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات؛ أما الأولى فمشحونة بشحنة كهربية سالبة، وأما الثانية فمشحونة بشحنة كهربية موجبة؛ وأما الثالثة فمتعادلة كهربيا. ومن هذه الأصول الثلاثة يتألف كل شيء، حتى ليجوز من الوجهة النظرية أن تحول العناصر بعضها إلى بعض إذا عرفت كيف تزيد هنا وتنقص هناك من هذه الأصول الأولية، حتى تحصل على النسب المطلوبة التي منها يتكون الشيء المقصود؛ فلو كان ابن حبان قد تكلم بلغة الحرارة والبرودة، وعلماء هذا العصر يتكلمون بلغة الكهارب السالبة والموجبة، فقد يكون الفرق أقرب مما تتوهم، إذا ترجمنا الحرارة إلى معناها الحقيقي، وهو الحركة، فالحرارة حركة سريعة في الذرات، والبرودة حركة بطيئة؛ فإذا كانت الحرارة والبرودة - أو إن شئت فقل إذا كانت درجات الحرارة المتفاوتة هي في الحقيقة درجات من الحركة متفاوتة، ثم إذا كانت هذه الحركة بدرجاتها المتفاوتة هي طاقة - إن لم تكن الطاقة الكهربية بذاتها - فيمكن تحويلها إلى طاقة كهربية، إذن فيكاد يتشابه القولان في الطبيعة: القول الذي يقول إن الأصول الأولية للأشياء حركة بدرجاتها المتفاوتة؛ والقول الذي يقول إنها كهرباء - ولم نذكر الرطوبة واليبوسة من الطبائع الأربع التي أخذ بها جابر؛ لأنهما صفتان منفعلتان، أي أنهما تتفرعان عن الصفتين الفاعلتين اللتين هما: الحرارة والبرودة.
ولا يقتصر الإكسير - تحويل الكائنات - على المعادن عند جابر، بل إن الأمر عنده ليمتد إلى الكائنات جميعا؛ فلا فرق بين رد النحاس إلى ذهب، وبين رد المريض إلى إنسان سليم البدن، فكلتا الحالتين تحويل للطبائع الفاسدة القائمة إلى طبائع سليمة؛ ومن هنا كانت العلاقة وثيقة بين الكيمياء والطب؛ فالأولى معالجة المعادن الخسيسة لترد معدنا نفيسا، والثاني معالجة الأبدان المريضة لترتد صحيحة، وأساس العمل في الحالتين واحد، هو ما يطلق عليه اسم «الإكسير».
وسأذكر فيما يلي شيئا مما يرويه جابر عن نفسه فيما كان يؤديه في تطبيب المرضى:
قال مخاطبا سيده
22
الذي كثيرا جدا ما يوجه إليه الخطاب: «وحق سيدي لقد خلصت به (أي بالإكسير) من هذه العلة أكثر من ألف نفس، فكان هذا ظاهرا بين الناس جميعا في يوم واحد فقط.» «ولقد كنت يوما من الأيام بعد ظهور أمري بهذه العلوم، وبخدمة سيدي عند يحيى بن خالد،
23
وكانت له جارية نفيسة لم يكن لأحد مثلها جمالا وكمالا وأدبا وعقلا وصنائع توصف بها، وكانت قد شربت دواء مسهلا لعلة كانت بها، فعنف عليها بالقيام ثم زاد عليها، إلى أن قامت ما لم يكن من سبيل مثلها الخلاص منه، ولا شفاء له، ثم ذرعها مع ذلك القيء، حتى لم تقدر على النفس ولا الكلام البتة؛ فخرج الصارخ إلى يحيى بذلك، فقال لي: يا سيدي، ما عندك في ذلك؟ فأشرت عليه بالماء البارد وصبه عليها، لأني لم أرها ولم أعرف في ذلك من الشفاء للسموم ولقطعه مثل ذلك؛ فلم ينفعها شيء بارد ولا حار أيضا؛ وذلك أني كمدت معدتها بالملح المحمي وغمرت رجليها؛ فلما زاد الأمر سألني أن أراها، فرأيت ميتة خاملة القوة جدا؛ وكان معي من هذا الإكسير شيء، فسقيتها منه وزن حبتين بسكنجبين صرف - مقدار ثلاث أواق - فوالله وحق سيدي لقد سترت وجهي عن هذه الجارية؛ لأنها عادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية؛ فأكب يحيى على رجلي مقبلا لهما، فقلت له: يا أخي، لا تفعل. فسألني فائدة الدواء، فقلت له: خذ ما معي منه، فلم يفعل؛ ثم إنه أخذ في الرياضة والدراسة للعلوم وأمثال ذلك إلى أن عرف أشياء كثيرة، وكان ابنه جعفر أذكى منه وأعرف.» «وكانت لي جارية فأكلت زرنيخا أصفر - وهي لا تعلم - مقدار أوقية، فيما ذكرت، فلم أجد لها دواء بعد أن لم أترك شيئا مما ينفع السموم إلا عالجتها به، فسقيتها منه وزن حبة بعسل وماء، فما وصل إلى جوفها حتى رمت به بأسره وقامت على رسمها الأول ...» «وكنت يوما خارجا من منزلي قاصدا دار سيدي جعفر،
Unknown page