وهذه هو بعينه ما يقوله حين يقول أيضا: «فو الله ما لي في هذه الكتب إلا تأليفها، والباقي علم النبي.»
55 (8) من أخلاق العلماء
لقد نثر ابن حيان في غضون مؤلفاته مبادئ يراها لازمة لكل من يتصدى للبحث العلمي، فهي - إذا شئت - المنهج الخلقي للعلماء؛ ومن هذه المبادئ إنصاف الخصوم، والإنصاف يقتضي كذلك أن ينصف الباحث نفسه إزاء خصومه، فليس من الإنصاف الكامل أن توفي خصومك حقوقهم ثم تفرط في حق نفسك عندهم؛ لأن المسألة بينك وبينهم مسألة حق يراد بلوغه؛ فإذا كنت بصدد خصم علمي في فكرة بعينها، فواجبك أن تعرض حججه كلها، حجة حجة، لا تترك منها شيئا وأنت عامد، ولا تضيف إليها من عندك شيئا وأنت عامد؛ ثم تذكر عن كل حجة ما لها وما عليها من وجهة نظرك. يقول ابن حيان: «إن العالم إذا كان منصفا فإنه ليس ينزل في الأقسام شيئا إلا ذكره، واحتج عليه وله، وأخذ حقه من خصومه، ووفاهم حقوقهم، وإلا فقد وقع العناد حماقة وجهلا.»
56
ومن المبادئ الخلقية للعالم أن يكون مثابرا دءوبا غير يائس من الكشف عن الحقيقة المنشودة؛ فما أكثر ما يقتضي البحث عناء شديدا قد لا يحتمله الباحث، فينفض عنه في قنوط؛ لكن الذي يريد الإحاطة بعلم ما من جميع فروعه إحاطة تتيح له أن يتكلم في أصوله، وجبت عليه - كما يقول جابر - المثابرة التي لا تعرف إلى اليأس سبيلا. ويستشهد جابر من هذا السياق بالآية الكريمة:
ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون
وهو يوجه الخطاب إلى مولاه فيقول: «وقد سمعت ما جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم
في القنوط، وأحذرك أن تصير إلى هذه الحال فتندم حين لا ينفعك الندم، والله أعلم بأمرك ... وحق سيدي عليه السلام إن لم تقبل لتكونن مثل رعاع العامة السفلة الأجناد، لعنهم الله أكثر مما قد لعنهم.»
57
Unknown page